موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
حوار أديان
نشر الإثنين، ١٠ مارس / آذار ٢٠٢٥
الكاردينال لويس روفائيل ساكو يكتب: الديانة لا تُلغي الهويّة
كنيسة إبراهيم بمدينة أور

كنيسة إبراهيم بمدينة أور

البطريرك الكلداني :

 

الديانة، علاقة إيمان صميمية مع الله، علاقة حرّة نابعة عن الوعي والقناعة والحبّ، وليس عن إكراه. فنحن جميعاً، من أي دين كُنّا، نترجم إيمانَنا من خلال صلاتنا العميقة، والتزاماتنا الأخلاقية. كما يفرض الدين علينا إقامة علاقات طيبة مع الآخرين، واحترام خصوصيتهم وتنوّعهم، وخدمة من يحتاج المساعدة (الزكاة – الصدقة). لذا أن الدين لا يُحدِّد الهوية القومية والوطنية، إنما يركّز على العلاقة الروحية مع الله، وعلاقة أخوية رحيمة مع الآخرين. ليس كلُّ عربّي مسلماً!

 

القومية، تقوم على أسس عرقية وتاريخية وحضارية، كالأرض (الوطن) وإرتباط الناس بها، واللغة والثقافة، و”حزمة” من القيم والعادات والتقاليد…الخ. مفهوم القومية والتعبير عنه حديث العهد، يعود الى القرن الثامن عشر، خصوصاً في الثورة الفرنسية التي عزلت الكنيسة عن السياسة، وحافظت على أهميّة الفرد ومدنيّة الدولة ومركزيَّتها في الدستور والقوانين. ومع الوقت أخذ الدين مكانته الخاصة بمعزل عن الدولة، وعُمِّمَ النظام العلماني – المدني في الغرب.

 

 

العراق

 

نجد في تاريخ العراق القديم (بين النهرينMesopotamia ) نوعين من السكان: الحضر يَسكنون المدن والأرياف، والرُحَّل يتنقلون بحثاً عن “الماء والأرض الخضراء. عرفت هذه البلاد موجات هجرة قادمة وأخرى راحلة وفقاً للظروف السياسية والاقتصادية، والحروب المتكررة.

 

سكن هذه البلاد الاكديون والسومريون والبابليون الكلدان والاشوريون والفرس والعرب والاكراد… الخ. العراق متحف كبير قيمته تفوق النفط اذا اُستغِلّت آثاره وكنوزه بشكل صحيح للسياحة!

 

إبراهيم الخليل، كان بحسب الكتاب المقدس، من اور الكلدانية. وهو من أشاع عقيدة وحدانية الله (سِفر التكوين فصل 12 وما بعده). هاجر إبراهيم مع عشيرته الى حرّان ثم الى كنعان (فلسطين). وهناك صار له أولاد وأحفاد، وغدَوا اُمّة. أحد أحفاده يعقوب أنجب 12 إبناً. هؤلاء تكاثروا وصُنِّفوا أسباطاً (عشائر)، وحملوا إسم اليهود نسبةً الى يهوذا أحد أبناء يعقوب.

 

على يد موسى بدأت الديانة اليهودية. غزاهم الآشوريون مع سنحاريب، وبعد سقوط نينوى 612 ق. م. قامت الإمبراطورية الكلدانية (612 – 539 ق. م.) بسبيِهم عام 597 ق. م. الى عاصمتهم بابل. وعندما سمح لهم كورش الفارسي بالعودة الى فلسطين سنة 538 ق.م.، عاد منهم سبطان فقط، والعشرة فضَّلوا البقاء في بلاد ما بين النهرين لانها بلاد الخيرات والحضارات والأمجاد.

 

 

قدوم المسلمين

 

 عندما قَدِمَ المقاتلون المسلمون من شبه الجزيرة العربية، كان سكان وسط العراق وجنوبه كلداناً بنسبة 70% والبقية فرس زرادوشتيين. وكان من بين هؤلاء المسيحيين عرب إمارة الحيرة قرب الكوفة. ومن اُمرائهم المشهورين النعمان بن المنذر والأمير الشاعر امرؤ القيس، وهند الكبرى والصغرى. وفي الحيرة دفن عدد من البطاركة أسلافي (طالع كتابنا سير البطاركة، ط2 بغداد 2023 ص 37، 80، 99).

 

وجد هؤلاء المحاربون المسلمون حضارة عريقة وشعوباً متآخية، وتعرَّفوا على الديانة المسيحية التي تختلف عن بدعة النصرانية التي تعرَّفوا عليها في الجزيرة العربية. في القرن السادس والسابع كانت الأديرة والكنائس والمدارس والبيمارستانات (المستشفيات) منتشرة في طول البلاد وعرضها. انضمَّ الى الإسلام عدد من الكلدان والعرب والآشوريين والفرس فازداد شيئاً فشيئاً عدد المسلمين، لكن الغالبية من المسيحيين حافظوا على هويتهم ولغتهم. الأنظمة والحكومات تتغير، لكن الشعوب تبقى.

