موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
حوار أديان
نشر الأربعاء، ٣١ مايو / أيار ٢٠٢٣
خريطة الوحدة الروحية للعالم: الله واحد ومتعدد!

رشيد سعدي – المغرب :

 

نشر الروائي البرازيلي الشهير "باولو كويلو" قصةً جِدَّ قصيرة، ذات دلالات عميقة، مضمونها: "كان الأب يحاول أن يقرأ الجريدة، ولكن ابنه الصغير لم يكفّ عن مضايقته. وحين تعب الأب من شغب ابنه قام بقطع ورقة من الجريدة مطبوع عليها خريطة العالم، ومزقها إلى قطع صغيرة، ثم طلب من ابنه أن يعيد تجميع الخريطة، ظنًّا منه أن الولد سيضيّع يومه كله في جمعها... إلا أنه لم تمرّ خمس عشرة دقيقة حتى عاد الولد وقد أعاد ترتيب الخريطة. فتساءل الأب مذهولًا: هل كانت أمك تعلمك الجغرافيا؟! فرد الطفل قائلًا: لا، لكن كانت هناك صورة لإنسان على الوجه الآخر من الورقة، وعندما أعدتُ بناء الإنسان أعدتُ بناء العالم".

 

من جهتي، أعتقد أنه لا يمكن بناء العالم إلا إذا نحن أعدنا بناء خريطة الوحدة الروحية للإنسان في تعددها وتنوعها؛ ما يسمح بالإمساك بمعنى العالم وترابط الأجزاء والكل، ما دام أن الأديان شجرة من العلاقات المتولدة من أصول واحدة، مع كل الانشقاقات والصراعات.

 

بهذا المعنى عشت منذ بضعة أيام تجربة فعَّالة، التقيت فيها بمؤمنين ومؤمنات ينتمون إلى أربع ديانات أقلية في العالم العربي: البهائية، والزرادشتية، والصابئة المندائية، ثم الإيزيدية. خلال نقاشاتنا استطعت أن أحلَّ ضيفًا على عوالمهم الإيمانية والروحانية، فتعلمت وعرَفت أشياء أبهرتني. ولا أخفي أنني أحسست بدوار معرفي أمام هذه المنظومات الدينية القائمة بذاتها، والمترابطة في الوقت نفسه، عبر روح إلهية عميقة. ثمة مستويات مشتركة تتشارك فيها هذه الأديان، مع اختلاف لغاتها العقائدية، مثل: التصوُّر عن الله، ورحلة السلوك إليه، والنظام الأخلاقي.

 

يعتقد البهائيون أن العلاقة بالله تنبني على الحب؛ إذ إنه يُعْرف من خلال المحبة التي هي التجلي الرحماني، ثم إن قيمة الإنسان تكمن في الخدمة، والشفقة، والرأفة التي تحرر النفس من الضغينة والبغضاء. أما الصابئة، فيرون أن الله يتجلى من خلال الحب. فهو "الحي العظيم"، وجوهر مكنون في الروح الإنسانية، ثم إن طهارة القلب طريق إلى معرفة الله. لذا، يجب على الصابئة أن يكونوا متواضعين، وأن يحبوا للآخرين ما يحبون لأنفسهم. وأما الإيزيدي، فيصف نفسه بـ"عابد الله" الذي يتجلى له، ويتعرف إليه من خلال المحبة والمعرفة. وهي رحلة تصوفية ترتقي فيها روحه إلى مرتبة الكمال والرحمة، فيمشي في الطريق القويم، طريق المحبة والألفة.

 

أما الزرادشتيون، فيعتقدون أن التوحيد الإلهي هو علاقة بـ"الخيّر القدوس"، ومن واجبهم الأخلاقي أن يعيشوا "حياة طيبة"، وأن يتعاملوا مع الآخرين بحب ورحمة، ممتثلين ثلاثة مُثُل عليا: الفكر الطاهر، والكلمة الطيبة، والعمل الصالح. أما الطريق إلى الله، فيتحقق من خلال رحلة التأمل التي تُفضي إلى صفاء الروح والإشراق. ويصف الكاكائية أنفسهم بـ"أهل الألوهة"، ويعيشون التجربة الروحية من خلال الاتصال بين الخالق والمخلوق عبْر مشاعر الحب. لذا، فإن الحق يتجلى من خلال البشر الذين بلغوا درجة سامية من الصفاء والفناء عن الذات. وتعني كلمة "كاكة" بالكردية "الأخ العطوف والرؤوف الخدوم". لذا، فالكاكائي يسعى للابتعاد عن الأنانية والغرور والتكبر.

 

يمكن أن تُعتبر هذه التماثلات العميقة داخل هذه الأديان، ومع الأديان التقليدية الكبرى، تجسيدًا لنظرية وحدة الأديان المبنية على فكرة أن الأديان تجليات إلهية. فالبشر كلهم يفتقرون إلى الله، ويتوجهون إليه. كل أمة فطَرها الله على العبادة، إما بواسطة رسول مرسَل أو رسول ملهَم بالباطن يحقق التوحيد. وكل ما في الوجود يعبد الله. لذا، كما يقول الصوفية العرفانيون: إن الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق.

 

يصبح قلب العارف مرآة جلية، تنكشف فيه معاني كل أديان العالم، كقلب ابن عربي الذي فاض قائلًا: "لقد صار قلبي قابلًا كلَّ صورة، فمَرعًى لغزلان ودَير لرهبان... وبيتٌ لأوثان وكعبةُ طـائفٍ، وألواح توراة ومصحف قرآن... أَدِين بدين الحب أنَّى توجَّهَت ركائبه، فالحب ديني وإيماني". وأيضًا كما يقول جلال الدين الرومي: "قد تجد الحب في كل الأديان، لكن الحب نفسه لا دين له".

 

أعتقد أن معرفة هذا التراث الكوني ونشْرَه، والذي يؤسس للقيمة الروحية للأديان، ويحث على توقير المؤمنين الذين يعيشون تجربة الله داخلها، يمكن أن تُسهِمَا في ترميم العلاقات المنكسرة بين الأديان، في وقت تتقدم فيه الأصوليات، ويَقوى الانكفاء على الذات الدينية. وأتصور أنه إذا ما وضعنا كل هذه الأديان على خريطة الروائي البرازيلي "كويلو"، فإننا سنقوم بإعادة بناء الخريطة الروحية للعالم، حيث كل الأديان أجزاء من نظام تتماثل فيه الأديان مَهْما كان عدد معتنقيها، وحيث الله يتجلى واحدًا ومتعددًا في الآن نفسه، وحيث لا يكون الإنسان المؤمن مجرد قطرة ماء في المحيط، بل إنه المحيط بكماله في قطرة ماءٍ واحدة! والله أعلم.

 

(تعددية)