موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأربعاء، ٢١ يوليو / تموز ٢٠٢١
21 تموز: القديس سمعان سالوس الناسك

إعداد الأب وليم عبدالمسيح سعيد الفرنسيسكاني :

 

ولد سمعان في مدينة الرها، من أعمال سوريا الشمالية، في أوائل القرن السادس للمسيح. وكان أبواه من ذوي المكانة العالية والغنى الوافر. لكن الفضائل المسيحيّة كانت اللآلىء الثمينة التي كانت تزيّن ذلك البيت الكريم. وعُني الوالدين بتربية إبنهما سمعان، وثقّفاه على الأخلاق العالية وعلّماه العلوم العصرية، فأضحى من الشبّان الذين يُشار إليهم بالبنان. وكان أهل وطنه يعقدون عليه أكبر الآمال. إلاّ أن نفسه كانت تصبو إلى أمجادٍ كبيرة، كانت لا تزال غامضة في عقله ولم يكن بعد قد تبيّنها.

 

ولمّا بدأ يستقل بحياته، ذهب مع رفاقه من أبناء وطنه، يريد زيارة الأماكن المقدّسة وحضور عيد رفع الصليب في أورشليم. وذهب برفقته صديق له يُدعى يوحنا، وكان على مثاله ذا فضيلة وثقافة وتقى. فتجوّلا معاً في الأراضي المقدّسة، فامتلأ قلبهما تعزيةً إلهيةً، وشوقاً أكبر إلى ممارسة الفضيلة، واقتفاء أثار المخلّص في حمل الصليب ومحبّة الآلام.

 

وإذ بلغا أريحا قال يوحنّا لرفيقه عن الرجال الذين يقيمون في الأديرة قرب نهر الأردن إنّهم أشبه بملائكة الله. ثم أشار بإصبعه إلى الطريق المؤدّية إلى تلك الأديرة وقال: "تلك هي الطريق إلى الحياة". بعد ذلك أشار إلى الطريق العامّة الواسعة وأضاف: "وهذه هي الطريق إلى الموت".

 

إثر ذلك صلّيا وألقيا القرعة في أي من الطريقين يسلكان وتوجّها إلى دير جيراسيموس بفرح كبير وقد ألقيا عنهما كلّ تعلّق بالعالم. قبل وصولهما كان رئيس الدير، قد أخذ علامة من فوق بشأن وصول الشابين إليهم فرحّب الرهبان بهما، وألبسوهما الثوب الرهبانيّ وأدخلوهما الحياة الجديدة. بعد يومين قرّرا مغادرة الدير والإقامة في البريّة مسلّمين نفسيهما للعناية الإلهيّة.

 

أمضيا في البرية ثلاثين سنة عرضة لقسوة الأحوال الجوّية وأحابيل الشيطان، وكان سمعان ينتصر عليه بنعمة الروح القدس، فاقترح على رفيقه أن يغادر البرّية ليعين الآخرين جائلاً في الدنيا ساخراً، بعون المسيح. ظنّ يوحنّا أنّ سمعان ضحيّة وهم شيطانيّ، لذلك نصحه وذكرّه بالوعد الذي قطعاه، ألا يفترقا البتّة. ولمّا لم تصمد حجّة في وجه تصميم سمعان، فهم يوحنّا أن في الأمر إلهامًا إلهيًّا، فتركه يذهب.

 

وتوجه سمعان الى القدس ثم أنطلق الى حمص وكان قد تكمّل في القداسة والعلوم الروحيّة فوق ما كان عليه من الثقافة العالية العالمية. ولمّا كان الله قد دعاه ليكون رسولاً للمؤمنين في تلك المدينة الزاهرة، وطبيباً للنفوس والأجساد معا وفتك الطاعون يوماً بمدينة حمص، وأهلك منها خلقاً كثيراً. فعلم سمعان بالوباء قبل حلوله، وصار ينظر إلى وجوه الناس ويعرف بإلهامٍ إلهي من سوف يموت بذلك المرض الوخيم. فكان كلّما شاهد إنساناً وعرف أن الطاعون سوف يفتك به، يقف ويسلّم عليه ويودّعه. ودخل مدرسةً وأخذ يتفرّس في وجوه التلاميذ، ويدل بأصبعه على من سوف يذهب ضحيّة ذلك الوباء القتّال، واحداً فواحداً. فلمّا ظهر الطاعون ذهب ضحيّته كثير من الناس، وأيضاً كل أولئك الذين كان سمعان قد حدّق بنظره فيهم وسلّم عليهم.

 

وخدم لدى خمّار عامله بخشونة في البدء، وعاش رجل الله سمعان في قلب المدينة بلا هوى. أمّا في حياته الخاصة، فكان ذلك الناسك الورع المتعبّد الشديد على نفسه، الكثير الصلوات، الدائم الصيام. وكان يقتات بما يتصدّق به الناس عليه من فضلات غذائهم وبما يجمعه من الأعشاب في البراري الغنّاء المحدّقة بمدينة حمص الغنيّة. وكان أحياناً يقضي الأسبوع بكامله صائماً. وقضى في بعض السنين الصوم الأربعيني كلّه من غير أن يتناول شيئاً من الطعام. وكان يسكن كوخاً حقيراً وينام على التبن والقش المجفّف. وكان يقضي لياليه في ذلك الكوخ، راكعاً يصلّي.

 

وذات يوم، أخذ يلقي الحجارة على المارّة الذين ارادوا أن يدخلوا شارعا اجتمعت فيه الأرواح الخبيثة لئلا يهلك أحد منهم، وعناية القديس المتباله شملت الجميع خصوصا الممسوسين الذين شفى منهم بصلاته عددا كبيرا، بعدما تظاهر انه مثلهم، هذا ولم يكن سمعان يكّلم بتعقّل إلا الشماس يوحنا الذي أبرأ ابنه وخلصه من تهمة افتراء بالقتل. وقبل يومين من مغادرته الى ربّه روى للشماس قصة حياته ونصحه في عدم الدنو من الهيكل المقدّس، وفي قلبه افكار سيئة ضد أحد.

 

وقد سبق الله وأعلمه بيوم وفاته. فاستعدّ لذلك اليوم بحرارة زائدة ومحبّة لله فائقة. ولمّا دنا أجله دخل مخدعه وتمدّد فوق التبن المفروش على الأرض، وجمع يديه على صدره ورفع عينيه إلى السماء، وأسلم نفسه الزكيّة بين يدي خالقه بكل هدوء وسلام يوم 21 تموز 550.

 

وما كادت نفسه تطير إلى الأخدار العلوية حتى قام الشمّاس يوحنا يعلن أمام الجميع تلك القداسة المتسترة تحت برقع البلَه والجنون. فهرع الشعب إلى ذلك الكوخ الحقير يتبرّك من رفات ذلك القديس المجيد. فأجرى الله بواسطة جسده الطاهر عجائب كثيرة باهرة، كانت أسطع دليل على ما له لدى العليّ من الشفاعة والكرامة. وسوف يبقى هذا القديس البار مثالاً حيّاً للتجرّد وإيثار مجد الله على مجد الناس.