موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الجمعة، ١٧ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٥
شجرة الزيتون

أشخين ديمرجيان :

 

"شجرة الزيتون لا تبكي ولا تضحك. هي سيدة السفوح المحتشمة. بظلّها تغطّي ساقها، ولا تخلع أوراقها أمام عاصفة. تقف كأنها جالسة، وتجلس كأنها واقفة" محمود درويش.

 

"أنا بنت الشقاء، وربيبة القسوة، ورفيقة الجفاء، وزميلة الدهر... عاصرتُ الرسل والطغاة، وخلدتني الكتب السماوية والرواة. أنا أنمو في الشقاء، وانتعشُ في القسوة، وأدر في الشدائد" حسن مصطفى.

 

لقد ورد ذكر أهمية شجرة الزيتون في معظم الأديان، وزيتها إعجاز إلهي... وقد استخدم قدماء المصريين زيت الزيتون في الكثير من نواحي الحياة ولإضاءة المعابد. ويُعتقد أنّ زراعة الزيتون بدأت في خلال (1580–1320 قبل الميلاد). وأولى الحضارات التي استخرجت الزيوت بآليّات ميكانيكيّة طبيعيّة هي الحضارة الفرعونيّة وهي نفس الطرق المستعملة حاليًّا تقريبًا. كما كان كبار الشخصيات يغطس في حمام من الزيت المعطّر، وكانت توضع أكاليل من أغصان شجر الزيتون على رؤوس المومياوات .

 

كان زيت الزيتون اختيار النخبة والوجهاء عبر العصور، منذ العصور القديمة، ولأغراض شتّى. استُخدم في طقوس مقدّسة كزيت للتدليك، ولإنتاج العطور ولأهداف طبّيّة متنوّعة. وكان إكليل الزهر الذي يُطوّق عنق المنتصر في الألعاب الأولمبيّة في اليونان مكوّنًا من أوراق الزيتون.

 

في الكتاب المقدّس أوّل ما حملته الحمامة إلى نوح بعد الطوفان كان ورقة شجرة الزيتون (تك 8: 11). لذلك صار غصن الزيتون رمز السلام. وشجرة الزيتون تُشير إلى النجاح والبركة الإلهية (مزمور 52: 8 وار 11: 16 وهو 14: 6). الزيت المقدّس في الكنيسة نور وغذاء ودواء وشفاء: "أَمَرِيضٌ أَحَدٌ بَيْنَكُمْ؟ فَلْيَدْعُ كهنة الْكَنِيسَةِ فَيُصَلُّوا عَلَيْهِ وَيَدْهَنُوهُ بِزَيْتٍ... وَصَلاَةُ الإِيمَانِ تَشْفِي الْمَرِيضَ..." (يعقوب 5 : 14، 15).

 

بلغت أهمّيّة زيت الزيتون أوجها في عهد الإمبراطوريّة الرومانيّة، لدرجة أنّ الأقاليم الجنوبيّة للإمبراطوريّة كانت تُدار ضمن ولايات تسمّى "ولايات زيت الزيتون". واستمرّ الرومان في نشر زراعة شجرة الزيتون في تونس، كإحدى وسائل التوسّع وتطويع الشعوب آنذاك، حيث كانوا يستخدمون أساليب زراعتها لعقد معاهدات سلم مع الشعوب التي يُخضعونها لسلطانهم. وأجمع المؤرّخون على أن العرب تمكّنوا بعد الرومان من تطوير زراعة شجرة الزيتون والتفنّن فيها بإدخال طرق زراعتهم الخاصّة لهذه الشجرة المباركة.

 

بسبب الدور المحوريّ لشجرة الزيتون في حياة التونسيين وسكان منطقة حوض البحر المتوسط، يُعَدّ متحف زيتونة الذي افتُتح سنة 2004م في مدينة "سوسة" في تونس، يُعدّ إضافة جديدة للتراث الثقافيّ التونسيّ.

 

وتُشرف سوسة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط. أسسها الفنيقيّون في الألف الأولى قبل الميلاد (سنة 1101 ق.م.). وهي إحدى المدن التونسيّة المشهورة وتُعرف بـ"لؤلؤة الساحل" بسبب خليجها البحريّ المُميّز، وثروتها السمكيّة الهائلة. أضف إلى ذلك جغرافيا بحريّة مُميّزة، ممّا أدّى ذلك إلى تصنيف سوسة كواحدةٍ من المدن التراثيّة العالميّة عام 1988م لدى مُنظّمة اليونسكو. سواحلها رمليّة ملائمة للنشاط التجاريّ البحريّ ولنشاط صيد الأسماك وللنشاط السياحيّ. أراضيها ملائمة للنشاط الزراعيّ وتربية الماشية. مناخها معتدل صالح لغرس الزيتون. وهي في الوقت الحاضر مركز إداريّ وصناعيّ وتجاريّ وسياحيّ وثقافيّ نشط.

