موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
تعتبر زيارة البابا لاون الرابع عشر إلى لبنان (30 تشرين الثاني-2 كانون الأول 2025) حدثًا يشكل دعوة للبنانيين إلى الوقوف أمام ذواتهم وضمائرهم وتعاليم الخالق، وإلى التحلّي بالشجاعة اللازمة لالتقاط المبادرة من جديد، في سبيل ترميم ما تهدّم وإحياء روح المصالحة داخل العائلة الواحدة، وبين أبناء المجتمع اللبناني على اختلاف انتماءاتهم. فالوطن، الذي يئنّ تحت ثقل الانقسامات، يحتاج إلى وساطات صادقة تُعيد جمع القلوب قبل أن تجمع المواقف.
لا شكّ في أن التحضير لاستقبال الحبر الأعظم في بلاد الأرز مناسبة ثمينة لإعادة صياغة العلاقات الإنسانية بين أفراد الشعب الواحد وفرصة لإطلاق مرحلة جديدة تُبنى على الاحترام المتبادل، والاعتراف بالأخطاء، والانفتاح على الآخر. إنها لحظة ينبغي أن تتحوّل إلى دعوة جماعية لإيقاظ الضمير الإنساني وإعادة تنشيط ثقافة الوساطة، التي تُصلح ما أفسده الزمن وتُرمّم الجراح المخفية في القلوب.
في لبنان، حان وقت قيام خطوات إيجابية تُعيد بناء الجسور، مستفيدين من حضور البابا ومن التفاعل البنّاء مع كلماته المُفعمة بالرجاء والأمل. حضوره ليس مجرّد زيارة، بل صرخة روحية تهزّ الأعماق، وتدعو كل فرد إلى مراجعة ذاته وسلوكه وموقعه من مسؤولية الإصلاح. فهل ننتظر أن تكشف توجيهاته الحكيمة ضعفنا وتعرّينا؟ أليس الأجدى أن نبادر نحن، بلا تسويف، إلى تصحيح مسيرتنا قبل أن يُسائلنا: ماذا فعلتم بإنسانيتكم؟ وبالرسالة التي أُوكلت إليكم في هذا العالم؟"
لنتدارك أوضاعنا التي تحتاج اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى بصيرة نافذة وتوبة صادقة وإرادة فعلية قبل أن تنهار القيم وتتلاشى المعايير. ولنعتبر أنّ زيارة البابا ليست حدثًا عابرًا، بل فرصة لتجديد العهد مع ذواتنا، ومع بعضنا البعض، ومع وطنٍ يحتاج إلى نهضة أخلاقية وروحية تُعيد إليه وجهه الحقيقي. أوليس عالمنا اليوم، بكلّ ما فيه من تسارعٍ وضجيجٍ وتشتّت، بحاجةٍ إلى مزيدٍ من "الوساطات"؟ وساطات لا تتعلّق بوقف حربٍ بين دولتين فحسب، بل وقف الحروب الصغيرة التي تنفجر يوميًا داخل الإنسان، في بيته، في فكره، في مجتمعه. نحن نعيش زمن الانهيار النفسي والفكري والاجتماعي والروحي، كأن الإنسانَ المُعاصر فقد توازنه بين ما يملِك من علمٍ وتقنية، وما يحتاجُ من رحمةٍ وإنسانيَّةٍ.
كم نحتاج إلى وسطاء سلامٍ في حياتنا اليوميَّة، لا يحملون راية الانتصار على الآخر، بل رايةَ الإصغاء والمُصالحة.
