موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
كاتب ومحلل سياسيّ
بدعوةٍ كريمة من الأب الحبيب والصديق ميلاد شحاته، وُلِدَتْ هذه الكلمة/الفكرة، عن الكنيسة الكاثوليكيّة الشرقيّة، وهل لديها بالفعل خطابٌ لاهوتيٌّ عربيٌّ حداثيٌّ، لا سِيّما في ضوء الوثائق البابويّة أم تحتاج إلى قراءات عصرانيّة إضافية.
يبدأ التساؤل الأول من عند معنى ومبنى كلمة خطاب، وهو الرسالة المكتوبة أو المنطوقة التي تُوَجَّه إلى شخصٍ أو جهة، وغالبًا المقصود به جمهورٌ في مناسبة بعينها.
من هنا يمكن القول إنّ فكرة الخطاب اللاهوتيّ، تتناول تلاقي العقل والنقل في صلتهما مع الآخر الموافق والمغاير أول الأمر وآخره.
يَعِنُّ لنا، بدايةً، التساؤلُ: "هل فكرة الخطاب اللاهوتيّ الشرقيّ هي فكرة خارجة عن سياق إيمان وفكر ومعتقدات الكنيسة الرومانيّة الكاثوليكيّة الجامعة؟
بالقطع لا، فقد أصدر المجمعُ المسكونيّ الفاتيكانيّ الثاني (1962-1965) مرسومًا خاصًّا بالكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة، يؤكّد على أهمية الحفاظ على تراثها وتقاليدها الفريدة مع الاعتراف بسلطة البابا الرومانيّ.
في هذا الإطار، شَدَّدَ المجمع على ضرورة احترام الكنائس الشرقيّة ككيانات ذات طقوس وأنظمة قانونيّة وتقاليد روحيّة مُميَّزة، وحَثَّ على دعمها وحفظها وتنميتها(1).
هل كان لهذه الكنائس إرثٌ فكريٌّ ومَعِينٌ روحيّ شَكَّلا خطابًا لاهوتيًّا في جذور التاريخ؟
الثابت عند البابا لاون الثالث عشر (1810-1903): "أن التاريخ والتقاليد الكنسيَّة العديدة تشهد شهادةً عالية لما للكنيسة الشرقيّة من خدمات جليَّة في سبيل الكنيسة الجامعة(2).
من هنا، لا يقدّم المجمعُ المسكونيّ الفاتيكانيّ الثاني فقط التقديرَ والثناء الذي يَحِقُّ لهذا التراث الكنسيِّ والروحيِّ فحسب، بل يعتبره أيضًا، وبقوّةٍ، تراثَ كنيسة المسيح بأسرها. ولهذا يعلن بطريقة رسميّة أن من حقِّ الكنائس الشرقيّة والكنائس الغربية بل من واجبها، أن تحكم نفسها وفقًا لأنظمتها الخاصّة الذاتيّة. ذلك أن تلك تفرض ذاتها لجلال قِدَمِها، وتتوافق أكثر مع عادات مؤمنيها وتظهر وكأنها أكثر ملاءمةً لتضمن للنفوس خيرًا أعمق(3).
من هنا، تضحي فكرة الخطاب اللاهوتيّ الشرقيّ، فرضَ عينٍ لا نافلة، إن جاز التعبير، على الشرقيين الكاثوليك، ضمن حالة غنى التعدُّدِيّة، وليس صراع الملامح والمعالم بين شرقيٍّ وغربيٍّ، لا سيّما في أوقات ما يمكننا تسميته بـ"الهويّات اللَّزِجة"، وثيقة ولصيقة الصلة بعالم ما بعد العولمة.
من لاون الثالث عشر، مرورًا بقامات بابويّة سامقات في أعلى علّيّين، نخصُّ بالذكر منهم يوحنا الثالث والعشرين، وبولس السادس باباوَا المجمع الفاتيكانيّ الثاني، الذي غَيَّرَ الأوضاع وبَدَّلَ الطباع كما يقول الجبرتي، نصل إلى البابا الكريوليّ ليو الرابع عشر، الذي دعا في بدايات حبريّته المسيحِيّين الشرقِيّين إلى الوحدة والشفافية، يتأكَّد الدور الكبير لهذه الجماعة المؤمنة كـ"نور للعالم"، تستمر في التألق بالإيمان والرجاء والمحبة، عبر تعزيز الشركة الداخلية قبل كل شيء(4).
من هنا، يبقى حديثُ الخطاب اللاهوتيّ الشرقيّ المعاصر، أمرًا واجبَ الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة.
