موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
عدل وسلام
نشر الأربعاء، ٣ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٥
حول خطط لشرق أوسط جديد بدون الشعب الفلسطيني
✍ كتب مدير تحرير دائرة الاتصالات في الفاتيكان، مقالًا جديدًا حول ما يُسمّى بخطط "الشرق الأوسط الجديد" التي تُطرح اليوم بشكل علني متزايد. وأكد فيه أنّ مستقبل الفلسطينيين لا يمكن أن يُفرض عليهم، بل يجب أن يُقرَّر معهم، مشيرًا إلى أنّ الكرسي الرسولي، الذي اعترف منذ سنوات بدولة فلسطين، يواصل الدعوة لوقف الحرب، وحماية المدنيين، ورفض التهجير القسري، والعقاب الجماعي، والاستخدام العشوائي للقوة.

أندريا تورنييلي :

 

لطالما كان الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني مصدرًا للجدل والاستقطاب. أمّا الحرب الدائرة اليوم في غزة، وما يرافقها من سجالات، فقد جعلت هذا الواقع أكثر حدّة، إن كان ذلك ممكنًا. فالاستقطابات العميقة –وأحيانًا المتطرّفة– تجتاح جزءًا كبيرًا من المجتمعات المدنية في العديد من دول العالم.

 

وكما هو الحال دائمًا في الأزمات، لا يغيب التلاعب والمبالغات والتبسيط المُخلّ، التي في مثل هذا السياق المعقّد قد تُضلّل وتُلحق الأذى. ويظهر ذلك في اللغة المستعملة، وفي الانفعال المفرط، وفي العجز عن محاولة الإصغاء إلى الآخر.

 

جاءت ردة الفعل الإسرائيلية على الهجوم الدموي الذي نفذته حركة حماس قبل ما يقارب السنتين –وهو عمل لا إنساني يُدان بلا أي تحفظ– متوقَّعة. غير أنّها كانت ردة فعل غير متناسبة، تجاوزت كل حدّ أخلاقي مقبول، كما أقرّت بذلك جهات دولية عديدة، وأصوات كثيرة داخل إسرائيل نفسها وفي أوساط يهودية أوسع.

 

وإذا تأملنا الحرب المشتعلة في غزة، وربطناها بما يحدث في باقي فلسطين -أي الضفة الغربية- يتضح أنّ الأهداف تتجاوز الرد على مجزرة 7 تشرين الأول. فالتوسع الاستيطاني، والاعتداءات المتكررة غير المعاقَبة من المستوطنين، والتصريحات العلنية لبعض وزراء الحكومة الإسرائيلية التي تأمل بإنهاء السلطة الفلسطينية، وضمّ جميع الأراضي، وترحيل الفلسطينيين؛ كل ذلك يقودنا إلى الاستنتاج بأن الهدف يتخطى بكثير مسألة القضاء على حماس أو ضمان أمن إسرائيل.

 

ففي الأيام الأخيرة أُقرّت مستوطنة جديدة في منطقة E1، ما يعني تقسيم المنطقة إلى شطرين. وبالمثل، يجري الحديث عن ضمّ المنطقة "ج" من الأراضي الفلسطينية، وهي خاضعة أصلًا لسيطرة إسرائيلية كاملة من دون أن يُعلن ضمّها رسميًّا.

 

وفي هذا السياق المتوتر، تُطرح "خطط" متتالية لـ"شرق أوسط جديد" –بدأت همسًا وأصبحت تُعلن بوضوح- تبدو وكأنها تصوغ نظامًا لا مكان فيه للشعب الفلسطيني. وأحدث هذه الخطط ما يُناقش بشأن تنمية مستقبل غزة، حيث يُراد بناء مدن "ذكية" ومنتجعات فاخرة.

 

ومن اللافت، أنّ الخطة تنص على ما يُسمّى بـ"الإخلاء الطوعي" للفلسطينيين، الذين –إن أرادوا– قد يسمح لهم بالعودة يومًا ما (كذا!). فيما يُخصّص "مناطق خاصة" لمن يرفضون الرحيل. خطة كهذه قد يظن المرء أنها من نسج الخيال العلمي أو سيناريو لفيلم فانتازيا، لكنها –للأسف– واقع يتشكّل أمام أعيننا.

 

ويحزن أن نشهد ضعف المجتمع الدولي وعجز الهيئات متعددة الأطراف عن وقف هذا الانحدار، مع ما يرافقه من تجاهل متعمّد للاتفاقيات الدوليّة، وللاحترام الواجب للقوانين والسلوك الأخلاقي. فيما لم يبقَ سوى لغة القوة – أولًا في الخطاب، ثم في الميدان العسكري.

 

الكنيسة، بطبيعة الحال، لا تملك سلاحًا ولا سلطة لفرض شيء. سلاحها الوحيد هو الصلاة وقوة الإنجيل، اللذان يلزمانها بأن تنطق بكلمة حق واضحة عن الإنسان وحياة العالم. فلا يمكن أن يُبنى المستقبل على القوة، ولا على ازدراء الحياة البشرية، ولا على إنكار تطلع الناس إلى عيش كريم وآمن.

 

هذا ما نريده –ونكرره باقتناع– للإسرائيليين، مع المطالبة الدائمة بالإفراج الفوري عن جميع الرهائن المحتجزين في أنفاق غزة، كما دعا البابا فرنسيس ومن بعده البابا لاون الرابع عشر. ونريده بالقدر نفسه للفلسطينيين في غزة: أن يُعاملوا بكرامة وإنسانية، وأن تُنشأ مناطق خالية من القتال في جميع أنحاء القطاع –مناطق آمنة حقيقية تحت حماية دولية– يجد فيها المرضى والضعفاء والمدنيون العُزّل ملجأً.

 

أمّا "الإخلاءات الطوعية"، أي التهجير القسري؛ والدمار الشامل؛ والموت اليومي؛ وضرب المستشفيات؛ وقتل الأبرياء في طوابير الخبز؛ وغياب أي أفق سياسي يمنح الفلسطينيين كرامة وبيتًا في أرضهم – فهذه كلّها لن تصنع توازنًا في الشرق الأوسط أو سلامًا في المستقبل.

 

ما يجري اليوم محكوم –للأسف– بأن يُنبت جيلًا جديدًا من الناقمين، ويهدد بجولة جديدة من العنف. أما مشاريع التنمية المفروضة على الفلسطينيين كمستقبل يُقرَّر عنهم –بل ربما عليهم أو حتى ضدهم– فلا تعبّر إلا عن غطرسة وعمى. فمستقبل الفلسطينيين لا يمكن، ولا يجب، أن يُبنى إلا بمشاركتهم، أبدًا لا من دونهم.

 

والكنيسة ستبقى، كما هي اليوم، منحنية لمداواة جراح الجميع، ممدوة اليد لكلّ من يريد العمل على بدائل للحياة والكرامة. وستبقى أبوابها مفتوحة دومًا أمام من يرفضون الاستسلام لمنطق الكراهية والحرب، ويسعون بصدقإلى طرق واقعية للسلام.

 

لقد اعترف الكرسي الرسولي، رسميًّا، منذ سنوات، بدولة فلسطين، ولا يمكننا أن نصمت إزاء ما يحدث. ونجدّد هنا كلمات البابا لاون الرابع عشر: نطلب بوقف وحشية الحرب، وبالتوصّل إلى حلّ سلميّ للصراع، وباحترام القانون الإنساني، وبالحماية الواجبة للمدنيين، وبمنع العقاب الجماعي، والاستخدام العشوائي للقوة، والتهجير القسري للشعوب.