موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأحد، ٢٨ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٥
مركزية يسوع المسيح في حياة بولس وعمله الرسولي وفي حياة الكهنة ورسالتهم
نقدّم فيما يلي نصّ المحاضرة التي ألقاها المونسنيور خالد عكشة خلال الرياضة الروحية السنوية لكهنة البطريركية اللاتينية، المنعقدة في بيت الزيارة بين 28 و31 تشرين الأول 2024، تحت عنوان «الحياة الكهنوتية الرسولية بحسب القديس بولس»، والتي تناولت في موضوعها الأول «مركزية يسوع المسيح في حياة بولس وعمله الرسولي، وفي حياتنا الكهنوتية ورسالتنا».

المونسنيور خالد عكشة :

 

مقدمة

 

"تعالوا هنا واستريحوا قليلا" (مرقس 6، 31)

 

قَبِلنا، إخوتي الأحباء، دعوة الكاهن الأعظم والأوحد، لنرتاح معه، وبه، ومعا، في بيت يحمل اسم أحد أسرار الفرح لسُبحة العذراء القديسة. ومن المصادفات السعيدة التي تُهدينا إياها العناية الإلهية أن نكون هنا في شهر الوردية، في أيامه الأخيرة.

 

"المعلم حاضر وهو يدعوكِ" (يوحنا 11، 28). كم أُحِب أن يعتبر كل منا نفسه مخاطَبا شخصيا بكلمات مرتا لأختها مريم! رياضتنا نعمة نشكر الله عليها ونجتهد جميعا في الاستفادة منها لخيرنا ولصالح القطيع الذي أقامنا السيد رعاة له (راجع 1 بطرس 5، 1-4) ، كلٌ بحسب دعوته ومسؤوليته.

 

قبلتُ دعوتكم لمرافقتكم في هذه الرياضة بعد تردد لا تخفى عليكم أسبابُه، ومع بعض خوف، على ما حدث للقديس بولس عندما همّ بتبشير أهل قورنتس (راجع 1 قورنتس 2، 2-4)، لكني قررت بنعمة الله أن أتخلى عن التردد وعن الخشية مِن أن لا يكون إسهامي على قدر توقعاتكم، لصالح أن أكون معكم في مشوار روحي مشترك.

 

شعرت بنداء محبة من قِبلكم، ومحبة بعضنا لبعص هي قوتنا وعزاؤنا وفرحنا، فأشكركم على محبتكم وثقتكم، وأعبّر عن سروري أن أكون بينكم، لألتقي مَن أعرفه منكم، ولأتعرف على الإخوة الذين لم أحظ بعدُ بمعرفتهم. أرى في التواصل بيننا، كهنة متقدمين في السن وكهنة شبانا، فائدة كبيرة، لا تقتصر على خبرة المتقدمين في السن والحكمة التي من المفروض أن تنتج عنها، بل تتعداها إلى النظر معا إلى بعض من الماضي، والتفكير المشترك حول الحاضر واستشراف المستقبل.

             

لا أرى نفسي بينكم "واعظا"، إنما مشاركا إياكم بعض المعلومات والخواطر والخبرات عن الحياة الكهنوتية الرسولية. أجد نفسي كذلك ساعيا إلى استخراج القديم والجديد، على قدر المستطاع، على ما قال السيد له المجد (راجع متى 13، 52). هذا هو التوضيح الأول.

 

والأمر الثاني أنه يرافقنا في رياضتنا هذه بشكل خاص القديس بولس بمثاله وتعليمه، على ما اقترحتم. أرغب إذًا في مشاركتكم بما علق منه وعنه في الذهن والقلب، وكذلك بما درسته عنه.

 

في روما، حيث عاش بولس سنواته الأخيرة واستُشهد، صليت من أجلكم جميعا ومن أجل لقائنا هذا، كي يشفع لنا الرسول لنُحيي الموهبة الروحية التي كانت لنا بوضع الأيدي (راجع 2 طيموتاوس 1، 6)، مستلهمين سيرته البطولية وتعليمه النيّر. الغاية اذًا هي من ناحيتي "كلام جديد" قَدْر الإمكان، يخرج من القلب ويصل إلى القلب، حسب المقولة "القلب يتكلم إلى القلب" (cor ad cor loquitur)، وهو الشعار الذي اتخذه القديس جون هنري نيومان عندما عُيّن كردينالا.

