موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
أيها الإخوة والأخوات، نلتقي اليوم حول عبارة إنجيلية محورية وردت في بشارة الملاك للرعاة: «اليوم وُلد لكم مخلّص في مدينة داود، وهو المسيح الرب» (لوقا 2:11). هذه الكلمات ليست مجرد خبر تاريخي، بل هي إعلان لاهوتي شامل يختصر سرّ التجسد والخلاص، ويربط بين وعود العهد القديم وتحقيقها في شخص يسوع المسيح، كما يفتح أمامنا مجالاً واسعاً للتأمل في تفاسير آباء الكنيسة الذين رأوا في الميلاد بداية الفداء وتجديد الخليقة. لقد هيّأ العهد القديم الأرضية لهذا الإعلان العظيم عبر سلسلة من النبوات، فنقرأ في إشعيا: «لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابنًا وتكون الرياسة على كتفه ويدعى اسمه عجيبًا مشيرًا إلهًا قديرًا أبًا أبديًا رئيس السلام» (إشعيا 9:6)، وفي ميخا: «وأنت يا بيت لحم... منك يخرج لي الذي يكون متسلطًا على إسرائيل» (ميخا 5:2)، وفي المزمور: «قوتي وترنمي هو الرب وقد صار لي خلاصًا» (مزمور 118:14). هذه النصوص تُظهر أن ولادة المسيح ليست حدثًا عابرًا، بل هي تحقيق لوعد الله بالخلاص، وأن المولود سيكون ملكًا من نسل داود، يحمل صفات إلهية ويمنح السلام لشعبه. أما العهد الجديد فيقدّم لنا الميلاد كتحقيق مباشر لهذه النبوات، إذ يقول الملاك ليوسف: «ستلد ابنًا وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم» (متى 1:21)، ويعلن يوحنا: «والكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا» (يوحنا 1:14)، ويكتب بولس: «ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة... ليفتدي الذين تحت الناموس» (غلاطية 4:4-5).
هنا يظهر أن الميلاد هو بداية الفداء، حيث يدخل الله في الزمن ليحرر الإنسان من الخطيئة، ويجعل الخلاص حاضرًا في التاريخ. وقد رأى آباء الكنيسة في هذه العبارة مفتاحًا لفهم سر التجسد، فأثناسيوس الرسولي يقول: «ما لم يتخذ المسيح ما هو لنا، لم يكن ممكنًا أن يهبنا ما هو له»، وإيريناوس اعتبر أن المسيح هو «آدم الجديد» الذي يجدد البشرية، وأوغسطينوس كتب أن «المسيح وُلد في الزمن لكي يولدنا للحياة الأبدية»، وغريغوريوس النزينزي رأى أن «المذود يقود إلى الجلجثة»، أي أن الميلاد مرتبط بالصليب والفداء. هذه التفاسير تؤكد أن الميلاد ليس مجرد حدث تاريخي، بل هو سرّ لاهوتي يربط بين التجسد والفداء.
إن استكمال التأمل في عبارة «اليوم وُلد لكم المخلّص» يقودنا إلى التعمّق في أبعادها الروحية والكنسية. فالحدث الذي جرى في بيت لحم لم يكن مجرد ولادة طفل، بل هو دخول الله نفسه في التاريخ البشري، ليجعل الزمن مكانًا للقاء بين السماء والأرض.
كلمة «اليوم» تشير إلى دخول الله في الزمن البشري، ليصبح الخلاص حدثًا ملموسًا، وتشير إلى أن الخلاص ليس وعدًا مؤجلاً، بل واقع حاضر، وأن كل مؤمن مدعو لأن يعيش هذا «اليوم» في حياته الشخصية والروحية. إن الميلاد ليس ذكرى تاريخية فحسب، بل هو حدث يتجدد في الليتورجيا وفي قلب المؤمن، حيث يولد المسيح في النفس كما وُلد في المذود.
