موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
ثقافة
نشر الأربعاء، ١ فبراير / شباط ٢٠٢٣
تنوعنا الثقافي .. ركيزة للتنمية والوئام

أ. د. هاني هياجنة :

 

الثقافة، بكل تنوعها، هي خزان الابتكار والإبداع الذي لا ينضب، نكتسب منه معرفتنا بالعالم، ونستثمره لإيجاد حلول لقضايانا المعاصرة، فقد تطور البشر وتقدموا بفضل التنوع الثقافي عبر تبادلهم للاكتشافات والابتكارات والخبرات المؤسسية والمعرفية، فمن طبيعة الثقافة أنها في تغير مستمر، وتتطور عبر الزمان والمكان، وتتكيف مع ظروف اليوم.

 

ومع ذلك، فإننا نواجه اليوم أكثر من أي وقت آخر في التاريخ تحديات عالمية متشابكة ومتعددة الأوجه وعالمية، حيث يتسبب تشرذم المجتمعات، وعدم المساواة، والتحيز، والأشكال المعاصرة المعقدة للنزاع، إلى جانب أزمة المناخ والتحول التكنولوجي، في حدوث مثل هذا الاضطراب الذي لن تتمكن المجتمعات من التغلب عليه إلا من خلال سبر غور الإمكانات الهائلة للتنوع الثقافي، وهو أمر ممكن إذا أعطيت جميع الثقافات بنفس القيمة المتساوية.

 

إن كل ثقافة، بغض النظر عن حجم المجتمع الذي يتماهى بها، غنية بالرؤى التي يوفرها التراكم المعرفي المنبعث من عمق التاريخ؛ فتنوعنا الثقافي هو أعظم قوة نتسلح بها كمورد متجدد للبشرية والمجتمعات، وان تقدير التنوع وحماية الثقافات وتعزيزها، كأصل للمجتمعات البشرية وما يميزها عن باقي المخلوقات، أمر حتمي لتحقيق التنمية المستدامة. غُذِّيَ هذا التنوع على مر العصور بالتجارة والهجرات الطوعية، كما أدت عوامل أخرى نحو الاستعمار، والعبودية، والتهجير القسري، والصراعات، إلى تغيير النسيج الاجتماعي للمجتمعات. إن التنوع لا يشير إلى الاختلافات الناتجة عن وجود مجتمعات ثقافية أو عرقية مختلفة وحسب، بل ينهض دليلًا على تجارب حياتية مختلفة تتجاوز الحدود الوطنية، ولا يخفى علينا هنا دور التقنيات الرقمية التي ربطت بين البشر بطريقة غير مسبوقة في وقتنا الحاضر، فخلقت مجتمعات جديدة عابرة للحدود والقارات.

 

لا تنفك الثقافة عن ديمومة التطور حسب الظروف والمعطيات الاجتماعية والاقتصادية والدينية والتاريخية عاكسة تاريخ الدول والمجتمعات، والجماعات البشرية، وأعرافها ومؤسساتها، ومواقفها، وحركاتها الاجتماعية، وصراعاتها، وهجراتها، وتشكيلات سلطاتها السياسية. وتجد الدول نفسها أحيانًا في حيرة من أمرها لمعرفة كيفية الاستجابة الحكيمة للتحديات المفروضة بسبب الاختلافات الثقافية، والبحث عن الطرائق الفضلى لاستثمار التنوع الثقافي من أجل المصلحة المشتركة، وإعادة ترتيب الأولويات المتنافسة على المستويات المختلفة. فأين تقع الثقافة إذًا في المجموعة الشاملة من السياسات العامة؟ أظهر لنا التاريخ أنه بعد أي حدث صادم، لجأت المجتمعات والشعوب إلى الثقافة للعثور على ردود وإجابات وحلول، وكلنا يعرف أن إنشاء منظمة اليونسكو جاء بسبب الاقتناع بأن إعادة بناء المجتمعات بعد الحرب العالمية الثانية لا يمكن أن يتم من خلال الوسائل السياسية، والاقتصادية وتجديد الأفكار والتضامن فقط، بل من خلال استثمار "تنوعنا الثقافي المثمر"

 

التنوع الثقافي إذًا هو إحدى السمات البارزة للمجتمعات المعاصرة، فهو ماثل في كل مكان وزمان؛ فكل منطقة، أو بلد، أو مركز حضري، أو حيز مكاني يتميز بمظاهر التعايش الثقافي، فهو مظهر إنساني تزايد وتعمق بسبب زيادة تنقل البشر في جميع أنحاء المعمورة، فالناس يتحركون باستمرار، ويحملون في نفس الوقت أمتعتهم الثقافية إلى أماكن جديدة، ويلتقون مع أناس من ثقافات أخرى، إلا أنهم، وفي الوقت ذاته، يميلون إلى الاحتفال بخصوصياتهم الثقافية، ويتماهون بها كدليل على حيوية مجتمعاتهم.