 

وكونُنا تطرقنا أعلاه إلى شعار، أقترح عليكم أن يتخذ كل منا شعارا يوجز خبرته الروحية في هذه الأيام، ويرافقه حتى الرياضة القادمة، وإن أراد إلى ما بعدَ ذلك.

 

واستطرد لأعرّج على شعارات بعض القديسين. فكان شعار القديس يوحنا بوسكو: "أعطني النفوس وخذ الباقي"، وشعار تلميذه القديس دومينكو سافيو: "الموت ولا الخطيئة"، وشعار القديس البابا يوحنا بولس الثاني: "كلي لكِ"، وشعار الطوباوي كارلو أكوتيس: "الله، لا أنا" (Dio, non io). وهناك شعار لشخص قريب، أقلَّه بالنسبة للبعض منا، أعني المرحوم البطريرك يوسف بلترتي: "ليأت ملكوتك".

 

وملحوظة ثالثة: أضفت كلمة "رسولية" إلى الحياة الكهنوتية، تمييزا لنا عن الكهنة الذين لم يدعهم الله إلى الرسالة، بل إلى حياة العزلة والتأمل، مثل الترابيست والبندكتان وغيرهم. وهناك هدف آخر من هذه الإضافة: التذكير بأننا رسل السيد المسيح ، كما كان الحال بالنسبة لرسول الأمم ، مع اختلافات نعيها جميعا.

 

لنا، كما أعلمني أبونا عماد، ستة لقاءات، وقد تكون هناك حلقات نقاش. الأمر بيدكم، إنما من الأهمية بمكان أن يكون لنا وقت كافٍ لنختلي بأنفسنا وبالسيد الحاضر فينا وبيننا. واقترح كذلك أن ترافقنا رسائل القديس بولس في هذه الرياضة. من الممكن أن نقرأها من قصيرها إلى طويلها. وإذا اردتم مقترحا آخر، فيمكن أن يقتصر الأمر على الرسائل الرعائية، التي يمكن أن تُضاف إليها الرسالة الثانية إلى أهل قورنتس.

 

اسمحوا لي بمشاركتكم حدًا أدنى من المعلومات عن بولس ورسائله:

 

مكان ولادته: طرسوس (تركيا الحالية).

 

سنة ميلاده: السنة الرابعة للميلاد.

 

تنشئته: كانت على منهج الفريسيين، على يد جملائيل في القدس.

 

اهتداؤه: على طريق دمشق، وكأنّ ذاكرتي حفظت أنه كان حينها في مطلع الثلاثينات من عمره.

 

التدرب على الرسالة وممارستها في البدء: تحت قيادة برنابا.

 

رسول الأمم: كان هذا بعد أن استقل عن برنابا واستعان بأشخاص كثيرين للبشارة وتأسيس كنائس.

 

شهيد القائم من الموت: سنة 64 أو 67.

 

الرسائل الأصيلة لبولس بحسب بعض دارسي الكتاب المقدس: رومة، غلاطية، قورنتس الأولى، غلاطية، تسالونيقي الأولى، فيلمون.

 

الرسائل المنسوبة إلى بولس: قورنتس الثانية، تسالونيقي الثانية، أفسس، قولسي .

 

الرسائل الرعائية: هي إرشادات موجهة إلى رعاة كنائس أسسها بولس. هذه الرسائل منسوبة كذلك إلى بولس، ونشأت في دائرته بعد رحيله.

 

أمّا عن الرسالة إلى العبرانيين، فلا أحد في أيامنا ينسبها إلى الرسول.

 

الرسائل كما نجدها في الإنجيل حاليا: مرتبة بحسب طولها.

 

 أين "نجد" بولس؟ نجده في رسائله، في أعمال الرسل، وكذلك في إنجيل لوقا معاونه، الذي يُعتبر إلى حد ما "إنجيل بولس"، كما يُعتبر الإنجيل بحسب مرقس "إنجيل بطرس".