إن عبارة «وُلد لكم» تحمل طابعًا شخصيًا وكنسيًا في آن واحد. فهي تؤكد أن الخلاص ليس فكرة عامة أو مجردة، بل هو عطية شخصية لكل إنسان، وفي الوقت ذاته هو عطية جماعية للكنيسة وللشعب كله. هذا البعد المزدوج يجعل من الميلاد دعوة إلى الشركة، حيث يولد المسيح في قلب الفرد ليقوده إلى الجماعة، ويولد في الكنيسة ليقودها إلى الوحدة في جسده. وهكذا يصبح الميلاد أساسًا لهوية الكنيسة ورسالتها في العالم؛ إذ الكنيسة، من خلال الاحتفال بالميلاد، تعلن أن الخلاص حاضر في العالم، وأن المسيح هو عطية الله لكل البشر.
أما لقب «المخلّص» فهو يربط الميلاد مباشرة بالصليب والقيامة. يسوع لم يولد ليبقى في المذود، بل ليكمل رسالته على الجلجثة ويقوم منتصرًا على الموت. هذا الترابط بين الميلاد والفداء هو ما شدّد عليه الآباء، إذ رأوا أن التجسد لا ينفصل عن الصليب، وأن المذود يقود إلى الجلجثة. الميلاد هو بداية المسيرة، والفداء هو اكتمالها، والقيامة هي ثمرتها. بهذا المعنى، العبارة الإنجيليّة تختصر المشروع الإلهي كله: من التجسد إلى الفداء إلى المجد الأبدي. كما أن هذا اللقب يعيد إلى الأذهان نصوص العهد القديم التي تحدثت عن الله كمخلّص لشعبه، ويُظهر أن يسوع هو تحقيق نهائي لهذه الوعود.
إن الكنيسة، عبر احتفالها بالميلاد، لا تكتفي بتذكر حدث تاريخي، بل تعلن أن الخلاص حاضر الآن، وأن المسيح يولد في كل قلب يستقبله بالإيمان. فكما وُلد المسيح في بيت لحم، هكذا يجب أن يولد في قلب كل مؤمن، ليصبح الخلاص خبرة شخصية وواقعية. وهكذا، فإن العبارة الإنجيليّة «اليوم وُلد لكم المخلّص» (لوقا 2:11) تحمل في طياتها مضمونًا يتجاوز مجرد الإعلان عن حدث تاريخي، لتصبح أساسًا لاهوتيًا لمفهوم الرجاء المسيحي. فهي تذكّرنا أن الرجاء ليس وهمًا أو أمنية عابرة، بل هو مبني على حقيقة ملموسة: أن الله دخل تاريخنا ليخلّصنا من الداخل. بهذا المعنى، التجسّد هو بداية الرجاء الحقيقي، لأنه يعلن أن الله ليس غريبًا عن معاناة الإنسان، بل هو حاضر فيها، يشاركها ويحوّلها من الداخل. إن الميلاد بهذا المعنى هو دعوة لكل مؤمن أن يفتح قلبه ليستقبل الطفل الذي يحمل خلاص العالم، ليصبح الرجاء خبرة شخصية وواقعية في حياة الإنسان.
وقد أوضح البابا فرنسيس هذا البعد حين قال: «الله لا يخلّصنا من فوق بقوة، بل من تحت بالمحبّة. لا يقتحم العالم بقوة لا محدودة، بل ينزل إلى ضيق حياتنا. لا يرفض ضعفنا، بل يجعله ضعفَه هو». هذا التوضيح يضع الميلاد في قلب موضوع الرجاء، إذ يبيّن أن الله لا يتعامل مع الإنسان من موقع العظمة والسلطان، بل من موقع المشاركة في الضعف، ليحوّل هذا الضعف إلى قوة خلاصية.
