"إنّ الله يعاملكم معاملة البنين ومن هو الابن الذي لا يؤدّبه أبوه" (الرسالة إلى العبرانيين 7، 12)

إخوتي وأخواتي الأعزاء٬

بهذه الكلمات يخاطب كاتبُ الرسالة إلى العبرانيين، وهي إحدى الرّسائلِ في اﻹنجيل المقدس٬ جماعةً مسيحيّة كانت تُعاني من الاضطهاد ليشدّد عزيمَتها٬ فلا تقع في لُجّةِ اليأس. نحن إذًا هنا أمام مربٍ٬ هو الله٬ وأمام أناسٍ بحاجةٍ إلى التأديب والتّشجيع في آن٬ هم أبناء آدم٬ ونحن مثلهم.

وما أجملَ أن نستهلَّ مؤتمرَنا بخاطرة مِن عالَم الرّوح كهذه ترتبط بموضوع لقائنا٬ وتُلقي على ما تصادفه التربية مِن آمال وأحلام وتحدّيات وصعابٍ نورًا يُعطيها معنىً وقيمة.

اتّفقنا خلال الاجتماع التحضيريّ الّذي عقدناه عن بُعد في 26 كانون الثّاني المنصرم على مناقشة التّربية، وكان الاختيار موفقًا، فأبناؤنا وبناتنا هم الحاضر والمستقبل في الوقت نفسه، فإن أردنا لهم ولنا سلامًا وأمانَا ورفاهًا، فعلينا أن نربّيَهم تربيةً سليمةً متكاملةً تكوّن أناسًا سوييّن قويّي الشّخصيّة، أحرارًا، محترِمين لحريّة الغيرِ ومنفتحين عليهم ومستعدّين للحوار معهم، مُتسلٍّحين بنور العقل وبالاعتدال وبمقاربةٍ سليمةٍ إلى الدِّين وإلى بقيّةِ أمورِ الحياة.

استهللت مداخلتي بالقول بأنّ الله يربّينا، وأضيف أنّنأ كذلك نربّي أنفسنا، وذلك عن طريق الجَهد المستمرّ للبقاء في الطريقِ الصحيح أو للعودة إليه، وكذلك عن طريقِ الصّلاة والتأمل ومراجعةِ الذات وتقويمها. والآخرُ، أيّا كان، هو مثلُ مرآةٍ نرى فيها أنفسنا، يربّينا عن طريق ما يقوله لنا عن ذاتنا وسلوكنا، وعمّا يستدعي أحيانًا تقويمًا وإصلاحًا.

وقد تعجبون إذا أضفتُ أنّ ابناءنا هم أيضًا يربّوننا. فهم، وبخاصةٍ إذا كانوا بعدُ أطفالا، يتصرّفون بعفويّةٍ وصدقٍ ودونَ أيةِ ازدواجيةٍ او مُحاباة، ويقولون لنا وعنّا ما يمرّ في خُلدهم٬ تأييدًا أو استنكارًا، شكرًا أو عتابًا. وفي هذا السّياق قال السّيد المسيح: "أبناؤكم يحكمون عليكم" (اﻹنجيل بحسَب لوقا 19، 11). وِمن معلّمينا كذلك الحياةُ بحُلوها ومُرّها، بأفراحِها وأحزانِها، بنجاحاتها وإخفاقاتها. ومما عَلِق في الذاكرة، تأييدًا لما أقول، بيتُ شعرٍ: ومن يعشْ يومًا ولا يستفيدُ أعمى البصيرةِ أعمى البصر. ومن هنا فمن المفروض أن يكونَ مرتقيًا في معارج الحكمة من تقدّم به العمرُ ليكونَ شيخًا٬ بحسب أجمل معنىً لهذه الكلمة، ومثالاً للأجيال الشابّة.

ولا يخفى عليكم -وأنا أخاطب نخبةً من أهل الدِّين والفكر والثّقافة- بأنّنا نربّي أولاً وفوقَ كلِّ شيء بما نحن عليه٬ فالكلام إن لم يكن مدعومًا بكينونةٍ مستقيمةٍ فاضلةٍ لا يُجدي نفعًا. ومِن هنا ضرورةُ أن يقترنَ القولُ بالفعل٬ لئلا يقعَ المرءُ في فخِّ النفاقِ والتّناقض٬ ما يفقدُه مصداقيتَه٬ وبالتّالي قدرتَه على التّربيةِ وعلى أيِّ تأثيرٍ في محيطه.

