موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأربعاء، ٢٩ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٥
في قلب الزحام: عيون المسيح التي لا تغفل عن الفرد

تأمل وإعداد: الدكتور عدلي قندح :

 

المقدمة

 

تهدف هذه الدراسة اللاهوتية إلى تحليل المواقف الإنجيلية التي يظهر فيها السيد المسيح سائراً بين الجموع ثم يتوقف ليتحدث مع شخص واحد، في فعلٍ يحمل دلالات روحية وإنسانية عميقة. ففي خضم الزحام والضجيج البشري، كان المسيح يرى الفرد لا العدد، والوجه لا الكثرة، والقلب لا المظهر. إن هذه المواقف ليست مجرد روايات شفاء أو لقاءات عابرة، بل هي لاهوت عملي يجسد حضور الله في حياة الإنسان اليومية، ويكشف عن طبيعة الخلاص كعلاقة شخصية تقوم على المحبة والإيمان لا على الشكل والطقس.

 

من خلال هذه الدراسة، نسعى إلى إبراز البعد اللاهوتي لهذه اللقاءات التي تُظهر يسوع كالإله المتجسد الذي يتعامل مع الإنسان كقيمة مطلقة، فيدرك حاجته ويستجيب لضعفه ويحوّل ألمه إلى لقاء خلاص. وهي أيضاً دراسة في لاهوت الشخص، أي في كيفية تفاعل الله مع الفرد في سياق الجماعة، حيث يلتقي الإلهي بالإنساني في لحظة صادقة من الرحمة والنعمة.

 

 

أولاً: المواقف المسجَّلة في الأناجيل

 

1. المرأة نازفة الدم

 

• الموقع: متى 9: 20–22؛ مرقس 5: 25–34؛ لوقا 8: 43–48

• الوصف: كانت الجموع تزاحم يسوع، وامرأة مريضة منذ اثني عشر عامًا تقدّمت ولمست هدب ثوبه فشُفيت في الحال.

• النوع: شفاء نابع من الإيمان.

• التحليل اللاهوتي:

في هذا المشهد يتجلى لاهوت اللمسة - لمسة الإيمان التي تتجاوز الحواجز الاجتماعية والدينية. المرأة المريضة تُعتبر نجسة بحسب الناموس، لكن المسيح لم ينبذها، بل أعلن أن القوة الإلهية تخرج استجابةً لإيمانها. هنا يتحول الجسد المريض إلى وسيلة نعمة، ويتحوّل الخوف إلى يقين. قال لها: «ثقي يا ابنة، إيمانك قد شفاك» (متى 9:22). بهذا الخطاب الأبوي الحنون، يدخلها في علاقة بنوّة، ويعيد إليها كرامتها المفقودة.

• الدروس:

المسيح لا يُغفل من يتقدم إليه بإيمان ولو وسط الزحام.

العلاقة مع الله علاقة شخصية لا تذوب في الحشد.

الإيمان ليس فكرة بل فعل يلامس الحياة.

 

 

2. زكا العشار

• الموقع: لوقا 19: 1–10

• الوصف: بينما كان يسوع يمر في أريحا وسط الجموع، صعد زكا إلى شجرة ليراه، فتوقف يسوع ودعاه بالاسم ونزل إليه وأقام عنده.

• النوع: دعوة للتوبة والخلاص.

• التحليل اللاهوتي:

في بيت زكا تتجلى رحمة الله التي تبحث عن الضائع. فالمسيح لا ينتظر التائب، بل يذهب إليه. قال: «اليوم حصل خلاص لهذا البيت، لأن ابن الإنسان جاء ليطلب ويخلّص ما قد هلك» (لوقا 19:9–10). هنا يظهر لاهوت الخلاص كتجسد للنعمة، فالدعوة الإلهية تنزل إلى بيت الخاطئ، والمائدة تصبح مكان المصالحة بين الإنسان والله.

• الدروس:

الله يرى القلب التائب وسط الزحام.

التوبة ليست فكرة بل لقاء حي مع المسيح.