وعليه، فإن عبارة «اليوم وُلد لكم المخلّص» تصبح إعلانًا أن الرجاء المسيحي له أساس متين: الله معنا، الله في وسطنا، الله الذي يشارك ضعفنا ليحوّله إلى حياة جديدة. الرجاء ليس فكرة مجردة، بل هو حضور حيّ للمسيح في قلب العالم، يبدأ من المذود ويكتمل في الصليب والقيامة. الميلاد إذن هو بداية الرجاء، والكنيسة حين تحتفل به تعلن أن هذا الرجاء حاضر اليوم كما كان حاضرًا في بيت لحم، وأن كل مؤمن مدعو لأن يعيش هذا الرجاء في قلبه وحياته، ليصبح شاهداً على أن الله قد دخل العالم لا ليزيل الألم من الخارج، بل ليحوّله من الداخل ويجعله طريقًا إلى الحياة الأبدية.
في ختام سنة اليوبيل للرجاء، يُطلب منا أن نكون أبناء الرجاء في كل مكان نعيش فيه. الرجاء هو أسلوب حياة يتجلى في العائلة، والمجتمع، والكنيسة.
1-في العائلة، يعني الرجاء أن نؤمن بأن المحبّة يمكن أن تتجدّد، وأن كل علاقة يمكن أن تُشفى وتُبنى من جديد، مهما كانت التحديات. 2-في المجتمع، يعني الرجاء أن نلتزم بالعدالة، والكرامة الإنسانية، والسلام، وأن نعمل من أجل عالم أفضل. 3-في الكنيسة، يعني الرجاء أن نعيش الشركة والمحبة، ونسير معًا كشعب الله، داعمين بعضنا البعض في الإيمان والخدمة. الميلاد يسلّمنا رسالة واضحة: أن نكون رجالًا ونساءً يزرعون الرجاء في العائلات، في المجتمع، وفي الكنيسة. نحن مدعوّون أن نحمل التعزية لمن هو في الألم، والتشجيع لمن هو محبط، والقرب لمن هو وحيد.
أيها الإخوة الأحبّاء،
إن إعلان الملاك في ليلة الميلاد: «اليوم وُلد لكم المخلّص» (لوقا 2:11) هو من أعمق النصوص الإنجيلية التي تختصر سرّ التجسد والخلاص في عبارة واحدة. هذه الكلمات تحمل في طياتها بُعدًا لاهوتيًا يتجاوز حدود الزمان والمكان، إذ تُظهر أن الله قد دخل تاريخ البشر لا من الخارج ولا بالقوة، بل من الداخل وبالمحبّة، ليحوّل ضعف الإنسان إلى مجال عمل نعمته. إن هذا الإعلان هو في جوهره إعلان عن الرجاء المسيحي، لأن الرجاء ليس فكرة مجردة أو أمنية عابرة، بل هو مبني على حقيقة أن الله صار إنسانًا، وشاركنا حياتنا وظروفنا، ليخلّصنا من الداخل ويقودنا إلى الحياة الجديدة.
إن الميلاد بهذا المعنى هو دعوة إلى الرجاء، لأن الله لم يأتِ ليزيل الألم من الخارج، بل ليحوّله من الداخل، وليجعل من ضعف الإنسان مجالًا لقوة نعمته. الرجاء المسيحي يقوم على هذا الأساس: أن الله معنا، وأن حضوره هو الضمانة أن الظلمة لا يمكن أن تغلب النور، وأن الموت لا يمكن أن يغلب الحياة. ومن هنا يتجدّد التزامنا أن نكون أبناء الرجاء، شهودًا على أن من التقى المسيح لا يمكن أن يعيش في الخوف، بل في الثقة والطمأنينة.
ولترافقنا مريم العذراء، التي تسميها الكنيسة «أمّ الرجاء»، فهي التي قبلت كلمة الله بالإيمان، وفتحت قلبها لتستقبل الطفل الإلهي، وتعلّمنا أن نفتح نحن أيضًا قلوبنا ليستقبلها المسيح. وليمنحنا الطفل يسوع السلام الذي يفوق كل عقل، وليكن يومنا وحياتنا دائمًا مشبعة باليقين الراسخ أن الله معنا، وأن حضوره هو أساس رجائنا وفرحنا. آمين.