 

إن اختلاط الناس واندماج الثقافات وتمازجها ما هي إلا بواعث حثيثة تحفز المجتمعات على إبداع أشكال جديدة مستدامة ولا متناهية من التعابير الثقافية، ليس فقط في إطار ضوابطها الثقافية الأساسية التي ورثتها وانتقلت اليها عبر الزمان والمكان، بل خارج إطارها أيضًا، فتبزغ عندها القدرةُ الفريدة للثقافات على إلهام الناس لإنتاج تعابير ثقافية متجددة، مع بقاء الخطوط الثقافية الاساسية التي تميزها عن بعضها البعض. بالتالي، لا ينبغي النظر إلى الاختلافات الثقافية على أنها عوامل فُرقة، بل محركات للوحدة، وهذا ما يدعونا إلى التفكير في مسألة التنوع الثقافي في إطار الدولة الواحدة، ويزيد من رغبتنا في الازدهار من خلال تجربة "الاختلاف" وليس "الخلاف"، والتطلع الى الترسيم الإيجابي لحدود التفرد الثقافي، وكيفية النظر إلى الاختلافات الثقافية على أنها عوامل إغناء تسهم في التعايش السلمي المجتمعي.

 

أصبح النظر إلى مسألة التنوع الثقافي كفرصة فريدة لاكتشاف الذات في الآخر، دون السعي الى محو سماته الثقافية المُمَيِّزَة له، وعلى ذلك، يتعين علينا أن ندرك جَلالَ هذه المهمة الواقعة على كاهل كافة مؤسساتنا، وخاصة التعليمية منها، في غرس الأخلاقيات التي تراعي حالة التنوع الثقافي وبثها، فهي مَهَمَّةٌ بلا شك نبيلة، ولا يمكن الاستغناء عنها في سياق عالمنا الممزق. فمن شأن ذلك أن يسهم في استثمار الثقافات والاختلافات وتنوعها للعيش معًا، ويعزز إدراكنا لماهية الثقافة وفهمها بمعناها الواسع على نحو أفضل، وما يتصل بها من أبعاد علائقية وتحويلية، فيصبح التنوع الثقافي في هذا المنظور التربوي أرضًا خصبة لبناء تحالفات لتعزيز العدالة الاجتماعية والبيئية، أو لمناصرة فكرة المواطنة العالمية في إطار الاعتراف والاحترام الكاملين للأنظمة الثقافية المختلفة أينما وجدت.

 

ومع التأكيد على التعريف الواسع للثقافة، أعطى إعلان اليونسكو لعام 2001 بشأن التنوع الثقافي نبضًا جديدًا للتعددية الثقافية من أجل ازدهار القدرات الإبداعية التي تدعم الحياة العامة، وذَكَر أن السياسات الخاصة بإدماج جميع المواطنين ومشاركتهم هي ضمانات للتماسك الاجتماعي وحيوية المجتمع المدني والسلام، وأن ذلك قد يتحقق على أفضل وجه في إطار ديمقراطي، آخذين بعين الاعتبار تعريف التنوع الثقافي على أنه القدرة على الحفاظ على ديناميكية التغيير فينا جميعًا، أفرادًا ومجموعات. لذلك لا ينبغي النظر إلى الاختلافات بين الثقافات على أنها أمر مريب، بل سِمَةٌ أساسية تثرينا وتدفعنا إلى الانخراط في اتساع "السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية" للعالم.

 

فالتنوع الثقافي – إن تم استثماره بشكل مناسب - سيغذي الحوار والتفاهم المتبادل، ويطور نماذج جديدة من المواطنة، من خلال توفير الوصول إلى المعرفة المفيدة. ويمكن أن تكون الرموز الثقافية المحلية مصدرًا للتماسك الاجتماعي والسلام، بما في ذلك في البلدان التي شهدت صراعات اجتماعية، وخير ما يثبت ما تعكسه أجندة الأمم المتحدة 2030 للتنمية المستدامة التي ركزت على وضع الاعتبارات الاجتماعية على قدم المساواة مع الاعتبارات الاقتصادية، إذ تعترف هذه الاجندة صراحة بقوة الثقافة ودورها في خطة التنمية الدولية، فقد أكدت الدول الأعضاء على الاعتراف بالتنوع الطبيعي والثقافي للعالم، وأن جميع الثقافات والحضارات يمكن أن تساهم في التنمية المستدامة، وتمثل عوامل أساسية لنجاحها. فالثقافة باعتبارها سِمَة إنسانية أساسية، ليس لها هدف قائم بذاته، ولكن دورها يسهم في تحقيق جميع أهداف التنمية المستدامة، ولا سيما في خلق الظروف التي تفضي إلى تقدير التنوع الثقافي، وإعطاء القيمة الحقيقية لجميع الثقافات على قدم المساواة في فضاء احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية. إنها تساهم أيضًا في السياحة المستدامة التي تحترم الثقافات المحلية، وحماية التراث الثقافي والطبيعي لجعل المستقرات البشرية أكثر شمولاً وأمانًا وتعافيًا واستدامة.

