موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
يتناول إنجيل اليوم (لوقا 15: 1-3، 11-32) المثل المعروف عن "الأب الرحيم" أو "الابن الضال"، حيث نجد بيتًا يجمع أبًا وولديه.
كمفتاح لفهم هذا النص، ننطلق من جملة نجدها تقريبًا في نهاية المثل، حيث نكتشف أن الابن الأكبر "غضب ولم يُرِد أن يدخل" (لوقا 15: 28). هناك إذن بيت، لكن أحد الأبناء يجد صعوبة في الدخول إليه ويفضل البقاء خارجه.
ونجد أن المشكلة لا تقتصر على الابن الأكبر فحسب، بل حتى الابن الأصغر يعاني من علاقة مضطربة مع هذا البيت، إذ إنه أيضًا خارجه. لقد طلب من أبيه نصيبه من الميراث ورحل: "جَمَعَ الِابنُ الأَصغَرُ كُلَّ شَيءٍ لَه، وسافَرَ إِلى بَلَدٍ بَعيد". (لوقا 15: 13). لا نعرف شيئًا عن المكان الذي ذهب إليه، إلا أنه بعيد عن البيت. كما نعلم أنه، بعد أن ابتعد، لم يجد بيتًا يأويه، بل اضطر إلى خدمة أحد سكان تلك المنطقة، الذي أرسله إلى حقوله ليرعى الخنازير (لوقا 15: 15).
الابنان، رغم اختلافهما الكبير، يشتركان في أمر واحد على الأقل: كلاهما يجد صعوبة في الدخول إلى البيت.
الأول يبدو أنه يبتعد بدافع الحاجة إلى الاستقلال، بحثًا عن حرية بلا قيود أو روابط. لكنه في النهاية، عندما يجد نفسه وحيدًا في فشله، يواجه عقبة أخرى في طريق عودته إلى البيت، تتجسد في هذا الفكر الذي يسيطر عليه: "لَستُ أَهْلًا بَعدَ ذٰلك" (لوقا 15: 19، 21). فهو لم يعد يشعر بأنه يستحق أن يُدعى ابنًا، ولم يعد يرى نفسه جديرًا بالسكن في هذا البيت إلا كأجير أو خادم. الابن الأصغر إذن، يعتقد أنه لم يعد يستطيع الدخول إلى البيت لأنه غير مستحق.
أما الابن الأكبر، فعلى العكس، فهو يرى نفسه مستحقًا لدخول البيت، لكنه لا يريد أن يسكن في بيت يوجد فيه ذلك الأخ الذي يعتبره غير مستحق: "ولما قَدِمَ ٱبنُكَ هٰذا الَّذي أَكَلَ مالَكَ مع البَغايا، ذَبَحتَ له العِجْلَ المُسَمَّن!" (لوقا 15: 30).
وهكذا، لدينا بيت جميل، واسع، ومُرحِّب، لكنه يبقى فارغًا من أبنائه، إذ لا يستطيع أي منهما السكن فيه. يأتي الحل من الأب نفسه، الذي لا ينتظر عودة ابنيه، بل يخرج إليهما بنفسه، يدعوهما بلطف، ويرجوهما أن يدخلا البيت.
يخرج من أجل الابن الأصغر، الذي لم يكف عن انتظاره قط. يخرج ممتلئًا بالفرح، بمحبة لا تحسب الأخطاء، لا تُثقل أحدًا بالندم، ولا تُشعره بالذنب. لا ينتظره داخل البيت، بل يتحرك نحوه، يركض إليه، وعلى الفور يعيد له كرامته كابن، وهي كرامة لم يستطع الزمن ولا البُعد أن يمحوا أثرها: "وكانَ لم يَزَلْ بَعيدًا إِذ رآه أَبوه، فتَحَرَّكَت أَحْشاؤُه وأَسرَعَ فأَلْقى بِنَفسِه على عُنُقِه وقَبَّلَه طَويلًا" (لوقا 15: 20).
ولكنه يخرج أيضًا من أجل الابن الأكبر، طالبًا منه بإلحاح أن ينضم إلى العيد: "فَخَرَجَ إِلَيه أَبوهُ يَسأَلُه أَن يَدخُل" (لوقا 15: 28). لكن هذا الابن أيضًا بعيد، بعيد عن إدراك جمال المحبة التي أغنته دون أن يكون بحاجة إلى كسبها أو استحقاقها.
ابنان، كلاهما خارج البيت، وكلاهما مدعوان للعودة إلى الداخل. وهذه ببساطة صورة حياتنا، وقصة كل إنسان. نحن جميعًا أبناء. وكثيرًا ما نجد صعوبة في السماح لأنفسنا بأن نُحب، بأن نقبل محبة الله والإخوة، لا لأجل ما نفعله، بل فقط لأننا أبناء.
لهذا، يبدأ الله رحلته بالسير نحونا، يخرج بنفسه ليبحث عنا ويعيدنا إلى البيت.
ببساطة، هذا يعني أن الله يختار أن يدخل في غربتنا ليقترب منا حيثما كنا. فيرسل ابنه، يسوع، ليكون رفيق رحلتنا، ويشاركنا أعماق ضعفنا وظروفنا.
يفعل الله ذلك على أمل أن يقنعنا هذا الحب اللامحدود بكرامتنا الأبويّة التي لا تُمحى، وهي كرامة وُهِبَت لنا جميعًا بلا تمييز، كعيد مفتوح للجميع، وكوليمة عرس يمكننا دائمًا العودة إليها.