موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
يمكن تلخيص إنجيل اليوم (لوقا 6: 27-38) بعبارة واحدة: طوبى لمن يختتم حياته بحسابات خاسرة. ما زلنا، كما في الأحد الماضي، في الفصل السادس من إنجيل لوقا، حيث يورد الإنجيلي "عظة يسوع الكبرى"، التي تبدأ بمقطع التطويبات. ويأتي نص اليوم مباشرة بعد كلمات يسوع عن "التطويبات" و"الويلات"، ليكون استمرارية مباشرة لها، وكأنه امتداد لرسالتها.
الكلمة التي تتكرر أكثر من غيرها هي المحبّة: "أَحِبُّوا أَعداءَكم" (الآية 27 و35) "فإِن أَحبَبتُم مَن يُحِبُّكم، فأَيُّ فَضْلٍ لَكُم؟" (الآية 32). وإلى جانب ذلك، نجد سلسلة من الأفعال التي تندرج ضمن مفاهيم المحبة: البركة، العطاء، عدم الرفض، الإحسان، الإقراض، الرحمة، عدم الإدانة، والمغفرة. فالمحبّة تعني كل هذا.
لكن يسوع في هذا المقطع يبرز موقفًا قلبيًا جوهريًا في تطويبة المحبة، وهو المجانية. يجب أن نحب، نعم، ولكن أيضًا أولئك الذين لا يبادلوننا الحب: "أَحِبُّوا أَعداءَكم، وأَحسِنوا إِلى مُبغِضيكُم" (لوقا 6: 27) يجب أن نبارك، حتى الذين يلعنوننا: "بارِكوا لاعِنيكُم" (لوقا 6: 28) يجب أن نعطي، دون انتظار أي مقابل: "كُلُّ مَن سَأَلَكَ فأَعطِه" (لوقا 6: 30) يجب أن نغفر لمن يسيء إلينا، وربما يستمر في إيذائنا. وهذا ينطبق على كل شيء، في جميع مجالات الحياة وعلاقاتنا اليومية.
الأمر لا يتعلق فقط بتعلّم المحبّة، بل بقبول أن المحبّ هو دائمًا في وضع الخسارة. لا يمكننا أن نحبّ ونحن نرجو أن نربح شيئًا في المقابل، فهذا وَهْم. فالمحبة تعني قبول العيش بحسابات خاسرة، بحسابات غير متوازنة، بحسابات مفتوحة.
في الواقع، نجد أن هذا بعيد جدًا عن أسلوب حياتنا. نحن نفعل كل شيء لإغلاق الحسابات، للوصول إلى التعادل: التبرير، المطالبة، الدفع، الاسترداد... كلها تصرفات نقوم بها كي لا نبقى مديونين أو دائنين، ولكيلا يكون لأحد دين علينا.
حتى عندما نحبّ، نريد أن يكون ذلك دون أن ينتقص شيئًا من حياتنا، وإلا فإننا نتوقف عند هذا الحد. ولكن ربما، عند هذا الحد بالذات، تبدأ الحياة الحقيقية.
لكن لماذا نحبّ بهذه الطريقة؟ ما الفائدة من ذلك؟
لدى يسوع إجابة واحدة فقط. المحبّة المجانية ليست قائمة على تحليلات عقلية أو استنتاجات منطقية. لها سبب واحد فقط، وهو سبب إيماني. مخبأً بين سطور الآيات، نكتشف السبب الحقيقي: لأن الآب نفسه يقوم بذلك. حتى حساباته خاسرة: "أَحِبُّوا أَعداءَكم، وأَحسِنوا وأَقرِضوا غَيرَ راجينَ عِوَضًا، فيَكونَ أَجرُكم عَظيمًا وتَكونوا أَبناءَ العَلِيّ، لِأَنَّه هو يَلطُفُ بِناكِري الجَميلِ والأَشرار" (لوقا 6: 35).
إذن، يمكننا أن نقول إنه إذا كانت حساباتنا خاسرة، فسنتمكن من معرفة الرب، الذي خسر كل شيء من أجلنا ومعنا. سنكون أبناءه. وكل ما فقدناه حبًا سيعود إلينا في النهاية كرصيد هائل من معرفة الله، وخبرة حيّة معه؛ وسيجعلنا نحيا حياته نفسها، تلك الحياة التي لا تزول.
إن مكسبنا الحقيقي سيكون فيما استطعنا أن نخسره، سيكون في المحبة المجانية التي منحناها: فكلما خسرنا أكثر، كلما ربحنا أكثر.
الحياة تقدم لنا فرصًا لا حصر لها للخسارة، للمحبة، للخروج من منطق التوازن البشري الذي ينتهي بمنطق العنف والموت. أما طريق المحبة، فهي دائمًا طريق إبداع، لمنح الحياة.
لأن الأمر لا يتعلق بالخضوع للظلم بشكل سلبي، بل بحفظ الأمل في القلب بأن الخير أقوى من الشر، وأنه السبيل الوحيد الذي يجعلنا نؤمن، في معاركنا اليومية، بأن منطق العطاء جميل وجذّاب بما يكفي ليصبح يومًا ما متبادلًا، لصالح الجميع.