موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
أودّ أن أشارككم بعض ما دار بيني وبين أحد أبنائنا الذي يتخبط بين الإيمان والحيرة، وعدم تدخل الله من جراء ما يحدث الآن.
تشكّلت عقولنا نتيجة التربية والثقافة المحيطة بنا، على النتائج المادية لما نحققه أو لما يتحقق! وهذا بسبب نصائح الأهل المتكررة، والأصدقاء والمجتمع والسوشال و... رسائل عديدة تقصف بنا من كل صوب وتتمحور حول: يجب أن تُنجز، يجب أن تُنتج، يجب أن تُحقق، يجب ويجب ويجب... العقلية الانتاجية والتنافسية! وهذه الفكرة في يوم من الأيام حاربتها الكنيسة وأطلقت عليها كلمة هرطقة "بدعة البيلاجانية" (417-418) والتي مضمونها: عليَّ أن أخلص نفسي بنفسي.
إنَّ أغلب مآسي الإنسان تكمن في فشل أعماله أو خسارة مشاريعه أو انهيار توقعاته أو ضياع أحلامه... العالم المعاصر يصدر هذه الفكرة لنا بشتى الطرق، الاعتماد التام على الإنسان. يقول النبي ارميا "ملعون من يتكل على ذراع بشر" (ار 17، 5). وداود النبي يقول: "عليك توكلت يا رب فلا اخزى مدى الدهور" (مز ٣١/ ١).
مراتٍ كثيرة نشعر بمرارة العيش، أو ينتابنا ضيق شديد وحسرة مؤلمة صامتة وخاصة عندما نرى الطريق مسدودٌ أمامنا ولا يوجد بصيص من الأمل، فيبدأ الخوف يتسرب قلوبنا ويتغلغل اليأس حياتنا... وهذا أمرٌ طبيعي!! لأننا وضعنا المشكلة (الأزمة) أمام أعيوننا فلم نعد نرى شيئًا سوى المشكلة وعواقبها، ويبدأ عقلنا بتفسير تتابعات الأمور، وأحيانًا يهوّل المسألة ويضاعف الماساة فتنهار نفوسنا.
سأشرح باختصار ما يحدث فينا: على مستوى "العقل"، تُطلق هذه الأفكار السلبيّة نوعًا من المواد الكيميائية حيث تجعل الدماغ يفرز هرمونات التوتر، مثل الكورتيزول والأدرينالين... اللذان لهما تأثير على "الجسد" فتتأثر العضلات، ثم التنفس، ثم ضربات القلب فالضغط وآلام المفاصل... وعندما يرى الشخص أن جسده لم يَعُد يتجاوب مع رغباته "مهدود حيلو دايما، مانو قادر يعمل شي"، يبدأ يشعر "نفسيًا" باليأس والاحباط ويبغض ذاته والحياة أيضًا. لقد دخل في حلقة مفرغة، دوامة فظيعة... (تفسير "عقلي" خاطئ - تعب "جسدي" - يتحول إلى "نفسية" مريضة). وهذا لأنه يرى الواقع (الظروف) بعيدًا عن عمل الله وتدخلاته، (التي اختبرها في حياته مرارًا كثيرة). "إِعتَبِروا الأَجْيالَ القَديمةَ، وٱنظُروا: هل تَوَكَّلَ أَحَدٌ على الرَّبِّ فخَزِيَ؟" (سيراخ 2، 10). أما الشخص المؤمن يرى المشكلة - الأزمة "بعيون الله"، وقوة الله وسلطان الله ورحمة الله، وحنان الله...
وهذه الفكرة تنقلنا إلى موضوع أكبر ألا وهو موضوع الصلاة والظروف (الواقع). دائمًا ما أكرر القول: زمن المعجزات لم ينتهي ولن ينتهي ابدًا. ولكن؛ ما قيمة تغيير الظروف، إن لم يتغير الانسان!
فالظروف مهما كانت عظيمة لا تصنع إنسانًا عظيمًا،
والظروف مهما كانت سيئة لا تصنع انسانًا شريرًا.
لكن الإنسان العظيم يستطيع أن يعيش عظيمًا حتى في الظروف القاسية.
والإنسان السيء، الميت من الداخل. يعيش سيئًا شريرً مفسدًا في أعظم الظروف.
كانت ظروف يوسف سيئة للغاية وقاسية. من الداخل (كره أخوته وغيرتهم) ومن الخارج (وحدة، يتم، ظلم، افتراء، اضطهاد، سجن...) وبقي انسانا عظيمًا في أسوء الظروف.
وكان أولاد عالي الكاهن في أعظم الظروف، وكانوا أسوء خلق الله على وجه الأرض.
تغيير الظروف لا يستهلك من الله شيئًا قط،
يقول للريح أخرس، فتهدأ...
ويقول للسماء لتمطر، فتمطر خبزًا
يقول للصخرة أن تخرج ماء، فتخرج
يقول للبحر أن ينشق، فيصير يبسًا.
الظروف ليست مشكلة عند الله، لكن:
ما قيمة تغيّر الظروف وعدم تغيّر الإنسان!
ما قيمة تغيّر الظروف وعدم شفاء الإنسان من الداخل؟!
إنّ الصلاة لا تغيّر الواقع (في بعض المرات الاستثنائية تغيّر الواقع) ولكن الصلاة تغيرني "أنا" تمنحني السلام الداخلي والطمأنينة الحقيقية (التسليم لمشيئة الله). أعيش منطق المعية، منطق العمانوئيل، الله معنا. ليس مثل العهد القديم الله معي بجانب، منطق العهد الجديد، الله في داخلي، يحركني من الداخل، روح الله فيَّ، "فلست أنا الذي يحيا، بلِ المسيحُ يَحْيا فِيَّ" (غلا 2، 20).