الغفران الإلهي يعيد الإنسان إلى الجماعة.

 

 

3. الأعمى على طريق أريحا (برتيماوس الأعمى)

• الموقع: مرقس 10: 46–52؛ لوقا 18: 35–43

• الوصف: رجل أعمى يصرخ: «يا يسوع ابن داود ارحمني!» رغم محاولة الجموع إسكاتِه، فتوقف يسوع وناداه وشفاه.

• النوع: شفاء وإظهار الرحمة.

• التحليل اللاهوتي:

هنا نلمس لاهوت السمع الإلهي. فالمسيح لا يصغي فقط إلى الكلمات، بل إلى الصرخة المنبعثة من عمق الوجود الإنساني. توقّفه عند الأعمى يرمز إلى توقف الله عند ضعف الإنسان، وإعادة البصر تعني أكثر من شفاء جسدي؛ إنها استنارة داخلية، «نور الإيمان» الذي يبدد ظلمة القلب.

• الدروس:

الله يسمع حتى الهمس الصادق وسط الضجيج.

الإيمان صرخة رجاء لا تُسكِتُها الجموع.

الشفاء الحقيقي هو انفتاح القلب على النور.

 

 

4. المرأة الكنعانية

• الموقع: متى 15: 21–28؛ مرقس 7: 24–30

• الوصف: امرأة أممية تصرخ من أجل ابنتها، فيحاورها المسيح ويشيد بإيمانها العظيم.

• النوع: استجابة لإيمان عابر للحدود.

• التحليل اللاهوتي:

هذا الموقف يمثل لاهوت الشمولية في رسالة المسيح. فالإيمان لا يُقاس بالانتماء الديني، بل بالمثابرة والثقة في رحمة الله. قال لها يسوع: «يا امرأة، عظيم إيمانك! فليكن لك كما تريدين» (متى 15:28). وهكذا فتح الباب أمام الأمم للدخول في عهد الخلاص.

• الدروس:

الله لا يعرف الحدود القومية أو الطائفية.

الإيمان المثابر هو الذي يغيّر مجرى الأحداث.

الحوار الإلهي يكشف عمق العلاقة الشخصية مع الله.

 

 

5. المرأة الخاطئة في بيت سمعان الفريسي

• الموقع: لوقا 7: 36–50

• الوصف: أثناء وليمة مزدحمة، دخلت امرأة خاطئة وغسلت قدمي يسوع بدموعها، فوجه المسيح الحديث إليها وغفر خطاياها.

• النوع: مغفرة ورحمة شخصية.

• التحليل اللاهوتي:

في هذا اللقاء يتجلّى لاهوت الغفران كفعل حب، لا كحكم قضائي. المسيح لا يدين بل يرفع. لقد كشف زيف البر الذاتي لدى الفريسيين، وأعلن أن المحبة تسبق التوبة، لأنها التي تولدها. قال: «مغفورة لك خطاياك… إيمانك خلّصك، اذهبي بسلام» (لوقا 7:48–50).

• الدروس:

الغفران الإلهي يحرر الإنسان من قيود الماضي.

الرحمة أقوى من الدينونة.

من اختبر الغفران أحبّ أكثر.

 

 

6. المرأة السامرية عند البئر

• الموقع: يوحنا 4: 4–26

• الوصف: التقى المسيح امرأة سامرية منبوذة اجتماعياً وكشف لها عن “ماء الحياة”.

• النوع: إعلان روحي عن الخلاص.

• التحليل اللاهوتي:

هذا المشهد من أعمق اللقاءات اللاهوتية في الإنجيل، إذ يكشف المسيح عن ذاته بصفته “الماء الحي” الذي يروي عطش الروح. الحوار مع السامرية كسر الحواجز الدينية والاجتماعية بين اليهود والسامريين. في لاهوت هذا النص نرى أن الله يبادر إلى اللقاء بالإنسان، ويكشف له عن ذاته عبر الحوار لا عبر الإكراه.

• الدروس:

الإيمان يولد من لقاء شخصي مع المسيح.

الله يكشف ذاته لمن يطلب الحقيقة بصدق.