 

وأين نجد الكاهن وخدمته الراعوية بحسب بولس الرسول؟ في سيرته البطولية في خدمة إنجيل الخلاص، وفي كلامه عن نفسه كرسول، وفي توجيهاته لمعاونيه ولمن وضعهم لقيادة الجماعات التي أسسها.

 

لن تجدوا دوما في حديثي إليكم "كلاما جاهزا" عن الحياة الكهنوتية بحسب القديس بولس، ولهذا علينا جميعا "البحثُ عن الكاهن" في سيرة بولس وتعليمه. هكذا كان الأمر إلى حد كبير بالنسبة لأمثال يسوع: كان على السامعين الإصغاء إليها ثم البحث عن معناها.

 

لا أخفي عليكم أني وجدت صعوبة في ترتيب أفكاري حول الحياة الكهنوتية بحسب القديس بولس وتقسيمها إلى ستة مواضيع. ولهذا استعنت بموضوعين من اطروحتي عن معاوني القديس بولس ومعاوناته: الأول عن ضمير بولس الرسولي، والثاني عن منهجه في ممارسة الرسالة إنطلاقا من رؤيته لها. سوف نحتاج إلى لقائين لعرض كل موضوع.

 

أطلب منكم المعذرة مقدَّما، إذا لم يأتِ ما سأقوله على قدر انتظاراتكم واحتياجاتكم.

 

أودّ أن أعنون اللقاء الأول: "الحياة لي هي المسيح".

 

مركزية يسوع المسيح في حياة بولس وعمله الرسولي، وفي حياة الكاهن ورسالته

 

1. بولس لا يعرف نفسه ولا يُعرّف بها إلا من خلال يسوع المسيح

 

يظهر هذا جليا من خلال تقديم بولس ذاته لقارئي رسائله في مطلعها وفي مقاطع أخرى منها:

 

"من بولس عبد المسيح المسيح يسوع دُعي ليكون رسولا ليُعلن بشارة الله، تلك البشارة التي سبق أن وعد بها على ألسنة أنبيائه في الكتب المقدسة، في شأن ابنه الذي وُلد من نسل داود بحسب الطبيعة البشرية، وجُعل ابن الله في القدرة بحسب روح القداسة، بقيامته من بين الأموات، ألا وهو يسوع المسيح ربنا، به نلنا النعمة بأن أكون رسولا، فنهدي إلى طاعة الإيمان جميع الأمم الوثنية إكراما لاسمه" (رومة 1، 1-5).

 

"من بولس الذي شاء الله أن يدعوه ليكون رسول المسيح يسوع..." (1 قورنتس 1 ،1).

 

"من بولس رسول المسيح يسوع بمشية الله" (2 قورنتس 1 ،1).

 

"من بولس وهو رسول، لا من قِبل الناس ولا بمشيئة إنسان، بل بمشيئة يسوع المسيح والله الآب الذي أقامه من بين الأموات" (غلاطية 1 ،1).

 

"من بولس رسول المسيح يسوع بمشيئة الله..." (أفسس 1، 1).

 

"من بولس وطيموتاوس عبديّ المسيح يسوع..." (فيليبي 1، 1).

 

"من بولس رسول المسيح يسوع بمشية الله..." (قولسي 1، 1).

 

"من بولس رسول المسيح يسوع بأمر الله مخلصنا والمسيح يسوع رجائنا" (1 طيموتاوس 1 ،1).

 

"من بولس رسول المسيح يسوع بأمر الله مخلصنا والمسيح يسوع رجائنا" (2 طيموتاوس 1، 1).

 

"من بولس عبد الله ورسول يسوع المسيح يسوع ليهدي الذين اختارهم الله إلى الإيمان وإلى معرفة الحق الموافقة للتقوى من أجل رجاء الحياة الأبدية التي وعَد الله بها منذ الأزل وإنه لا يكذب، -فقد أظهر كلمته في الأوقات المحددة لها-، بشارة ائتمنت عليها بأمر من الله مخلصنا" (طيطس 1، 1-3).

 

"من بولس سجين المسيح يسوع" (فيلمون 1).

 

إذًا معظم المرات يقدّم بولس نفسه ك "رسول"، مرة واحدة ك "عبد لله"، مرة ك "عبد المسيح يسوع"، ومرة ك "سجين للمسيح يسوع".