هل يُعقل أن يكره الزوجان بعضهما البعض، بعدما أحبَّا، يومًا، بالشغف نفسه؟ كيف يتحوّلُ الحُبّ إلى كراهيَّة، والتفاهُم إلى جدارٍ من الصَّمت؟ حين ننسى "الآخر"، ننسى ذاتنا، فمن يسعى إلى إلغاء أخيه الإنسان، إنما يُلغي إنسانيَّته أولًا. لا خلاصَ لنا من هذا التدهور إلا بصحوة ضميرٍ حقيقيَّة، تُعيد الإنسانَ إلى جوهره، إلى صورتِه الأولى التي أرادها الخالِق: كائن يحمل المحبَّة لا الحقدَ، السَّلام لا العُنفَ، التفاهُم لا الإلغاء. لا يُفرض السلام بالقوّة أو بالسلاح، بل يُبنى من الداخل، من تربية الضمير على الرَّحمة والعدل، ومن إعادة الثقة بين الإنسان وأخيه الإنسان. لا يجوز أن نقف مكتوفي الأيدي أمام التفكّكٍ والصراعاتٍ والصمتٍ القاتل في عائلاتنا، فالأسرة هي النواة الأولى للسلامٍ، وإذا انهارت، انهار المُجتمع بأكملِه وسار نحو الخراب. من هنا، الوِساطة التي يحتاجُها عالمنا اليوم ليست بين الدول فحسب، بل بين القلوب، بين الإنسان ونفسه، بين الإنسان والآخر، بين الإنسان والله. لنبدأ من البيت، من كلمةٍ صادقةٍ تُعيد الجُسور المهدَّمة، ولنؤمِن بأنّ لا سلام في العالم من دون سلامٍ في القلب.
فالواقع المرير الذي يعيشه مجتمعُنا ليس قدرًا محتومًا، بل نتيجة خياراتنا اليومية: كيف نُحبّ، كيف نُحاور، وكيف نختلف. نحتاج إلى ثورةٍ هادئة، تُعيد ترتيب أولويَّاتنا، فتجعل من الإنسان قيمةً عُليا، ومن الحوار طريقًا، ومن الرَّحمة قاعدةً للحياة المُشتركة. نحن مدعوون إلى أن نكون وُسطاء سلامٍ في حياتنا اليومية، فحين يستيقظ الضمير، يتغيّر الإنسان، ويتغيّر المُجتمع. وحين يصبح الإنسانُ أكثر إنسانيَّة، يُشفى العالم من قسوته، وتُزهر في داخله قيمُ العدالة والرَّحمة والسلام. لنبنِ حضارة الضمير الحيّ، حضارة لا تُقصي أحدًا، بل تجمع المُختلفين على أساس الاحترام، وتُعيد للإنسان وجهه المشرق كما أراده الله: خليفته على الأرض، لا مخرّبًا لها.
ليكن التغيير مسيرَتنا المُشتركة، نحو مجتمعٍ أقلَّ ألمًا، وأكثرَ محبة، وأكثرَ إنسانيَّة.
النجاة من أزماتنا المُتراكمة، لا بدّ أن نُعيد تشكيل وعينا تجاه ما نعيشه يوميًا، وأن نتعامل بجدّ مع واقعنا الملموس والآثار التي يخلّفها، سواء كانت بنّاءة تدفعنا إلى الأمام، أو مُنهكة تُبطئ خطواتنا. فالتغيير يبدأ حين يصبح الإنسان قادرًا على قراءة حياته بصفاء وفهمٍ صادق. ومع الوعي، تأتي القدرة على اتخاذ القرار الحرّ، والرغبة في المبادرة، والالتزام بالعمل الدؤوب، والاحتفاظ بحلمٍ يحرّكنا، وطموحٍ يفتح لنا دروبًا جديدة نحو مستقبل أكثر إشراقًا. عندئذ يمكننا عيش حياة تستحقّ الجهد والتعب، حياة ينمو فيها الإنسان ويزدهر. فهل هذا قابل للتحقّق؟ وهل ما زالت «الحياة الجميلة» ممكنة؟ الجواب رهن قدرتنا على المثابرة وعدم الاستسلام.
على الإنسان مواجهة الإحباط بدل الاستغراق فيه، ورفض العزلة المدمّرة، وخلع ثوب اللامبالاة عنه. عليه العمل بصدق ليحافظ على روحٍ مطمئنة، وفكرٍ متّقد، وعزيمة قادرة على الصمود أمام العثرات. جوهر الإنسان يدعونا إلى حماية الحياة والدفاع عن قيمها، من خلال التمسّك بالكرامة والمبادئ التي تمنح وجودنا معنى واستقرارًا. مبادئ تُبعدنا عن الإيذاء اللفظي والجسدي، وعن السخرية والاحتقار، وعن العنف والقسوة بكل أشكالها. عندما نحترم الآخر ونصون مشاعره، نُعيد للحياة رقيَّها وهدوءها. «كل شيء سيمضي إلى الأفضل، ولو بطريقة مغايرة»… ألا يقود هذا التغيّر إلى إنسانيَّة أكثر نضجًا وعمقًا؟".