موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الجمعة، ١١ ابريل / نيسان ٢٠٢٥
تأمل الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا: أحد الشعانين، السنة ج، 2025

بطريرك القدس للاتين :

 

الفقرة الإنجيليّة التي تُقرأ في بداية الاحتفال الإفخارستيّ في أحد الشعانين (لوقا 19: 28-40) تروي لنا دخول يسوع إلى القدس، حيث سيُسلَّم بعد قليل إلى الرومان ليحكم عليه بالصلب.

 

لكن ما يُميّز هذه الفقرة هو أنّها، في معظمها، لا تتحدث كثيرًا عن أحداث هذا اليوم الاحتفالي، بل تتركّز على التحضيرات له (لوقا 19: 29-35). ويتركّز الانتباه بشكل خاص على الجحش الذي يستخدمه يسوع، والذي يُوصَف بميزتين سنتوقف عندهما.

 

الميزة الأولى هي أن هذا الجحش مربوط: هذه الكلمة تتكرر أربع مرات في عدد قليل من الآيات (لوقا 19؛ 30؛31؛33)، وتتكرر لتشير إلى أن التلاميذ سيجدون جحشًا مربوطًا، وعليهم أن يفكّوه.

 

كان ذلك زمنًا كان فيه الشعب في حالة ترقّب كبيرة، (راجع: "وكان الشعب ينتظر" - لوقا 3: 15)، وكان هذا الانتظار يتعلق بمجيء ملك، مسيحٍ يضمن لشعبه السلام. لقد كشف الله ذاته بأنه الملك الحقيقي، لكنّ الشعب أصرّ على أن يكون له ملك كجميع الشعوب. فسمح الله بذلك، ومنحهم ملكًا بصفته مُمثّله، ليكون على رأس الشعب ويؤمّن له السلام.

 

لكن عبر مسيرة التاريخ الكتابي، لم يظهر سوى عدد قليل من الملوك الذين كانوا جديرين بهذه الرسالة، أولئك الذين لم يستسلموا لإغراءات السلطة والثروة. فبدلًا من أن يقودوا الشعب كراعٍ صالح، يفكّ قيده ويقوده إلى المرعى، قاموا بتقييده وظلمه من خلال قرارات ظالمة وخاطئة. وبدل أن يهبوه الحرية والسلام، أورثوه القمع والنفي.

 

لذلك، فإنّ التوق إلى ملك صالح كان في ازدياد، وكذلك الاقتناع بأنّ الملك الصالح لا يمكن إلا أن يكون ملكًا ممسوحًا، أي موهوبًا من الله.

 

ولهذا، فإنّ الإنجيلي يوحنا يسبق رواية دخول يسوع الظافر إلى القدس (يوحنا 12: 12-15) برواية المسحة التي أجريت في بيت عنيا (يوحنا 12: 1-11): يسوع هو الملك الحقيقي، الذي يأتي ليحرّر شعبه. يسوع يأتي إذن ليحلّ، ويفكّ كل رباط للاضطهاد، ليفكّ شعبه من سطوة الشر والعنف، ومن كل ما يُقيّد الإنسان ويمنعه من عيش حرية حقيقية.

 

والجحش الذي يركبه يسوع، يشير أيضًا بوضوح إلى نبوءة زكريا: "إِبتَهِجي جِدًّا يا بِنتَ صِهْيون وٱهتِفي يا بِنتَ أُورَشَليم هُوَذا مَلِكُكِ آتِيًا إِلَيكِ بارًّا مُخَلِّصًا وَضيعًا راكِبًا على حِمارٍ وعلى جَحشٍ، ٱبنِ أتان" (زكريا 9: 9)، وهي نبوءة تُعلن نهاية انتظار هذا الملك الوديع الساعي للسلام، الذي يأتي أخيرًا، جالسًا على جحش ابن أتان.

 

لكنّ انتظارات الشعب كانت تركّز بالأخص على النبوءات التي تتحدّث عن مسيح منتصر، قويّ وغالب. أما نبوءة ملكٍ ومسيحٍ يركب جحشًا، فكانت نبوءة مزعجة، بعيدة عن معايير الترقّب الشعبية.

 

الجحش الذي يأمر يسوع بفكّه، لم يركبه أحد من قبل: "تَجِدانِ جَحشًا مَربوطًا لم يَركَبْهُ أَحدٌ قَطّ" (لوقا 19: 30). لم يشهد تاريخ البشرية من قبل قدوم ملكٍ مستعد لأن يدفع حياته ثمنًا لسلام شعبه. وها هو الأمر يتحقّق الآن، وجمهور من الفقراء يهتف فرحًا وابتهاجًا (لوقا 19: 37-38).

 

لكن حتى في اللحظة التي يسعى فيها الرب للدخول إلى حياة شعبه ليمنحه الخلاص، لا يغيب مَن يحاول أن يعيقه: فالفريسيون، أمام هذا الفيض من الحماس، يطلبون من يسوع أن يُسكِت تلاميذه: «فقالَ له بَعضُ الفِرِّيسيِّينَ مِنَ الجَمْع: يا مُعَلِّمُ، ٱنتَهِرْ تَلاميذَكَ!» (لوقا 19: 39). لكنّ ذلك لم يعد ممكنًا: فحتى إن صمت التلاميذ، وإن خرسوا، كما سيحدث في ساعة الآلام، حين يستبدّ الذهول بالحماس.

 

لكن من الآن فصاعدًا، حتى ما لا يستطيع الكلام، كالحجارة، سيصرخ معلنًا أن الخلاص قد جاء: "فأَجابَ: "أَقولُ لَكم: لو سَكَتَ هٰؤلاء، لَهَتَفَتِ الحِجارَة!" (لوقا 19: 40).

 

يبقى الإنسان حرًّا، على الدوام، في أن يقبل الخلاص أو يرده، لكن يسوع لا يتوقّف عن المضيّ في مسيرته الخلاصية. لقد تحقّقت النبوءة، وذاك الجحش، الذي لم يركبه أحد من قبل، قد وجد أخيرًا الملك الوحيد الجدير بأن يعتليه.