 

والسؤال الذي نطرحه: كيف أعرف نفسي وكيف أعرّف بها؟ بالنسبة لي، أرى نفسي واعرّف بها ككاهن في خدمة الكرسي الرسولي. أصلي الأردني حاضر، وكذلك انتمائي بفخر إلى بطريركية القدس لللاتين، لكنهما لا يطغيان على السمة الأولى ما دمت في الخدمة.

 

2. "الحياة لي هي المسيح"

 

هذه العبارة هي اقتباس من رسالة بولس إلى أهل فيلبي (1، 21)، وهي مكتوبة على قبر الرسول، وقد أضيفت اليها عبارة "والموت ربح" . وهي كلمات تحمل في طياتها معنى عميقاً عن علاقة بولس بالمسيح، وبالنسبة لنا تبقى شعارا نحمله وهدفا نسعى إلى تحقيقه.

 

الحياة أثمن عطايا الله لنا وهي الأساس للهبات الأخرى مثل الإيمان والدعوة إلى الحياة الكهنوتية أو الرهبانية، وأساس لبقية المواهب التي يتحدث عنها القديس بولس إلى أهل قورنتس (راجع مثلا 1 قورنتس 12، 4-11). وعندما يحب إنسان إنسانا آخر، سواء كان زوجا أو ابنا أو صديقا، فإنه يناديه "حياتي".

 

يسوع المسيح حياة بولس لإنه الهدف والغاية بالنسبة له، وهو الذي يعطي حياته قيمتها ومعناها الحقيقي. المسيح هو القوة الدافعة لحياة الرسول، يعطيه العزيمة والشجاعة لمواجهة تحديات الحياة الرسولية الكثيرة وصعوباتها، وهو الذي يمنحه الأمل والسلام الداخلي ما جعله يصرّح: "أستطيع كل شيء بذاك الذي يقوّيني" (فيلبي 4، 13).

 

وبالنسبة للمسيحي، ولنا قبله وأكثر منه، المسيح هوالعنصر الأول في هويتنا وكل شيء بالنسبة لنا، أو أقله يجب أن يكون الأمر هكذا.

 

المسيح هو الرابط بين المؤمن والله الآب، وهو الطريق إليه: "أنا الطريق والحق والحياة لا يمضي أحد الى الآب إلا إذا مرّ بي" (يوحنا 14، 6). والآب هو من يكشف الإبن للناس، كما كان الحال بالنسبة لبطرس: "ليس اللحم والدم كشفا لك هذا، لكن أبي الذي في السموات" (متى 16، 17).

 

تؤكد عبارة "الحياة لي هي المسيح" على أهمية العلاقة الشخصية والحميمة لكل منا مع المسيح، وتقودنا إلى معرفة متنامية له، وتجعلنا قادرين ومؤهلين لتعريف الناس به انطلاقا من هذه الخبرة، إلى درجة أننا نستطيع أن نقول ، إلى حد ما، ما قاله يوحنا الإنجيلي في مطلع رسالته الأولى: "ذاك الذي كان منذ البدء، ذاك الذي سمعناه، ذاك الذي رأيناه بعينينا ولمسته يدانا... نبشركم به أنتم أيضا"  (1 يوحنا 1، 3ب).

 

وإذا أصبح المسيح حياتنا، فنحن محصّنون ضد الموت، أعني الموت الثاني أو الهلاك الأبدي، لا سمح الله. ويصبح رجاؤنا في الحياة الأبدية أقوى، لإننا نحرص على رعايته وتنميته يوميا. وعلى غرار بولس، يصبح الموت المقهور بقيامة المسيح ربحا نسعى إليه، إلى درجة الحيرة في الاختيار بين الحياة والموت، كما كان الحال بالنسبة لبولس. ولا بأس أن نكون كالرسول: نفضّل الموت لنكون مع المسيح، ولكننا نقبل البقاء في هذه الحياة لخير المؤمنين، إلى الوقت الذي يحدده الله في محبته وحكمته وعنايته.

 

ومع الرجاء يأتي السلام، فالمسيح سلامنا على ما يؤكد بولس (راجع أفسس 2، 14). ولمّا كان لنا هذا الرجاء، على ما يقول الرسول، فإنّ همتنا في الخدمة الكهنوتية لا تفتر (راجع 2 قورنتس 4، 1)، لإن معاناتنا البسيطة مقدارا والقصيرة زمنا تُعِدّ لنا مجدا عظيما لا يفنى، كما كان الحال بالنسبة لبولس (راجع 2 قورنتس 4، 16).