 

يحرص الباحثون والمكتشفون على دراسة المعالم العمرانيّة التراثيّة والتاريخيّة في سوسة، من أجل التعرّف على تاريخ المدينة، والحضارات التي تعاقبت على حُكمها، مثل المتحف الأثريّ الذي تمّ تأسيسه في عام 1951م ويحتوي على العديد من القطع الأثريّة التي تعود إلى مئات السنوات الماضيّة، وأيضاً يحتوي على بقايا جدران، وأعمدة منذ الحُكم الرومانيّ للمدينة، وميناء سوسة الذي تمّ بناؤه في عام 1899م وكانت تستخدمه البحريّة الفرنسيّة في نقل جيوشها، والربط بين فرنسا وتونس.

 

متحف "الزيتونة"

 

ويشمل أدوات الزراعة التقليديّة من مختلف المراحل التاريخيّة لدخول شجرة الزيتون إلى تونس قبل آلاف السنوات... وتجذّرها في الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وفي عادات التونسيين وتقاليدهم، ممّا جعلها محورًا أساسيًّا للنظام الزراعيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والثقافيّ في مناطق كثيرة لا يُستهان بها من البلاد. ويشاهد الزائر في المتحف لوحات نموذجيّة حيّة بالصور عن مراحل زراعة أشجار الزيتون: بدايةً بغرس المشاتل، وانتهاءً في استخراج الزيت. ويتضمّن المعرض لوحات وأدوات قديمة تعطي الزائر صورة كافية وافية عن دور زيت الزيتون واستخداماته الطبّيّة والغذائيّة وفوائده في العلاج الطبيعي...

 

أمّا الدوافع لإنشاء هذا المتحف في "سوسة" ، فقد أوضحها صاحب الفكرة ومدير المتحف السيّد "علي غاديرا" : "إنّ شجرة الزيتون تُعدّ مصدرًا للثراء الاقتصاديّ ورمزًا للسلام، ظلّت رمزًا ساندًا للمجتمع التونسي منذ أقدم العصور". وأضاف : "انّ المتحف يرمي أيضًا إلى الحفاظ على تاريخ وتراث هذه الشجرة "المباركة" للأجيال القادمة، مشيراً إلى ارتباطها الوثيق بمسيرة تونس التاريخيّة منذ آلاف السنين، وصمودها أمام الشعوب التي تعاقبت عليها على مدى 3000 سنة: البربر والفينيقيّون والرومان والبيزنطيّون والعرب والإسبان والأتراك العثمانيّون وغيرهم، ممّن ساهموا في تشكيل الشخصيّة التونسيّة وأضفوا عليها روح التسامح والانفتاح".

 

مصدر شجرة الزيتون

 

وأكّد "غاديرا" أنّ المتحف يقدّم صورة عن تاريخ دخول شجرة الزيتون إلى تونس، موضّحًا أنّها كانت تُزرع في البلاد قبل تأسيس قرطاج عام 814 ق.م، أي قبل وصول الملكة "عَليسَا" الفينيقيّة ابنة ملك صور التي أسست قرطاج. أضاف أنّ أقدم المصادر التاريخيّة الموثّقة المُتوفّرة، تُفيد بأنّ شجرة الزيتون تمّ جلبها إلى فلسطين من بلاد الأرمن "أرمينيا" قبل حوالي 4000 سنة من ميلاد المسيح،  ومن ثمّ نقلها الفينيقيّون إلى اليونان، وفي وقت لاحق إلى شمال أفريقيا، لا سيّما تونس.

 

خاتمة

 

ذُكر الزيتون في الكتاب المقدس حوالي 25  مرّة، بينما ورد ذكر زيت الزيتون أكثر من 160 مرة. وهذا يعكس أهمّيتهما في العهدين القديم والجديد، حيث استُخدما في سياقات متعددة، بما في ذلك الطقوس الدينية وكمصدر للعلاج والغذاء والضوء.

 

كما ترمز شجرة الزيتون إلى الصمود والبقاء في الثقافة الفلسطينية.