غير أنَّ الأمر لا يستقيم من دون التوقُّف عند علامة استفهام رئيسة: "هل كان لمثل هذا الخطاب أثرٌ في الماضي؟"
نعم وبكلِّ تأكيد، فقد وُجِدَ لسانٌ عربيٌّ كاثوليكيٌّ شرقِيٌّ، تَمَيَّز بخصوصيّةٍ تاريخيّة وثقافيّة، جعلَتْه مختلفًا عن الخطاب اللاهوتيّ الغربيّ اللاتينيّ، وكذا مغايرًا للاهوت الأرثوذكسيّ البيزنطيّ.
ما بين القرنين السابع والثامن الميلادي، وُجِدَ في الشرق العربيّ مسيحيّون ناطقون باللغة العربية، ومع مرور الزمن، بدا هذا اللسان في إنتاج فكرا لاهوتيّا، لم ينفك يتبلور في خطاب باللغة العربيّة إلى جانب السريانيّة واليونانيّة.
يحتاج الحديث عن هذا الخطاب إلى ساعات مُطَوَّلة، وقراءات قائمة بذاتها، ولا نغالي إن قلنا مؤتمرات فكريّة مُعَمَّقة، مع آباء وعلماء، مفكرين وقديسين، من عند إفرام السريانيّ وثيودور المصيصيّ، إلى يوحنا الدمشقيّ ويحي بن عديّ، بولس البوشي، وإيليا النصيبينيّ، أسطفان الدويهي وجرمانوس فرحات، لويس شيخو وكيرلس مقار، سليم بسترس وغريغوريس لحام، يوحنّا قانصو وبولس نعمان جورج رحمة وفاضل سيداروس، والكثير من الكبار رحم الله من غادرنا وأطال في عمر الأحياء.
ويبقى السؤال محور هذه الكلمة بدون اختصار مُخِلٍّ أو تطويل مُمِلّ: "هل هناك اليوم وفي حاضرات أيامنا(5)، خطابٌ لاهوتيٌّ عربيٌّ كاثوليكيٌّ شرقيٌّ يمكن اعتباره امتدادًا للخطابات التاريخيّة المتقدّمة؟
يمكن القطع بأن هناك حراكًا لاهوتيًّا متجدِّدًا في الجامعات والمعاهد والمراكز العلميّة والثقافيّة الكاثوليكيّة الشرقيّة، كما الحال على سبيل المثال لا الحصر في الجامعة اليسوعيّة ومعهد القديس بولس في بيروت، وفي كلية القديس لاون الكبير في القاهرة، كما في المعهد الإكليريكيّ اللاهوتيّ ببيت لحم ومعهد الدراسات الشرقية للآباء الدومنيكان في القاهرة، والعشرات من مراكز التنوير اللاهوتيّ الكاثوليكيّة الشرقيّة في تقاطعاتها مع الفكر الإيمانيّ والعقلانيّ، نقلًا وعقلًا، فكرًا وفلسفةً، آدابًا وعلومًا، فنونًا واجتماعًا، وجميعها تحاول جاهدةً مخلصةً التساؤل والبحث عن الجواب في الطريق إلى تطوير الخطاب المنشود في عمق الجذور العربية وبنطق لسان الضاد.
على الرغم من ذلك، تظلّ الحَيْرة سائرةً دائرةً حول ما إذا كان لدينا ما يكفي ممَّا هو قائمٌ ليُغْنِي بالضرورة عمَّا هو قادم؟
في تقدير الداعي لكم بطول العمر، القصة باختصار هي أن هناك حاجةً ماسَّة إلى تطوير خطابٍ لاهوتيٍّ كاثوليكيٍّ شرقي يَتَّسق وزمن الوحوش الغرامشي، حيث "العالم القديم يموت، والجديد لم يُولَدْ بعدُ، وما بين العتمة والضوء تظهر الوحوش".
يضيق الوقت عن السرد والعرض الخاصَّيْن بهذا الخطاب، لكنّ أوَّلَ ما يخطر على ذهني، ككاتبٍ يفَكِّر، بشوفينيّة مصريّة مطلقة، وثقافة عربيّة، ناهيك عن جذورٍ روحانيّة كاثوليكيّة الطبع والطابع من المهد إلى اللحد، هو حتمية أن يكون "خطابًا يقدّم تصورًا لهوية لاهوتٍ عربيٍّ متجاوز للطائفيّة والمذهبيّة، للمِلَل والنِّحَل، للأديان والمذاهب".
خطاب قادر على المجاوبة عن سِرّ الرجاء الذي فينا(6).
