موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
في رسالته إلى "لقاء الصداقة بين الشعوب"، المنعقد حاليًا في مدينة ريميني الإيطاليّة، لفت البابا لاون الرابع عشر الانتباه إلى معرض المخصّص لشهداء الجزائر، الذين من خلالهم، كما قال، "تتجلّى دعوة الكنيسة: أن تسكن البريّة في شركة عميقة مع البشريّة جمعاء، متجاوزة جدران الاختلافات بين الأديان والثقافات، في محاكاة لتجسّد ابن الله وبذله".
وشدّد البابا على أنّ هذا "الأسلوب في الحضور والبساطة وحوار الحياة" هو "الدرب الحقيقي للرسالة". وهو تذكير ثمين وعميق الدلالة، ليس فقط للمجتمعين في ريميني، بل للكنيسة بأسرها. وأكّد أن الرسالة ليست أبدًا "شكلًا من أشكال الاستعراض الذاتي، أو في معارضة الهُويّات، بل هي عطاء الذات، حتى إلى حدّ الاستشهاد، من قِبَل الذين يعبدون ليلًا ونهارًا، في الفرح والشدائد، يسوع وحده ربًا".
ويُظهر المعرض حول شهداء الجزائر، بشكلٍ مؤثر، كيف كرّسوا أنفسهم بالكامل من أجل الشعب الذي عاشوا بينهم: ببساطة، من خلال مشاركتهم الحياة معهم بكل وجوهها، وبشهادتهم عبر الأخوّة والصداقة والقرب والمساعدة العملية. من دون سعي وراء الأضواء، ومن دون القلق بشأن الأعداد، ومن دون الاتكال على استراتيجيات مُخطّط لها بعناية.
ويظهر هذا جليًّا في عظة الأسقف بيير كلافيريه، الذي استُشهد عام 1996. فقبل فترة قصيرة من مقتله على يد متطرّفين إسلاميين، سُئل عن سبب بقائه في الجزائر رغم المخاطر اليوميّة على حياته. فأجاب: "أين يكون وطننا نحن؟ نحن هناك من أجل هذا المسيح المصلوب، ولا لسبب آخر، ولا لشخص آخر! ليست لدينا مصالح لندافع عنها، ولا نفوذ لنحافظ عليه... ليست لنا قوة، لكننا هنا كما لو كنّا عند سرير صديق أو أخٍ مريض، في صمت، نمسك بيده ونمسح جبينه. بفضل يسوع - لأنّه هو من يتألّم، في ذلك العنف الذي لا يرحم أحدًا، المصلوب مجدّدًا في جسد آلاف الأبرياء".
وتابع قائلاً: "أين ينبغي أن تكون كنيسة يسوع -التي هي جسد المسيح ذاته- إن لم تكن أولاً هناك؟ أعتقد أن الكنيسة تموت تحديدًا عندما لا تكون قريبة بما يكفي من صليب يسوع... الكنيسة تُخطىء وتخدع العالم عندما تُقدّم نفسها كقوة من بين قوى أخرى، كمنظّمة -حتى وإن كانت إنسانيّة- أو كحركة إنجيلية مبهرة. قد تتألّق، لكنها لا تحترق بنار محبّة الله."
إنه حكم صارم ورصين: الكنيسة تموت عندما تبتعد عن صليب يسوع، عندما تصبح دنيوية وتحوّل نفسها إلى منظّمة غير حكوميّة، عندما تسعى وراء السلطة السياسية والاقتصادية، عندما تعتمد على الأرقام، عندما تظن أن الرسالة هي مجرد تكرار لاسم يسوع المسيح في كل مناسبة، بدل أن تواجه تحدّي اتّباعه في واقع الحياة، في الخيارات الجذريّة، في خدمة الأقل حظًا. الكنيسة تموت عندما تُحوّل إعلان الإيمان إلى استعراض، وعندما تظن أنها قادرة أن تتألق بنورها الخاص، ناسيةً أنها لا تستطيع إلا أن تعكس نوره هو.
إنّ شهادة شهداء الجزائر -البعيدة كل البعد عن روح البطولة الذاتية الذاتية السائدة اليوم- تُقدّم تحدّيًا وتذكيرًا بجوهر الإنجيل، كعلامة تناقض. وليس من قبيل الصدفة أن البابا لاون الرابع عشر، في ختام رسالته إلى المجتمعين، استعاد كلام البابا فرنسيس وتعليمه: فخيار الاهتمام بالفقراء هو أمر لاهوتي، قبل أن يكون ثقافيًا واجتماعيًا، سياسيًا أو فلسفيًا.
لأنّ الله "اختار المتواضعين، الصغار، الضعفاء، ومن رحم العذراء مريم صار واحدًا منهم، ليكتب قصته في تاريخنا. فالواقعيّة الحقيقيّة هي تلك التي تشمل من ينظرون من منظور مختلف، ومن يلتقطون جوانب الواقع الخفية من مراكز القوة حيث تُتخذ القرارات الكبرى". وبهذا الأسلوب ظل شهداء الجزائر شهودًا حتى النهاية، فامتزج دمهم المسيحي بدماء العديد من المسلمين الذين كانوا ضحايا التطرّف.