 

مع الخلافة العباسية في بغداد، حصل تقدم كبير، وتكوَّنت دولة قوية، عرفت ازدهاراً وأيَّما ازدهار، مما شجع موجات من الهجرة الى العراق. وقد قرَّب الخلفاء اليهم نُخبة من المسيحيين من أهل الكفاءات المبدعين من الكلدان والعرب، وقاموا بتأسيس بيت الحكمة كحُنين بن اسحق، وابنه اسحق وطيمثاوس الكبير وآل بوختيشوع. وترجموا العلوم اليونانية الى السريانية والعربية، ومنها وصلت الى الغرب عِبر الاندلس. انتقل الكرسي البطريركي في زمن الخليفة هارون الرشيد الى بغداد العاصمة في أحد القصور الذي منحه له. وكان الخلفاء الأوائل منفتحين، فعيَّن الخليفة المهدي أبا نوح الانباري المسيحي الكلداني والياً على الأنبار. أين نحن اليوم من هذا الانفتاح والإحتضان؟ إذ نعاني من الاقصاء والتهميش!

 

أما في الشمال، شكل الآشوريون الغالبية العظمى الى جانب الاكراد خصوصاً في الجبال. وبشأن السريان، فعندما فرض الامبراطور جوستينيانس (518-527) عقيدة مجمع خلقيدونيا في مملكته، حارب من رفضها، هاجر عدد مهم من سريان سوريا المسيحيين الأرثوذكس الى بلاد ما بين النهرين وسكنوا تكريت. ويُعدّون أجداد الكثير من التكارتة المعاصرين، ورسم لتكريت مطران سنة 559 وصارت لها رئاسة كنسية تحت اسم مفريان أو جاثليق يتبع البطريرك السرياني في سوريا. ثم هاجروا في القرن الثاني عشر- الثالث عشر الى بلدات سهل نينوى مثل قره قوش وبرطلة.

 

بمجيء المغول في القرن الثالث عشر، فرغت بغداد ومدن الجنوب والوسط من المسيحيين الكلدان الذين التجأوا الى قرى الشمال، كما فرغت الموصل من المسيحيين عام 2014 عندما غزتها عناصر الدولة الإسلامية (داعش)، فهاجروا الى مدن إقليم كردستان أو الى الغرب؟

 

عاد المسيحيون الى بغداد والمدن الأخرى في نهاية العهد الملكي. وفي سبعينيات القرن الماضي، حيث كان في بغداد أكثر من مليون مسيحي حين كان تعدادها 6-7 ملايين. لقد اندمجوا من جديد في بيئتهم وخدموا وطنهم بصدق وإخلاص.

 

 

اليوم

 

العراق متعدد القوميات والأديان. هذا التنوع غنى يمكن ادارته بحكمة وليس بطريقة عنصرية كما فعل النظام السابق بحملة تعريب السكان فدمروا التنوع. وبعد سقوط النظام عام 2003 تكررت نفس العملية عِبر فرض مصطلح “المكوِّنات” الذي يجهض مشروع الهوية الوطنية العراقية، والمواطنة الشاملة، وقسمت الشعب الواحد الى كانتونات. انه خلل بنيوي مؤسف في الحالتين، بينما الأجدر حضارياً واجتماعياً ووطنياً، أن تُشكَّل دولة وطنية مدنية بهوية عراقية، تقوم على الفرد (المواطن) وليس على المكوَّنات. وبذلك يُتاح للجميع بأن يشعروا ان تاريخهم وتراثهم القومي والديني والحضاري هو لهم جميعاً. ينبغي ان يُعتمد في برامج التعليم وليس التعتيم عليه كما هي الحال. وكأن كل شيء حصل بقدوم العرب المسلمين!

 

أنا المسيحي، اعتز اليوم ان أكون جزءًا من الحضارة العراقية بفسيفسائها العرقي والديني والمذهبي وهكذا على المواطنين المسلمين قبول الآخرين والاعتراف بهم في عراقٍ متنوع.

 

اليوم يوجد في الناصرية مجموعة من الأشخاص يسمّون انفسهم كلداناً، لكنهم مسلمون شيعة، فما المشكلة؟ اليس هذا امتداد طبيعي لحضارة العراق الموغِلة بالقدم، وصولاً إلى أبينا إبراهيم الخليل؟

 

إن إدارة هذا التنوع رسالة وجدانية ومسوؤلية تاريخية، تتحملها النُخبة السياسية والحكومية في معالجة التحديات التي تعيق تشكيل الهوية الوطنية بعيداً عن عقلية المحاصصة والطائفية المؤسفة، والاغلبية والأقلية. وذلك بإعتماد مناهج جديدة ومنفتحة في التربية والتعليم والاعلام، والسعي لاستقرار البلد وتوفير الامن والأمان والخدمات.

 

عدم استقرار العراق ليس نصرة لأحد، الكل خاسر. واستقراره رهينٌ بهذا الإصلاح لتشجيع عودة الكثيرين من أصحاب الكفاءات على تنوع مذاهبهم، ممن اختاروا المنفى، ليتغذوا من شريان الوطنية الصافية. واشير هنا الى الأفكار البنّاءة التي طرحتها مؤسسة “مسارات” وكتابات رئيسها الدكتور سعد سلوم.