وبخاصة في زمن النوازل والمستجِدَّات، يشرع الأبواب واسعةً للأمل والرجاء في عصور مخيفة، تكاد تعصف بالإنسانية لصالح الآلة، عبر مخترعات الديكتاتور الخالد، وآوان الـAI وما يستجِدّ.
أتطَلَّعُ إلى خطابٍ لاهوتيٍّ شرقِيّ، لا يخبئ المسيح، سواء في قمقم إيديولوجيّ، ولا إبستمولوجيّ، كما أرفض تقليصه واختزاله في البُعْد الدوغمائيّ الثيولوجيّ فحسب. خطاب فيه مسيحٌ نورٌ للعالم، يجول يصنع خيرًا، ومن حوله رَجْع صدًى لا يتلَكَّأ ولا يتأَخَّر لنبوءة قديمة: "هوذا فتاي الذي اخترتُه حبيبي الذي سُرَّتْ به نفسي، وضعتُ روحي عليه فيخرج الحقّ إلى الأمم، لا يصيح ولا يخاصم ولا يسمع أحدٌ صوتَه في الشوارع، قصبة مرضوضة لا يكسر وكتانًا مدخنًا لا يطفئ، إلى أن يخرج الحقَّ إلى النصرة ، وعلى اسمه تتوكل جميع الأمم".(7)
حلمي بخطاب يتجاوز القاعات المُكَيَّفة، ويسير في طرقات الما بعد أو الفوق إنسانيّ، بحسب الفيلسوف السويدي(8) نيكولاس بوستروم، ويأخذ بعين الاعتبار ثلاثية يوفال نوح هراري(9) "العاقل"، و"الإنسان الإله"، و"21 درسًا للقرن الحادي والعشرين".
في الوقت عينه خطاب لا يوفر التحدّيات الرعويّة والروحيّة، ومساءلة الإيمان بروح العصر، وفهم الوحي بمكيانيزمات الأزمنة، مع الحفاظ على الروح، ومن ثم استنهاض هِمَّة الدور النبويّ للكنيسة عالميًّا.
أؤمن بكنيسة كاثوليكية شرقية، قادرة على أن تكون صوتًا لخطابٍ لاهوتيٍّ صارخ في بَرّيَّة الشتاء الديموغرافيّ القاتل أمميًّا، حيث البشرية تتناقص عدديًّا، والهلع الإيكولوجي المُحَدّق بها، إذ انتقل الكوكب الأزرق من زمن الاحتباس الحراري إلى أوان الغليان القاتل.
خطاب لاهوتيّ للشركة من جديد، حيث كان "جميع الذين آمنوا معًا وكان عندهم كل شيء مشتركًا"(10).
أود أن أختم ملامح هذا الخطاب – الحلم بمشهد من فيلم Angles& Demonsحيث تدور محادثة بين قائد الحرس الفاتيكانيّ العتيد ريختر، والبروفيسور الأميركي اللاديني "روبرت لانغيدون"، يقول فيه الأول موجِّهًا حديثَه للثاني المتسائل بتنَدُّرٍ على المؤسسة الرومانية الكاثوليكية وماهِيَّتِها وهُوِيَّتها: "كنيستي تساعد المرضى، كنيستي تقف بجانب المحتضرين، كنيستي تطعم الجياع .. ماذا تفعل كنيستك يا سيد لانغيدون؟".
ويجيب بنفسه.. عفوًا لقد نسيت أنّه ليس لك كنيسةٌ.
أحلم بخطاب يليق بكنسيتي ويمكن إجماله في كلمة واحدة CONCORDIA، أي وحدة القلب.
خطاب وحدانية القلب التي للمحَبَّة، ذلك أنه إن كان اللهُ محبّةً، فأيّ خطاب خارج هذه المحبة أبوكريفي منحولٌ.
الهوامش
(1) المطران يوسف الخوري AL-manar Magazine.
(2) لاون الثالث عشر، رسالة رسولية "كرامة الشرقيين" 30 تشرين الثاني 1894، رسالة رسولية "العظيمة الخاصة بالثناء"، 20 حزيران 1894.
(3) قرار المجمع الفاتيكانيّ الثاني في الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة. 21 تشرين الثاني 1964.
(4) خطاب البابا لاون الرابع عشر إلى المشاركين في يوبيل الكنائس الشرقيّة
(5) وثيقة المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثاني "في حاضرات أيّامنا".
(6) (رسالة بطرس الرسول الأولى 3: 15).
(7) (سفر إشعياء 42: 1).
(8) إميل أمين: إندبندنت البريطانية:
https://www.independentarabia.com/node/539601/%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A7%D8%AA-
(9) https://en.wikipedia.org/wiki/Yuval_Noah_Harari
(10) سفر أعمال الرسل 2: 44.