موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
إلى أهلي أوولادي وأصدقائي في حلب.
أبدأ بالمثل الشعبي القائل: ’يلي ايدو بالمي مو متل يلي بالنار‘ أودُّ أن أشارككم ما يختلج في صدري من مشاعر.
في هذا الصباح راسلني أحد الشباب وكان يتساءل:
متى سيتدخل الله؟
متى سيعود زمن المعجزات؟
متى سيرى الله أنّه حان الوقت كي يتدخل؟
أليسَ الرب يسوع رجل اللحظات الأخيرة؟ أليست هذه اللحظات، أخيرة؟!
ألم يحن موعد رحمة الله كي تتغلب على ظلم البشر؟
فأجبته قائلاً: وأنا ايضًا كنت اتساءل في هذا:
لماذا الرب يسوع أقام ثلاثة أموات فقط؟ ألم يكن بإمكانه أن يقيمَ كل معاصريه الذين فارقوا الحياة؟!
لماذا شفى فقط بعض المرضى؟ ألم يكن بإمكانه أن يخففَ اوجاع الجميع؟!
لما كثَّر الخبز واطعم الجموع فقط مرتين؟ ألم يكن بإمكانه أطعامهم أكثر؟!
لماذا أختار اثنا عشر تلميذًا فقط؟ ألم يكن أفضل أختيار اثنا عشر ألفًا؟!
لماذا ارسل تلاميذه كي يبشروا ويشفوا ويحرروا فقط في ارسالية وحدة؟ ألم يكن الأفضل أن يعاونوه خلال الثلاث سنوات؟! وأسئلة كتيرة تخطر في ذهني وخاصة في هذه الظروف الصعبة الذي يعيشها شرقنا الجريح (سورية – لبنان - فلسطين- مصر - السودان...) من الخارج قصف، ودمار وفقر وقلة... ومن الداخل خوف، وقلق وضبابية... ألا يرى؟! أليس ضابط الكل، لما لا يتدخل؟!
خلال السنوات الثلاث العلنية التي عاشها الرب يسوع، كان قادرًا على قول ’’لاء‘‘ لأمور لا تشبهه أو لأشياء لا تشبه دعوته ورسالته. بالرغم من أنّها مبهرة كان قادر أن يقول ’’لاء‘‘ (إذا صح التعبير) لغرائزه.
ما تسألني أياه كنت أعيشه، كانت حياتي العلمانية ومن بعدها الرهبانية متمحورة حول العمل والانتاج والانجازات والمبادرات... كانت سمة حياتي الركض ومن ثم الركض وثم الركض... وكنت أبرّر هذا بيني وبين نفسي دائمًا: ’أني هكذا استثمر جميع وزناتي، أحقق دعوتي بالملء، أعيش رسالتي بالتمام والكمال... وكنت منشغل في أن أنجزَ أكبر قدر من الخدمات‘.
كنتُ أقوم بكل هذا عن طيبة خاطر وبحسن نية، لم أكن أريد أن أقصر في الوديعة التي سلمني أياها الرب. ولكن بعد فترة الخلوة والعزلة عن العالم؛ كشف لي الرب أمرًا غيَّر حياتي كليًّا، نقلني من ’مرتا إلى مريم‘. فإيماننا المسيحي هو إيمان ’حبة الخردل، هو حفنة الدقيق، هو فلسي الارملة، هو الخمس خبزات والسمكتين...‘. منطق الرب، منطق السماء، هو منطق نفهمه فقط بالإيمان.
حينها بدأت أعي أنّه: إذا رب المجد، الإله، أختار أن يعمل أقل، بالرغم من أنّه كان يرى حجم الحاجة، لما عليَّ أن أنشغل واقلق وأنهم؟!
المهم ليس أن يعمل الرب، إنّما المهم أن يحضر! ممكن أن نقول –حسب منظورنا الانساني المحدود- أنَّ الرب لا يعمل الآن كما نريد أو كما نتوقع.
واسترسل في الشرح واربط احداث حلب مع زمن المجيء. الكلمة الأهم في هذا الزمن هي ’الأنتظار‘. وهنا علينا أن نميّز بين الانتظار والتوقع
- التوقع: هو موقف الانغلاق - عادة اتوقع أن يحدث الشيء الذي أريده، الذي أعرفه، الذي أختبرته مسبقًا.
أما الانتظار: هو موقف الانفتاح - انتظر شيئًا، ممكن أني لم اعرفه، ولم اختبره، لم يسبق لي أن اكتشفته.
التوقع: يعتمد علي، أنا الذي يقرر ماهو خيرٌ لي، أنا الذي أصدر الأوامر وعلى الله أن ينفذها، أنا أملي على الله ما يجب عليه فعله وما لايجب فعله!
أما الانتظار: يعتمد على الله، امتلأ بالثقة. إذا حصلت على مبتغاي، خيرًا؛ وإذا لم أحصل، أيضاً خيرًا. إن استوعبت ما يحصل؛ خيرًا، وإن لم استوعب، أيضاً خيرًا.
