موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
مؤمنون يتناولون القربان الأقدس بأيديهم خلال قداس الأحد بكنيسة القديس فرنسيس كزافييه في باريس، 1 آذار 2020
منذ عدة أيام وانا أصغي إلى تساؤلات بعض المؤمنين حول قرار المدبر الرسولي للبطريركية اللاتينية، رئيس الأساقفة بييرباتيستا بيتسابالا، "إصدار إرشادات أولية" للكهنة والأساقفة والرهبان والراهبات والمؤمنين والحجاج التابعين للطقس اللاتيني، في شأن التقدم من تناول القربان الأقدس باليد فقط، بدلا من الفم مباشرة، إضافة إلى بعض النصائح الأخرى، بسبب تفشي فيروس كورونا المستجد. وبعد تفكير وتأمل ومقارنة وتمييز، شعرت بالحاجة كابن للكنيسة إلى مشاركة المؤمنين في بعض الاعتبارات.
قبل التحدث عن مسألة "الطريقة التي يتم بها تناول القربان الأقدس" اسمحوا لي أن أقول شيئًا عن معنى الشفاء عند يسوع. في العهد الجديد، يأخذ الشفاء مع يسوع بعدًا روحيًا بالدرجة الأولى. والشفاء الروحي، يعني أن تعاد إلى الإنسان ما ندعوها في الحياة الروحية "حالة النعمة أو البرارة" وذلك من خلال "مغفرة خطاياه" قبل أي شيء آخر، أي بتحريره مما يقيده ويعيقه عن أن يستخدم بحرية أكبر "ملكاته" التي وضعها الله فيه لا لغير فائدة. "فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ" (تك 1: 27). إن هذا النوع من الشفاء، لا يستطيع أحد أن يمنحه في الحقيقة سوى الله وحده، لأنه الوحيد القادر أن يعيد للإنسان كرامته الأولى ويمنحه قوة داخلية، تعينه لاحقاً على مواجهة سائر مشاكل حياته "بنفسه"، باستخدام هذه الملكات التي هي هبة الله لحرية الإنسان وكرامته، أي: العقل والمشاعر والإرادة الحرة. "انظر. قد جعلت اليوم قدامك الحياة والخير، والموت والشر" (تثنية الإشتراع 30: 15).
إننا بأجسادنا نقيم في الزمان والمكان، ونحن نخضع بالضرورة لقوانين الطبيعة. كذلك طبيعتا تتأثر بالمناخ المحيط بها. وقد وضع الله في الطبيعة قوانين، كما وائتمن الله الإنسان على الطبيعة. وليس من العدل أن يتدخل الله في هذه القوانين، ويكسر النظام الذي وضعه في كل مرّة. ولهذا فإن المرض هو أمر طبيعي، أمر يحدث، وعلى الإنسان أن يستخدم عقله للتعامل مع هذه البيئة المحيطة بما فيها الأمراض، والأمراض المعدية أحدها.
باستطاعة الله تعالى، طبعًا، التدخل لتبديل وتغيير مجرى الأمور، وقد يحدث هذا الأمر في بعض الأحيان (بما ندعوه "المعجزات" أو "الآيات")، لكنها تبقى استثناءات، لا تحدث دائماً، بل تعلمنا الخبرة انها قلما تحدث، وإذا حدثت فإن لها مغزى وأسبابًا غالبًا ما نحتاج للوقت كي ندركها. لا يصنع الله معجزة مادية إلا لسبب، فالأصل هو عمل الله في النفس، وهو عمل روحي بامتياز، ينعكس بطبيعة الحال على الجسد، للإرتباط الوثيق الموجود بين الروح والجسد، لكنه لا يؤدي دائمًا إلى "أعجوبة مادية ملموسة".
إن القربان الأقدس هو جسد المسيح ودمه الحقيقيان. ولهذا، فإن الكنيسة، منذ بدايتها، قد خصّت هذا الحضور الحقيقي للربّ في وسطها، بأسمى أشكال الإكرام والإجلال والتقدير. وقد تطورت وتنوعت هذه الأساليب، بطبيعة الحال، على مرّ العصور وبتنوع الثقافات والحقب التاريخية. وكذلك تطورت وتنوعت أساليب الاقتراب من المناولة المقدسة. فبينما يتناول غالبية الشرقيين القربان الأقدس في الفم وقوفًا ومن خلال ملعقة، اختار اللاتين، ولمدة طويلة، تناول القربان الأقدس راكعين، أو واقفين، وعلى اللسان مباشرة دون لمس الجسد المقدس باليد.
