موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
لا يزوّدنا الكتاب المقدّس بمعلومات دقيقة عن يوم ميلاد المسيح أو سنة ميلاده. ولكن بعد دراسة عميقة للتفاصيل التاريخية الواردة في الإنجيل الطّاهر حسب التسلسل الزمني، بإمكاننا معرفة ذلك التاريخ على وجه التقريب.
تفاصيل ميلاد يسوع موجودة في البشارة كما ألهمها الله وأوحى بها إلى القدّيس متى (2:1) أنّ يسوع وُلِد في عهد الامبراطور الروماني أغسطوس قيصر، تحديدًا أيام حكم الملك هيرودس على اليهود. وبما أنّ هيرودس توفّي سنة 4 قبل الحساب الميلاديّ، من خلال هذه المعلومة التاريخيّة لدينا مقياس نعمل به لحساب تاريخ ميلاده. ونعلم تاريخ وفاة هيرودس من المؤرّخين الذين اتّفقوا على تاريخ هذه الحادثة ودوّنوها في أسفارهم أي ربيع سنة 750 من تأسيس مدينة روما.
كما أنّ هناك آيات في الانجيل الطاهر تذكر بأنّ الملاك اقترح على القدّيس يوسف أن يهرب بالطفل وأمّه مريم العذراء إلى مصر، خوفًا من بطش هيرودس الكبير لأنّ هذا كان مزمعًا أن يقتل الصبي. ويرد ذكر الملك هيرودس الذي أصدر أمرًا بقتل أطفال بيت لحم والمناطق المجاورة من السنتين فما دون، سعيًا منه إلى قتل المسيح المولود فيها (متّى 2: 16–18). "فقام فأخذ الطفل وأمّه ليلاً ولجأ الى مصر" (متّى 2: 14). هذا يُشير الى أنّ السيّد المسيح كان عمره حينئذ سنتين أو أقلّ.
وخلال فترة وجودهم في مصر مات الملك هيرودس بعد مرضه، ومَلَك ابنه هيرودس أرخيلاوس عوضًا عنه، حوالي سنة 4 قبل الحساب الميلاديّ حتى سنة 6 بعده، وخلال فترة حكمه أوحى الملاك للقدّيس يوسف بالعودة فرجع إلى الناصرة.
توقيت ولادة المسيح نجده في نبوءة دانيال وفي انجيل لوقا: "فاعلم وافهم: إنّه من صدور الأمر بإعادة بناء أورشالم إلى رئيس مسيح سبعة أسابيع، ثمّ في اثنين وستّين أسبوعاً تعود وتُبنى السوق والسور..." (دانيال 9: 25).
"وفي تلك الأيام صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يُكتَتب كلّ المسكونة. وجرى هذا الإكتتاب الأوّل (الإحصاء) إذ كان كيرينيوس والي سوريا" (لوقا 2: 1-2). نحن نعرف أنّ أوغسطس قيصر حكم من 27 قبل الميلاد إلى 14 للميلاد، وهذا الإحصاء ألزم القدّيس يوسف ومريم العذراء بالحضور إلى بيت لحم، وهناك وُلد السيّد المسيح. ويأتي ذكر الإحصاء الذي شمل اليهوديّة حوالي سنة 7 قبل الحساب الميلادي التي هي سنة اليملاد نفسها. والسبب في هذا الاختلاف الطفيف البسيط بين الميلاد والحساب الميلادي هفوة من الراهب ديونيزيوس "الصغير". وهذه الهفوة لا تُذكَر مع عبقريّة ذلك التقويم وسط مئات السنين!
يذكر مار لوقا تفصيلاً آخر في ما يتعلّق بهذا التوقيت: "عندما ابتدأ المسيح (رسالته) كان له نحو ثلاثين سنة" (لوقا 3: 23)، بينما كان يوحنّا المعمدان في البرية، يكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا. يوحنّا بدأ خدمته "في السنة الخامسة عشرة من حكم طيباريوس قيصر، وكان بونطيوس پيلاطس واليًا على اليهودية، وهيرودس رئيس ربع على الجليل، وفيلبس أخوه... في أيام رئيس الكهنة حنان وقيافا" (لوقا 3: 1-12).
الفترة الوحيدة التي تلائم كلّ هذه الوقائع والأحداث هي السنوات 27-29م. إن كان السيد المسيح في الثلاثينات من العمر حينما بدأ رسالته، فمعنى ذلك أنّه وُلد في الفترة ما بين 4 الى 7 قبل الحساب الميلاديّ ، وهذا يلائم تماماً التسلسل الزمنيّ.
حدّدت الكنيسة تاريخ الخامس والعشرين من شهر ديسمبر ليكون ذكرى ميلاد السيّد المسيح ولكن يوم مولده غير معروف. تفاصيل الأحداث التاريخية والبيبليّة تُشير الى أنّ المسيح وُلد في بيت لحم يهوذا لا بيت لحم الجليل. لقد غيّر ميلاد السيّد المسيح التاريخ الى الأبد، إذ أسدل الستار عن العهد القديم وفتح أبواب العهد الجديد، وغيّر حياة أعداد كثيرة من الناس لا تُعدّ ولا تُحصى في جميع أنحاء المعمورة – وما يزال.
سنة 525م طلب البابا يوحنّا الأوّل من الراهب العلاّمة ديونيزيوس الإسقوثي (منطقة بين رومانيا وبلغاريا) أحسبه أرمنيّ الأصل -وكان نابغة في الفلك- أن يؤرّخ الزمان انطلاقًا من ميلاد السيّد المسيح، رافضًا أن تستمرّ البشريّة في التقويم الروماني الوثنيّ الذي يستند على "تأسيس مدينة روما الوثنيّة"، وبالخصوص تقويم الطاغية مضطهد المسيحيين الامبراطور ديوقليسيانوس. ومن المعروف أيضًا أن الإمبراطور "داقيوس" ما قصّر في البطش بالمسيحيين والتنكيل بهم، وتذكر الكنيسة عشر اضطهادات كبرى كانت ضحيتها في زمن الامبراطورية الرومانية. ومع الأسف لا يرد أي من هذه المعاناة البطولية في مناهج التاريخ من مدرسية وجامعية في بلادنا.
كان طلب البابا يوحنّا الأوّل عملاً جريئاً، نفّذه بعلم كبير الراهب "ديونيزيوس"، الذي من باب التواضع لقّب نفسه "اجزيجووس" أي "الصغير". وكان أوفر رهبان عصره علمًا ومن أكثرهم غيرة وإيمانًا وعبقرية، وما كان عمله سهلاً. لذا، وسط السنوات الكثيرة التي حسبها، قام بغلطة بسيطة جعلته يحدّد موت هيرودس الكبير سنة 753 أو 754 حسب التقويم الوثني. ولكن فيما بعد تبيّن أنّ هيرودس توفّي سنة 750 (حسب المؤرّخ يوسيفوس)، والسيّد المسيح وُلد قبل وفاة هيرودس بسنتين أو ثلاث.
وهكذا التغى التقويم الوثنيّ وحلّ محلّه التقويم الميلادي، ومازال العالم يستخدم هذا التاريخ، حيث تؤرَّخ جميع أحداث العالم بما هو "قبل" و"بعد" ميلاد المسيح.
خاتمة
ليجمعنا الإيمان الذي يميّزنا عن العبرانيين – وليكن نبراساً لنا وحافزاً كي نحيا حياة كريمة مبنيّة على المودّة والتّفاهم لئلاّ يشمت بنا الملحدون والمارقون والبشر المنغمسون في الكبائر والمنكرات!