وكوننا نتناول التّربية السّليمة للأجيال الصّاعدة كطريقٍ للسلامِ والتنمية الشّاملة، مركّزين على ضرورة تهيئةِ المعلّمين لتأديةِ رسالتِهم التّربويّة والتّعليميّة، وكذلك على ضرورة مراجعة المناهج المدرسيّة للتربية على الاحترامِ المتبادَل والعيشِ المشترَك٬ وعيونُنا ناظرةٌ الى وثيقة "الاتّفاقيّة التربويّة العالميّة"٬ فلا أخالُ نفسي مبالغًا إن قلت بأنّ إصلاح العملية التربوية هو طريقٌ إلى تصويبِ مسيرةِ المجتمع بأسره، أشخاصًا ومؤسساتٍ وبُنىً تحتيةً وابنيةً وبرامجَ ومناهجَ ومواصلاتٍ واتصالاتٍ وأبحاثًا وغيرَ ذلك.

وإذ أستذكر زيارةَ قداسة البابا فرنسيس إلى بلادكم، الذي قال عن نفسه حينها بأنه قَدِمَ إليها كحاجٍ تائبٍ، فإنّي متأكّد بأنّكم توافقون إن قلت بأنّه أتى أيضًا كمربٍ متواضعٍ متحرّرٍ من كلّ فوقيّة، يُحسنُ النظرَ في عيون مخاطِبيه واﻹصغاءَ إليهم، مُطلقًا بذلك مشاعرَ من التّقديرِ والمودّةِ تغمرُ القلوبَ بالسّلامِ والفرح. وقال قداسته كذلك قُبيل مغادرته بلادَكم بأنه ترك بعضًا من قلبه عندُكم. فلِذا نوجّه شكرنا إلى قداسته من خلال سفيره في العراق، سيادة رئيس الاساقفة ميتجا ليسكوفار، مُصلّين إلى الله من أجل عافية الحبر الأعظم وطول عمره ونجاحه في تأدية رسالته الدّينيّة واﻹنسانيّة نحو المنتمين إلى الكنيسة الكاثوليكية ونحو البشرية جمعاء.

وإذ آتي إلى باب الشكر، كما يُحتِّمُ عليّ الواجب كمنسِّقٍ لهذا الملتقى الخيّر باسم دائرة الحوار ين الأديان في الفاتيكان، فمَن لهمْ على دائرتي وعَليَّ شخصيّا واجبُ الشكر، كُثْرٌ: شركاؤنا في الوقف الشيعيّ وفي الوقف السّنيّ وفي وديوان الوقف المسيحيّ والأيزيديّ والصابئيّ التّابعة لوزارة الشؤون الدينيّة، رئاسةُ الوزراء، وزارةُ الخارجيّة، سَفارةُ العراق لدى الكرسيّ الرسوليّ، القوّاتُ الأمنيّة والقائمون على دار الضّيافة وكلُّ من يقوم بعمله دون أن يظهر على المسرح، السفيرُ البابويّ لدى الجمهوريّة العراقيّة ومساعدُه، أعضاءُ الوفد الكاثوليكيّ٬ بدءًا برؤساءِ الكنائس المسيحيّة وممثّليها، والمحاضرون وبقيّةُ أعضاء الوفد. فلكم جميعًا من الله المكافأة، ومنّي ومن دائرة الحوار بين الأديان، التي أتشرّفُ بتمثيلها، بالإضافة الى الأب لوران باسانيز، العرفانُ والتّقديرُ والمودّة.

وهل يُمكنني أن أنُهي كلمتي دونَ أن أتطرّق إلى إبراهيم إبن هذه الأرض وأبي الآباء؟ يمكننا أن نقرأ حياتَه كإنسانٍ اختاره الله لرسالةٍ فريدة، فأخذه مِن يده وأخذَ بيده طالبًا منه أن يتخلّى عن أهله وعشيرته وشعبه وأرضه، وينطلقَ إلى أرضٍ غريبةٍ وقومٍ لا يعرفهم، في مغامرةٍ شاقةٍ وشيّقةٍ في آن، هي، أقلَّه إلى حدٍ ما، مغامرةُ كلٍّ مِّنا. فعلّنَا نُعيد قراءةَ حياةِ إبراهيم كإنسان اصطفاه الله وقاد خُطواتِه وربّاه ليُصبح خليلَه٬ وأبًا لعددٍ كبيرٍ من الأمم٬ وبركةً لبني البشر جميعًا. فلنكن، أخواتي وإخوتي، أناسًا جديرينَ بالله خالِقنا، وبإبراهيمَ أبينا، طالبينَ من الله التوفيق٬ وِمن أبي المؤمنين البركة!