 

باختصار، عبارة "الحياة لي هي المسيح" هي جوهر الإيمان المسيحي، وهي تُعتبر أعلى درجة يمكن أن يصل إليها المؤمن في علاقته بالسيد المسيح.

 

 

3. اللقاء الحاسم. طريق دمشق

 

هذا هو التحول الإيماني الأعظم والحدث الأكبر في حياة الكنيسة، بعد نزول الروح القدس. هي قصة تحوّل وإيمان وأمل وتذكير بقوة الله في تغيير حياة الأفراد والجماعات. ولهذا تحتفل الكنيسة باهتداء بولس كعيد. هذا اللقاء لم يغيّر حياة بولس فحسب، بل شكّل مسار التاريخ المسيحي بأكمله، والبشري كذلك إلى حد ما. نعلم من ناحية أخرى أن بعض المغرضين والجهّال يعزون تأسيس الديانة المسيحية إلى بولس.

 

كان شاول يهوديا فريسيا متدينا ومتعصبا للدين، وكان يضطهد المسيحيين بشدة إذ كان يرى المسيحية تهديدًا لدينه وسنن آبائه. وكان موافقا على قتل اسطفانس (ما يعني أنه لم يشارك في الجريمة). هذه قراءة بولس لسيرته قبل اهتدائه: "كنت أفعل ذلك عن جهالة" (1 طيوتاوس 1، 13). لقاء يسوع القائم كان فقط "تغيير اتجاه": كل ما عند بولس من نبل وجرأة وعلم وعبقرية وغيرة وروح قيادة ومعرفة بالكتب المقدسة وبالشريعة سيكون في خدمة القائم من الموت الذي أبهره بنوره وكشف له عن ذاته. سوف يقول يسوع عن شاول المهتدي بأنه إناءٌ مختار سوف يحمل اسمه إلى الشعوب والملوك، وعليه أن يتحمل في سبيل ذلك الاضطهادات والآلام (راجع أعمال 9، 15).

 

قصة لقاء بولس بيسوع على طريق دمشق هي قصة تحوّل وإيمان وأمل. إنها تذكّرنا بقوة الله في تغيير حياتنا، وبأهمية اللقاء الشخصي مع المسيح.

 

عِبر اهتداء بولس كثيرة، منها قدرة الله وحكمته وصبره في توجيه حياة الإنسان والجماعات. الله لا ييأس من الإنسان، خاصة الصادق المستقيم. كثيرة هي تدخلات الله في حياة الناس وكثيرة هي قصص الاهتداء إلى الله، ومن المفيد البحث عنها لتمجيد الله وللعبرة الشخصية والراعوية.

 

وعلى الصعيد الشخصي، ليسأل كل منا نفسه: هل حدثت لي خبرة لقاء روحي مع المسيح أثّرت فيّ أو غيّرت مجرى حياتي؟ هل كانت هي نقطة انطلاق دعوتي؟ هل كانت مناسَبة للعودة إلى نفسي وإلى بيت الآب وإلى سيرة كهنوية ترضي السيد وتعزي المؤمنين؟ بصرف النظر عن الماضي، أنا واثق من أننا نسعى بعون الله وشفاعة القديس بولس لتحمل رياضتنا إلينا بعضا من النور الذي أضاء شاول، ما يساعدنا على تجديد عطاء ذواتنا لخدمة الإنجيل وشعبنا المؤمن.

 

 

4. الخلاص بالإيمان لا بالشريعة: جوهر رسالة بولس الرسول

 

يؤكد بولس الرسول بشكل قاطع أن الخلاص يأتي من الإيمان بيسوع المسيح وحده، وليس من أعمال بشرية أو من تطبيق الشريعة واتباع سنن الآباء. وهذا أمر يختلف به الرسول بشكل جذري عن الفكر الفريسي الذي نشأ فيه ودافع عنه إلى درجة اضطهاد أتباع "الطريقة"، أي المؤمنين بيسوع.