التوقع: يعني ما أريده، أريده هنا والآن.
أما الانتظار: هو التحلي بالصبر، حتى ولو كلفني شهور الحبل، حتى لو كان علي أن أنتظر 9 شهور لأرى الطفل.
التوقع: يجعلني أهرب من الواقع واختبئ في المستقبل (احلام اليقظة) إذا حدث هذا ... بالتالي سأكون... وهكذا تمضي حياتي في ’السراب والأوهام‘.
أما الانتظار : يجعلني أعيش الحاضر بكليّتي، اكون على استعداد لأي شيء ومهما كان، سأتذوقه وسأسرُّ به.
التوقع: ينتهي لحظة حصولي على غرضي. وبعدها أعود إلى الروتين والرتابة والملل. واذا لم يتحقق غرضي أدخل في حالة الاكتئاب والاحباط.
أما الانتظار: لست أنا مَن يقرر ماذا سيحدث أو كيف سيحدث أو ما سيحدث. هو موقف الجهوزية ’’ما لم تَرَهُ عَيْنٌ ولا سَمِعَت بِه أُذُنٌ ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَر، ذٰلك ما أَعدَّه اللهُ لِلَّذينَ يُحِبُّونَه‘‘.
من أجمل ما كتبه القديس بولس، أحلى الرسائل كانت رسائل الأسر ’السجن‘ جميعها تتحدث عن الفرح، كتبَ اناشيد عن الفرح، ترانيم تسابيح وهو في ’الأسر‘. أيعقل أنّ القديس بولس فقد عقله؟! بالطبع لاء؛ بالرغم من السجن، من الألم، من المعاناة كان واعٍ وشاعر في حضور الله، وهذا الأهم.
عندما أشعر في حضور الرب لن يؤثر فيَّ مايحدث في الخارج! لأن ما يحدث في داخلي أصبح درعًا لروحي، ولوّن نظرتي، وغيّر فكري وأشبعَ نفسي . عندما أشعر بحضور الله، وهو إلى جانبي، وهو يربت علي! سيهون كل شيء. سأشعر بسلام الفتية الثلاث وهم في أتون النار، ’’فكانوا يَتَمَشَّونَ في وَسَطِ اللَّهيب، مُسَبِّحينَ اللهَ ومُبارِكينَ الرَّبّ. [...] لٰكِنَّ مَلاكَ الرَّبِّ نَزَلَ إِلى الأَتُّونِ مع عَزَرْيا وأَصْحابِه وطَرَدَ لَهيبَ النَّارِ عنِ الأَتُّون ٥٠وجَعَلَ وَسَطَ الأَتُّونِ ما يُشبِهُ نَسيمَ النَّدى المُنعِش، فلم تَمَسَّهمُ النَّارُ البَتَّةَ ولم تُصِبْهم بِأَذًى أَو ضَرَر‘‘. (دا 3، 24-50). غمرتهم غمامة الله.
ولِذٰلِك فإِنِّي راضٍ بِحالاتِ الضُّعفِ والإِهاناتِ والشَّدائِدِ والِٱضطِهاداتِ والمَضايِقِ في سَبيلِ المسيح، لِأَنِّي عِندَما أَكونُ ضَعيفًا أَكونُ قَوِيًّا. (2كو 12، 10)
اسألةٌ كثير تخطر على أذهاننا، اسئلةٌ منطقيةٌ وواقعيةٌ ... ولكن نحن مدعوون أن نؤمن أن الله حاضرٌ ويعرف ما يعمل. حتى إذا للوهلة الأولى لم نفهم، سيأتي الوقت ونقول: ‘‘كان معك حق يارب!‘‘ أنذاك سنقول كالبار أيوب.
’’فأَجابَ أَيُّوبُ الرَّبَّ وقال: ٢"قد عَلِمتُ أَنَّك قادِرٌ على كُلِّ شَيء
فلا يَستَحيلُ علَيكَ مُراد. ٣ مَن ذا الَّذي يُخْفي التَّدْبيرَ في غَيرِ عِلْم؟
إِنِّي قد أَخبَرتُ مِن غَيرِ أَن أُدرِك بِعَجائِبَ تَفوقُني ولا أَعلَم.
٤إِسمَعْ فأَتَكَلَّم أَسأَلُكَ فأَخبِرْني. ٥كُنتُ قد سَمِعتُكَ سَمعَ الأُذُن
أَمَّا الآنَ فعَيني قد رَأَتكَ. ٦فلِذٰلك أَرجعُ عن كَلامي وأَندَمُ في التُّرابِ والرَّماد‘‘ (ايو 42، 1-6)
هنيئًأ للذي يستطيع أن يعيش الحضور في وقت الأزمة والمحنة. فحين ندخل في جو الايمان. لن ننبهر ولن ننصدم، لأننا سنعي أنّ الله كان ومازال ضابط الكل، وهكذا نرتاح ونتنفس الصعداء ونعيش السلام الحقيقي.