موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٢ ابريل / نيسان ٢٠٢٥
الأب عزيز حلاوة: تطواف الشعانين ليس فلكلورًا... بل ليتورجيا أصيلة
تطواف أحد الشعانين: طقس لا يُلغى

سند ساحلية :

 

في خضم دعوات ظهرت مؤخرًا لإلغاء تطواف أحد الشعانين، خاصة في التجمعات المسيحية في الضفة الغربية، تضامنًا مع أهلنا وأبناء شعبنا في غزة والضفة الغربية، كان لا بد من العودة إلى الجذور اللاهوتية والليتورجية لهذا الحدث.

 

لذلك، كان لـ"نبض الحياة" هذا اللقاء الخاص مع الأب الدكتور عزيز حلاوة، مدير مكتب الليتورجية في البطريركية اللاتينية في القدس، والحاصل على شهادة الدكتوراه في "تراث اللاهوت الليتورجي لكنيسة القدس وليتورجيتها في القرون الخمسة الأولى"، لإلقاء الضوء على أهمية هذا التطواف ومعانيه، وخطورة التنازل عن مكوّن أساسي من هويتنا الفلسطينية المسيحية في الأرض المقدسة.

 

نبدأ من الجذور: متى بدأ تطواف أحد الشعانين في القدس؟

 

أوضح الأب حلاوة قائلاً: تعود جذور تطواف أحد الشعانين في القدس إلى القرن الرابع الميلادي، وتُعد شهادة الحاجة "إيجيريا" من أقدم وأهم المصادر التي توثّق هذا التقليد. فقد زارت الأراضي المقدسة بين عامي 382 و385 ميلادية، وأمضت ثلاث سنوات تتابع وتدوّن بدقة تفاصيل الاحتفالات الليتورجية، في مذكرات كتبتها باللغة اللاتينية، وقد تُرجمت لاحقًا إلى العديد من اللغات. من خلال هذه الوثائق، يتبيّن أن كنيسة القدس كانت قد تبنّت في تلك الحقبة طقسًا مميزًا للاحتفال بأحد الشعانين، يستعيد دخول السيد المسيح الانتصاري إلى المدينة المقدسة من جبل الزيتون، وهو ما يشكّل الجذر التاريخي والروحي لهذا التطواف حتى يومنا هذا.

 

الأب عزيز حلاوة، مدير مكتب الليتورجية في البطريركية اللاتينية في القدس

هل يحمل هذا التقليد طابعًا خاصًا في فلسطين يميّزه عن باقي الكنائس في العالم؟

 

أكد مدير مكتب الليتورجية في البطريركية اللاتينية في القدس أن ما نراه اليوم في القدس هو نتاج دمج لتقليدين ليتورجيين مميزين: الأول هو التقليد الروماني، الذي يُركّز على ذكرى آلام السيد المسيح، إذ يُشكّل أحد الشعانين افتتاحًا لأسبوع الآلام؛ والثاني هو التقليد الأورشليمي الفلسطيني، الذي يتمحور حول دخول المسيح الملوكي والاحتفالي إلى أورشليم من جبل الزيتون. وأشار إلى أن هذا التقليد الأورشليمي انتقل من فلسطين إلى مختلف أنحاء العالم، ابتداءً من القرنين السابع والتاسع، من خلال الكنيسة في روما، ما يؤكد أن الأصل التاريخي لهذا الطقس هو هنا، في القدس.

 

وشدّد على أن هذه المسيرة لا تُعد مجرد رمزية، بل هي طقس ليتورجي حقيقي يستند إلى شهادات تاريخية موثقة. ومع ذلك، فقد انقطع هذا التقليد بعد الحقبة الصليبية بفعل الظروف السياسية، خاصة في العهدين المملوكي والعثماني، حيث تم قمع المظاهر المسيحية في الأماكن العامة وإزالة الصلبان والطقوس من الفضاء العام. وقد أُعيد إحياؤه في عام 1933 على يد البطريرك اللاتيني لويس برلسينا، ومنذ ذلك الحين بات تطواف أحد الشعانين يُمارس حصريًا من قِبل الكنيسة اللاتينية في القدس.

 

إذًا، كيف نُعرّف هذا التطواف من الناحية الليتورجية؟ هل هو جزء من العبادة أم مجرد مظهر رمزي؟

 

شدّد الأب عزيز على أن تطواف أحد الشعانين ليس مجرد فلكلور شعبي أو استعراض اجتماعي، بل هو جزء أصيل من الطقس الليتورجي الخاص بهذا اليوم. فأحد الشعانين، في جوهره، هو قداس يُتلى فيه إنجيل الآلام، ولكن ما يميّزه كاحتفال ليتورجي فريد هو هذا التطواف الذي يُجسّد الدخول الانتصاري للمسيح إلى أورشليم.

 

وأوضح أن حتى اسم هذا اليوم يحمل دلالة روحية عميقة؛ فكلمة "أحد الشعانين" مشتقة من الكلمة الآرامية "هوشعنا"، والتي تعني "يا رب خلّص"، وهو ما كان يهتف به الأطفال والشعب عند استقبالهم للسيد المسيح. وفي الكتابات العربية القديمة، كان يُعرف أيضًا بـ"أحد السعف"، نسبة إلى سعف النخيل الذي رُفِع ترحيبًا بالمسيح. هذه ليست مجرد رموز، بل هي تعبير عن تراث روحي متجذر في نصوص الإنجيل وفي الممارسة الليتورجية للكنيسة منذ القرون الأولى.

أبناء رعيّة لاتين بيت جالا أثناء مشاركتهم احتفال أحد الشعانين في القدس 1953

ما تأثير إلغاء هذا التطواف على الهوية المسيحية؟

 

قال الأب حلاوة: يجب أن نُفرّق بين التضامن والهوية. لا يجوز إلغاء التطواف لأنه ليس مجرد حدث شعبي يمكن الاستغناء عنه، بل هو طقس عبادي وروحي أساسي. تطواف أحد الشعانين يحمل أبعادًا لاهوتية وتاريخية، وهو شهادة حيّة على وجودنا المسيحي في هذه الأرض. إن التنازل عن هذا التطواف هو تنازل عن جزء من هويتنا الروحية والكنسية والوطنية.

 

ما هي رسالة الكنيسة للمسيحيين الذين يدعون إلى إلغاء التطواف هذا العام؟

 

قال الأب عزيز حلاوة: "نحن، كمسيحيين، في قلب معاناة شعبنا، ولسنا بعيدين عن الألم الذي يعيشه أهلنا في غزة والضفة الغربية. لكن التضامن لا يعني أن نُفرّط بطقوسنا الدينية". وشدّد على ضرورة التمييز بين ما هو مظهري واجتماعي وما هو روحي وجوهري، قائلاً: "ما يجب أن يُلغى هي المظاهر الاحتفالية ذات الطابع الاجتماعي، مثل العروض الكشفية أو مظاهر الترف الزائد.

 

وتابع الأب حلوة: أمّا الطقوس الليتورجية، فعلينا أن نحافظ عليها، ونُصلّي من خلالها بقلب واحد من أجل السلام والعدالة". وختم بالقول: "رسالة الكنيسة واضحة: لنحافظ على طقوسنا، لأنها جزء من هويتنا الروحية والوطنية. ولنحوّل هذا التطواف إلى صلاة جماعية من أجل الشعب الفلسطيني، ومن أجل جميع المتألمين في هذه الأرض المقدّسة".