 

أمثلة من رسائل بولس:

 

"لأننا نعتقد أن الإنسان يتبرر بالإيمان بيسوع المسيح دون أعمال الناموس" (رومة 3، 28).

 

"لأنكم بنعمة خلصتم بالإيمان. وليس ذلك منكم، بل هو هبة من الله، ليس من أعمال لئلا يفتخر أحد" (أفسس 8، 2-9).

 

"مع هذا، إذ عرفنا أنّ الإنسان لا يتبرر بأعمال الناموس بل بالإيمان بيسوع المسيح، فآمنَّا نحن أيضا بيسوع المسيح، لكي نتبرر بالإيمان بيسوع المسيح لا بأعمال الناموس، لأن بأعمال الناموس لا يتبرر أحد" (غلاطية 2، 16).

 

حذّرنا السيد له المجد من "خمير الفريسيين" (راجع متى 16، 6) الذي قد يتسرب إلينا في سعينا إلى الكمال. من هنا أهمية "تمييز الأرواح" واللجوء إلى الإرشاد أو المرافقة الروحية. وقد تكون ندرة كهنة أتقياء حكماء نلجأ إليهم إحدى صعوبات البعض منا لو رغبوا في الإسترشاد، وخاصة أولئك الذين يعيشون في مناطق بعيدة عن الوسط، مركز الثقل على صعيد المؤمنين والإكليروس.

 

يؤكد بولس على الإيمان وحده كطريق خلاص، لأنه بمجيء المسيح انتهى دور الشريعة، وهو قيادة الناس إلى المسيح المخلّص كما كان العبد البيتي يقود الأطفال إلى المدرسة (راجع غلاطية 3، 24). وهناك نقد بولسي للشريعة على أكثر من صعيد، من ضمنها أنّ الإنسان لا يستطيع تطبيق الشريعة بأكملها، فتصبح له أداة دينونة، بدل أن تكون أداة خلاص.

 

ويذهب الأمر ببولس إلى اعتبار الشريعة "لعنة" حرّرنا منها السيد المسيح، إذ أصبح "لعنة من أجلنا" بحسب ما ورد في الكتاب: "ملعون من عُلق على خشبة" (غلاطية 3، 13). ونشارك بولس حمد الله على الحرية التي أتانا بها السيد المسيح ودفع ثمنها بآلامه المجيدة.

 

إنّ مفهوم الخلاص بالإيمان وحده هو جوهر الإيمان المسيحي، وهو يحررنا من العبودية للخطيئة والموت، ويمنحنا حياة جديدة في المسيح. عندما نؤمن بيسوع المسيح، نصبح أبناء لله وورثة في ملكوته.

 

وعن الشريعة في الإسلام، فهي كما هو الحال في اليهودية، طريقُ الخلاص. وأذكر ما قاله لنا رئيس علماء سراييفو حينها عندما التقيناه في المشيخة: "نحن ديانة شريعة مثل اليهودية". استطعت من خلال رسالتي عديدة السنين في مجال الحوار بين الأديان أن أقدّر نعمة الحرية. فلا قيود أو تعليمات في المأكل والمشرب واللباس والتعامل مع الجنس الآخر من ناحية التحية والانفراد. كل شيء نقبله من الله حامدين، ومقيَّدين فقط برباط المحبة لله وللقريب. وقد أبدع القديس أغسطينوس في الوضوح والإيجاز عندما قال: "أحبب وافعل ما تشاء".

 

 

5. شمولية الخلاص لليهود وللأمم

 

 أكّد الرسول أن الخلاص بيسوع المسيح ليس مقصورًا على اليهود، بل يشمل جميع الأمم، بما في ذلك الوثنيين. هذه الفكرة كانت ثورة حقيقية في التفكير الديني في ذلك الوقت، حيث كان اليهود يعتقدون أن الخلاص هو حق حصري لهم.

 

في رسالته إلى أهل رومة يوضح بولس أنّ جميع البشر، يهودأ ووثنيين، هم تحت الخطيئة، وبالتالي في حاجة إلى الخلاص. وفي رسالته إلى أهل غلاطية يؤكد أنّ الخلاص لا يأتي من التقيد بالشريعة اليهودية، بل من الإيمان بيسوع المسيح.