 

ومن الجدير بالذكر أن سياسات التنمية التقليدية، المرتبطة بالنمو الاقتصادي، كانت مدفوعة في البداية بالاعتقاد أنها ستكون قادرة على رخاء الانسان ورفاهيته، والحد من الفقر.

 

وبحلول التسعينيات، كان من الواضح أن النُّهُجَ الموجَّهة نحو النمو الاقتصادي فقط أدت إلى تعميق الانقسامات الاقتصادية والاجتماعية داخل البلدان وفيما بينها، مما كان له الدور في تعريض الاندماج الاجتماعي، وتطور المجتمعات المسالمة والمستدامة للخطر، علاوة على دورها المباشر وغير المباشر في التدمير البيئي المتزايد الذي قاد إلى كوارث طبيعية. كل ذلك أدى إلى تحول واعٍ نحو "التنمية البشرية" بالتركيز على توسيع خيارات الأفراد وتوسيع الحريات، فأُدْخِل مؤشرُ "التنمية البشرية" إلى منظومة الأمم المتحدة لمراعاة أبعاد مختلفة، لا سيما ما يتصل منها بالصحة والتعليم.

 

ولما كان الافراد يعملون معًا ويتعاونون ويتفاعلون بعدة طرق مسترشدين بحبل الثقافة كي تربطهم ببعضهم، وتحدد كيفية ارتباطهم ببيئتهم، فقد تم بناءً على هذا النهج تحديد جميع أشكال التنمية، بما في ذلك التنمية البشرية، استنادا الى العوامل الثقافية، فإذا فهمنا الثقافة على أنها أساس للتنمية وتنفخ الروح فيها، فلا يبقى أمامنا خيار إلا وأن نوسع مفهوم السياسة الثقافية بشكل كبير، وذلك لأن أي سياسة تهدف الى التنمية يجب أن تكون حساسة للثقافة ومستوحاة منها، وعلى هذا النحو أكِّد المشاركون في المؤتمر العالمي للسياسات الثقافية لعام 1982، موندياكولت، بأن الثقافة لا تنحصر في الفنون والتراث فقط، بل هي "المجموعة الكاملة من السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية المميزة التي تميز المجتمع أو المجموعة الاجتماعية، على سبيل المثال لا الحصر الفنون والآداب، بما في ذلك أنماط الحياة، والحقوق الأساسية للإنسان وأنظمة القيم والتقاليد والمعتقدات.

 

إن استخدام الثقافة كمحرك رئيسي للرؤى التنموية الوطنية ليس بالأمر الجديد، فبحلول الستينيات من القرن الماضي، كانت الثقافة دافعا للبلدان المستقلة حديثًا، ومحركًا لمشاريع بناء الأمة، فعلى سبيل المثال، ركزت السياسات في الدول العربية على دور الثقافة في خلق الهوية وبناء الوحدة، وفي منطقة البحر الكاريبي، أصبحت الثقافة أداة مهمة لتحرير غالبية السكان الذين كانوا مستعبدين سابقًا، حيث أن التصالح مع الماضي هو السبيل الوحيد لبناء المستقبل، ولكننا بدأنا نشهد في نهايات القرن العشرين اتجاه السياسات الثقافية إلى زيادة التركيز على مكافحة الفقر والإقصاء، من خلال تعزيز الحقوق الثقافية، وأصبحت حماية التنوع الثقافي لدى كثير من الدول في صميم رؤاها، سعيا نحو ازدهارها على المدى الطويل.

 

في عالمنا اليوم يتعين علينا أن نؤمن بأن تعددية الثقافات وتنوعها هي الأساس المتين للدولة الحديثة، مما يدعونا إلى تمهيد الطريق لضمان "الوحدة في التنوع"، وتجنب التجزئة والتوترات الاجتماعية، وبناء سياسات ثقافية عامة لخدمة مجتمعاتٍ شاملة، تحتضن تنوع جميع المواطنين، بغض النظر عن العرق والأصل والجنس، مع ضمان احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية في بيئة ديمقراطية، وقد شهدنا خلال العقود القريبة المنصرمة تطلعًا لدى صناع القرار في كثير من الدول لتصميم سياسات تثمن التنوع الثقافي كمورد إيجابي للتقدم، وتهيئة الظروف لحشد براعة كافة شرائح المجتمع للمشاركة والمساهمة في بناء مواطَنَةٍ حقيقية، وتزويد الأفراد بالقدرات اللازمة لإحداث تغيير في المجتمع الذي يعيشون فيه لتوسيع مساراتهم التنموية. فلا يقتصر تسخير قوة الثقافة على النماذج الاقتصادية وحسب، ولكنه يتحقق عبر طيف السياسة العامة المتصلة بالتعليم والصحة والتنمية الرقمية والتحول البيئي والتوظيف وغير ذلك، فالثقافة، مدفوعة بقوة التنوع، هي القادرة على بثّ الروح في عملية التنمية البشرية الشاملة، وسد الفجوة بين الطموحات العالمية والآمال المحلية، وتوفير منصات جديدة للحوار بين صانعي القرار والمواطنين.

 

(عمون)