الكرازة تبدأ من القلب الذي ارتوى من الماء الحي.

 

 

7. ابنة رئيس المجمع (يايرس)

• الموقع: مرقس 5: 21–24، 35–43

• الوصف: رئيس مجمع يطلب شفاء ابنته، فيستجيب يسوع ويقيمها من الموت.

• النوع: شفاء وإقامة من الموت.

• التحليل اللاهوتي:

في هذا المشهد يلتقي الإيمان بالرجاء، والموت بالحياة. المسيح الذي يوقف موكبه ليجيب طلب يايرس يُظهر أن سلطانه يمتد حتى الموت نفسه. لاهوت القيامة هنا ليس مؤجلاً إلى الآخرة، بل يبدأ في قلب الواقع عندما يدخل المسيح بيت الإنسان.

• الدروس:

الأمل لا يموت في حضور المسيح.

الله لا يتأخر، بل يأتي في اللحظة التي تكشف مجده.

الخلاص يعيد الحياة إلى البيت والعائلة.

 

 

8. المرأة المنحنية

• الموقع: لوقا 13: 10–17

• الوصف: امرأة منحنية منذ ثمانية عشر عامًا، رآها يسوع فدعاها وشفاها يوم السبت.

• النوع: شفاء بدافع الرحمة.

• التحليل اللاهوتي:

هنا يظهر لاهوت الرحمة مقابل الحرف. فالمسيح يقدّم الإنسان على الشريعة، ويُعيد التوازن بين الطقس والرحمة. قال: «يا امرأة، إنك محلولة من ضعفك» (لوقا 13:12). لقد أعاد إليها استقامتها الجسدية والروحية معًا، لتقف منتصبة أمام الله.

• الدروس:

الله يبادر بالشفاء حتى قبل الطلب.

الكرامة الإنسانية مقدسة فوق كل قانون.

الإيمان يقيم المنحني ويحرره.

 

 

ثانياً: التصنيف العام للمواقف

 

ثالثاً: التحليل العام والدروس اللاهوتية

 

1. الاهتمام بالفرد في قلب الجماعة

اللاهوت الإنجيلي هنا يؤكد أن الله لا يتعامل مع البشرية ككتلة مجهولة، بل كوجوه يعرفها بأسمائها. فكل لقاء من هذه اللقاءات هو كشف عن الإله الذي يرى الفرد وسط الحشد.

 

2. الإيمان كقوة خلاقة

في كل حادثة، الإيمان هو الشرارة التي تُطلق القدرة الإلهية. ليس الإيمان فكرة ذهنية بل علاقة وجودية، يلتقي فيها الإنسان الضعيف بالله القدير.

 

3. لاهوت الرحمة ضد الحرفية

مواقف المسيح تظهر أن الشريعة بلا رحمة تفقد روحها. الرحمة هي الوجه الحقيقي للعدالة الإلهية.

 

4. المبادرة الإلهية في الخلاص

كثير من هذه اللقاءات تبدأ بمبادرة من يسوع نفسه، مما يؤكد أن الخلاص عطية مجانية، لا يُكتسب بل يُستقبل.

 

5. القيادة على مثال المسيح

من يسير في موكب الحياة، عليه أن يرى الإنسان وسط المؤسسة، والوجه وسط الأرقام. هذه المواقف هي مدرسة في القيادة الإنسانية التي تُصغي، وتلتفت، وتُبادر.

 

 

رابعاً: الخلاصة

 

في هذه اللقاءات، نلمس جوهر رسالة المسيح: الله حاضر في تفاصيل الإنسان، يسمع صرخته، ويُعيد إليه كرامته، ويحوّل ضعفه إلى قوة.

 

فمن نازفة الدم إلى زكا، ومن الأعمى إلى السامرية، يعلن الإنجيل أن الخلاص يبدأ حين يشعر الإنسان أنه مرئي ومحبوب ومقصود بالاسم.

 

وهكذا تتجسد أعظم رسالة في هذه المواقف: "الله يرى الإنسان، لا العدد".