 

يسوع هو كاسر الحواجز وهادم جدران العداوة وموحّد الجميع في ذبيحة جسده. يقول بولس إن يسوع جعل من الجماعتين، أي اليهود والوثنيين، جماعة واحدة في جسد واحد، ليصيرا شعباً واحداً لله (راجع قولسي 1، 20-22). والكنيسة هي عامل وعلامة وحدة الجنس البشري (راجع دستور عقائدي عن الكنيسة "نور الشعوب"، رقم 1). هذه النظرة التوحيدية هي في غاية الأهمية لنا أيضا على صعيد رعايانا.

 

الخلاص هو هبة مجانية من الله، وليس نتيجة لأعمال الإنسان أو لانتمائه إلى شعب معيّن. وجميع البشر، بغض النظر عن عرقهم أو دينهم، مخلوقون على صورة الله ولهم الكرامة ذاتها، ومن أجلهم جميعا مات المسيح على الصليب.

 

نعيش في مجتمع غالبيته العظمى من المسلمين. من المهم أن نعي باستمرار أنّ المسيح مات من أجلهم أيضا، وأنهم مدعوون للخلاص بصليبه كما نحن، لإنه ليس هناك إلا مخلّص واحد. عندما أمّر في شوارع روما التي يغزوها الحجاج والسائحون، ألقي عليهم نظرة الله وأردد: "إنك تحب الجميع، يا رب، ولا تكره شيئا مما صنعت" (سفر الحكمة 11، 25).

 

بالطبع، خلاص غير المسيحيين موضوع طويل وشائك، قد أعود اليه لاحقا، إذا سمح الوقت.

 

 

6. يسوع فقط ومصلوب. "لم اشأ أن اعرف وأنا بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوبا" (1 قورنتس 2، 2)

 

كان المسيح المصلوب هو حجر الزاوية في إيمان بولس الرسول وتعاليمه. لم يكن الصليب مجرد حدث تاريخي، بل كان مركزا لحياته وتفكيره، وشكّل جوهر رسالته التبشيرية. لقد فهم بولس أنّ الصليب ليس نهايةَ القصة، بل هو بداية حياة جديدة مصدرها المسيح المصلوب والقائم من الموت. أصبح الصليب رمزًا لهذا التحوّل الجذري وللإنتقال من الظلمات إلى النور.

 

فهم بولس أنّ الخلاص لا يأتي بالأعمال، بل بالنعمة الإلهية التي تتجلى في موت المسيح على الصليب. الصليب هو دليل على محبة الله اللامتناهية للإنسان: "ليس لأحد حب أعظم من هذا" (يوحنا 15، 13). مِن جنب المصلوب المطعون وُلدت الكنيسة. لهذا رفض بولس أن يعرف غير المصلوب، ورفض أن يفتخر بغير الصليب. الصليب فخرنا كما كان الحال لبولس. هوهويتنا و شعارُنا المليء بالمحتوى، وليس شارةً عبثية. إذا علّقناه على صدورنا أو على جدران بيوتنا فليكن ذلك فعلَ ايمان وتمجيدا لسر خلاصنا. لنتعوّد تقبيل المصلوب، تعبيرا عن إيماننا ومحبتنا وشكرنا لفادينا.

 

لقاؤه على طريق دمشق بيسوع المسيح المصلوب والقائم غيّر حياته تمامًا. رأى بولس أن الإنجيلَ -الخبر السار- هو خبر موت المسيح وقيامته. وكان يؤمن أنّ هذا الخبر هو القوة التي تغيّر حياة الناس.

 

ختامًا، "الحياة لي هي المسيح"، اللقاء الحاسم على طريق دمشق، الخلاص بالإيمان لا بالشريعة كجوهر رسالة بولس الرسول، شمولية الخلاص لليهود وللأمم، يسوع فقط ومصلوب هي الموضوعات البولسية التي عرضتها، محاولا إسقاطها على حياتنا ورسالتنا ككهنة. أعي أن هذا الإسقاط او التطبيق غيرُ كافٍ أحيانا، ما يعني حاجتنا جميعا إلى التفكير والصلاة والتأمل، لمزيد من الفهم وللتقريب بيننا وبين بولس، رسول الأمم ومعلمها.