لكن في بعض الأبرشيات اللاتينية حول العالم، ولظروف خاصة، تقدمت المجالس الأسقفية أحيانًا، وخاصة مع بداية خمسينات القرن الماضي، من الكرسي الرسولي بطلب استثناء على هذه القاعدة، لأسباب خاصة بها، كي يتاح للمؤمنين في أبرشياتهم، وضمن حدود ابرشياتهم ومجالسهم الأسقفية فقط، تناول القربان الأقدس باليد.
وحتى إن سُمح للمؤمنين في هذه الأبرشيات بتناول جسد الرب باليد مباشرة، يبقى من حق المؤمن، في الأوضاع الطبيعية (نحن في أوضاع استثنائية بسبب انتشار الفايروس) الذي يرغب بالتناول وفقًا للطريقة الاعتيادية، أي في الفم مباشرة، القيام بذلك دون أن يمانعه في ذلك خادم السر أو حتى الأسقف المحلي. وأعني بالطريقة الاعتيادية للتناول: بالفم مباشرة، ركوعًا أو وقوفًا. هذا هو الأصل للتناول في الكنيسة اللاتينية، ولا يحتاج المرء "إذنًا" لتطبيق الأصل بل للخروج عنه، أي للاستثناء.
هذه التشريعات تبقى بالطبع "قواعد كنسية" لا ترقى إلى المستوى "العقائدي". ومن خلال السلطة المعطاة للكنيسة، كأم ومعلمة، فإنها تستطيع من خلال أساقفتها تبديل هذه "القواعد ذات الطابع التنظيمي" البحت (disciplinary) بمنح "استثناءات" متى توفرت أسباب رعوية أو إنسانية حقيقية، بل وأن تجعل من هذه الاستثناءات أمراً ملزماً، للمدة التي تراها مناسبة، في بعض الحالات التي تصب في صالح الخير الرعوي للنفوس. والخير الرعوي يشمل كافة جوانب حياة الإنسان: نفسا وجسدًا.
على أساس هذه المبادىء العامة اللاهوتية والكنسية، أصدر المدبر الرسولي للكنيسة اللاتينية في الأرض المقدسة، بموجب ما لديه من سلطة اعتيادية كونه الأسقف المحلي، ودون أية مخالفة لإيمان وقوانين وتقاليد وعقيدة الكنيسة، رسالة صدرت بتاريخ 27 شباط 2020، وجهها إلى الأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات والمؤمنين والحجاج، بدافع من "خطر الإصابة بمرض فيروس كورونا الجديد (COVID-19) . وقد جاء في الرسالة: "يأتي آلاف الحجاج من مختلف أنحاء العالم إلى الأرض المقدسة لزيارة الأماكن المقدسة ورعايانا. في بعض الحالات، يكون الحجاج على اتصال مباشر مع كنائسنا ومجتمعاتنا المحلية. بسبب وضعنا الفريد وبعد الاستماع إلى السلطات المحلية، نصدر بعض الإرشادات الأولية في أبرشية القدس خلال الاحتفال بالذبيحة الإلهية: 1. يتم التقدم لتناول القربان المقدس باليد فقط...الخ".
يعزي سيادة المدبر الرسولي اصدار هذا القرار، إلى "آلاف الحجاج –أي الأجانب- الذين يأتون من مختلف أنحاء العالم ويلتقون بنا ويصلون في كنائسنا". ويوضح بأن وضعنا هو "وضع فريد"، أي استثنائي، متى انتهت الحاجة إليه نعود إلى الأصل وهو المناولة بالفم.
إن الأوضاع الخاصة تتيح لنا الخروج عن القاعدة. وإن التجربة التي نتعرض لها جميعًا تشبه تجربة الفريسيين الذين من محبتهم وامانتهم للشريعة جعلوا الإنسان في خدمة السبت بدلاً من أن يكون السبت في خدمة الإنسان. إن هذه النظرة، دفعت يسوع في لحظة معينة إلى انتهار الفريسيين مشبها إياهم بالذين يطهرون خارج الكأس أما باطنه فمليء بالرجاسة، كالحكم على الآخرين ورشقهم بعبارات تكفيرية، على سبيل المثال.
اعترض الفريسيون في الماضي على يسوع لأن تلاميذه لما جاعوا في أحد أيام السبت أخذوا "يَقْطِفُونَ سَنَابِلَ الحقل وَيَأْكُلُونَها" (متى 12)، وهو بحسب الشريعة اليهودية أمر "لا يحل"، لأنه "كالقيام بعمل" في السبت. اجابهم يسوع مستشهدًا بقصة داود الذي، لحاجته للطعام هو وجنوده، أكلوا من الخبز المقدس، الذي "لا يحل" أكله "في العادة" إلا للكهنة. وقال: "فَلَوْ عَلِمْتُمْ مَا هُوَ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً، لَمَا حَكَمْتُمْ عَلَى الأَبْرِيَاءِ! فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضًا" (متى 12: 7–8). إن ما يريده يسوع هو أن يحررنا من المفهوم الضيق للشريعة، وأن ينبهنا إلى تجربة اعتقاد أنفسنا أكثر ايمانًا من غيرنا لمجرد أننا نحافظ على الشرائع التي نجعلها أحيانًا هدفًا بحد ذاتها، وننسى الهدف الحقيقي لها: الوصول إلى كمال المحبة والرحمة. أعتقد اننا، ورثنا في كثير من الأحيان نوعًا من التدين الذي يشبه إلى حد ما الأساليب الوثنية القديمة. وإننا نعطي في بعض الأحيان في كنائسنا الإنطباع أننا نتعامل على سبيل المثال مع الأسرار وكأنها "تعويذات وطلاسم" ذات مفعول سحري أوتوماتكي، بينما ما يتطلبه الاقتراب من الأسرار في الواقع هو الايمان العميق بالمفعول الروحي له، والذي يفوق في أهميته مجرد التمسك بالنواحي الطقسية. نتعامل أحياناً مع الأسرار، والقربان الأقدس بصورة خاصة، كعقاقير طبية. بينما هو جسد المسيح، الذي يريد أن يسكن في قلوبنا بالإيمان!
لا ننسى أيضًا أن من المهم النظر إلى التاريخ. ففي كنيستنا الأورشليمية، وفي كنيسة القيامة نفسها، كانت المناولة، أقله في فترة معينة خلال القرن الرابع، تتم بقبول جسد الرب على كف اليد، كما تشهد لذلك عظة شهيرة لأسقف القدس، القديس كيرلس الأورشليمي، والتي جاء فيها: "عندما تقترب (من المناولة) لا تقدّم راحتيك بيد ممدودة، ولا أصابعًا غير مجتمعات، ولكن اعمل من يدك اليسرى عرشًا ليدك اليمنى، لأنها ستستقبل الملك، وفي بطن اليد خذ جسد المسيح وقل: "آميــن" بعناية وانتباه، قدّس عينيك بهذا الجسد المقدّس، ثمّ خذه، وانتبه أن لا تفقد شيئاً، وإذا فقدت شيئاّ كأنّك تفقد أحد أعضائك. قل لي إذاً، إذا أعطيت قطع ذهب، ألا تحافظ عليها بعناية؟".
إن الهدف الأول من تناول القربان الأقدس هو الإتحاد بيسوع المسيح وأن نصبح أشباهه. وحين قدّم يسوع القربان لتلاميذه لم يقل خذوا فكلوا وخذوا فاشربوا لشفاء الجسد، بل خذوا فكلوا وخذوا فاشربوا لمغفرة الخطايا، أي لشفاء أمراض النفس.
أشكر الرب على هذه الفرصة التي منحنا إياها لمراجعة أنفسنا وتمحيص اعتقاداتنا لكي ننقيها من كل اعتقاد لا يتناسب وسموها، كي نصل إلى كمال الحقيقة، إلى الإيمان بيسوع المسيح الحي، الإله "المتجسد" والحقيقي.