موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
حوار أديان
نشر الثلاثاء، ٤ مارس / آذار ٢٠٢٥
بشارات آذار... الصوم والصيام لقاء المسيحية والإسلام

القاضي الدكتور محمد نقري :

 

من بشارات هذه السنة، التي تطل علينا بآمال عودة الحياة إلى مؤسسات الدولة، أن يتشارك المسلمون والمسيحيون في صيام هذا الشهر هذا العام.

 

الصيام، وإن كان فريضة إسلامية، يستمد فرضيته من الديانات السماوية التي سبقته. فاليهود يصومون سبعة أيام متفرقة، من بينها صيام يوم الكفارة: وهو اليوم الوحيد الذي أمرت الشريعة اليهودية بالصيام فيه وهو اليوم العاشر من الشهر السابع بحسب التقويم العبري. والغاية من الصيام ليست من أجل الشعور بالجوع والعطش، بل لطلب المغفرة.

 

وأما المسيحيون، فيصومون أربعين يوماً متتالية يمتنعون فيها عن بعض المأكولات والمشروبات إلى فترات معينة في الليل وفي النهار. ومن مستحبات الصيام لديهم عدم إظهار الشقاء والتعب، فيقول السيد المسيح: "وإِذا صُمتُم فلا تُعبِّسوا كالمُرائين فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ، أَمَّا أَنتَ، فإِذا صُمتَ، فادهُنْ رأسَكَ واغسِلْ وَجهَكَ، لِكَيْلا يَظْهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّكَ صائم، بل لأَبيكَ الَّذي في الخُفْيَة، وأَبوكَ الَّذي يَرى في الخُفْيَةِ يُجازيك".

 

إلى جانب هذا الصوم كان الفريسيون يصومون يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع بدافع من تقواهم الخاصة، باعتبار أن الخميس هو يوم ذهاب موسى النبي إلى الجبل لاستقبال الوحي الإلهي، والإثنين هو اليوم الذي عاد فيه من الجبل.

 

وأما الصيام الإسلامي، فكان في بدايته كما تنص بعض الروايات عند مقدم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المدينة في ما يرويه البخاري من أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَهُمْ (اليهود) يَصُومُونَ يَوْمًا يَعْنِي عَاشُورَاءَ فَقَالُوا هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ وَهُوَ يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَأَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ فَصَامَ مُوسَى شُكْرًا لِلَّهِ فَقَالَ: (أَنَا أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ فَصَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ) فكان صيامه أولَ الأمر فريضة، ثم نُسخ الوجوب بفرض صيام رمضان، وصار صيام عاشوراء على الاستحباب.

 

ومهما تكن هذه الرواية في هذا الحديث، فإن القرآن الكريم أمر بصيام شهر رمضان، معتبراً أن هذا الصوم امتداد للصيام الذي كتب على أهل الكتاب، فجاءت الآية مؤكدة استمراريته وفرضيته على المسلمين كافة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

 

 

بين الصوم والصيام

 

وكما في الشرائع السماوية السابقة، فإن هدف الصيام ليس الجوع والعطش، وإنما كبح الرذائل والتسلط على الغرائز والتعلق بالله. لذا فالصيام لا يقوم على الامتناع عن المأكل والمشرب من قبل شروق الشمس إلى المغيب من كل يوم في شهر رمضان، بل عن غضّ العين والأذن والقدمين واليدين وكل أعضاء الجسم عن المحرمات.

 

فالمقصود من الصيام حث المؤمن على الالتفات إلى جوهر عبادة الصيام وروحها ومقاصدها وعدم الاقتصار على القيام بهيئتها وصورتها من الامتناع عن الأكل والشراب وباقي الشهوات الجسدية. فكم من الصائمين من يتعبون أنفسهم بالجوع والعطش فيخلطون طاعتهم بالآثام ويكون صيامهم متابعة وتقليداً، "فربّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع" يقول النبي صلى الله عليه وسلم.

 

ولعل من المفيد التفريق بين مفردتين وردتا في القرآن الكريم: "الصيام" و"الصوم": فالصيام ارتبط بمعنى الامتناع عن الأكل والشراب والعلاقات الزوجية (وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ).

 

وأما الصوم كما ورد في القرآن الكريم لما طلبه الله من سيدتنا مريم عليها السلام عند عودتها تحمل ابنها المولود ببشارة الملك جبريل: (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا).

 

ومعنى الصوم هنا لا يشمل الامتناع عن الأكل والشرب بدليل أن الله طلب من مريم عليها السلام أن تأكل وتشرب وفي الوقت  ذاته عليها أن تنذر له صوماً. فالصوم هنا معناه تجنب الحديث مع البشر مع أن مريم تعرف أنه ما إن يراها قومها حاملةً طفلها حتى يتهموها بالزنى ويفتروا عليها بهتاناً عظيماً، وهي تعلم  أنها بريئة، وأن من الطبيعي عندما تُقذف بالاتهامات فإنها تميل إلى المسارعة للدفاع عن نفسها. ولكن الله أمرها مع ذلك بالسكوت والصبر والطاعة والثقة بأمره لها أن تصوم عن الكلام.

 

فالصوم هو تهذيب وتأديب للروح وامتناع عن أي كلام سيئ وجارح ومهين ومعيب. لذلك، فإن انقضاء الصيام لا يعني انقضاء الصوم باعتبار أنه تدريب دائم للنفس حينما تتعرض للشتم أو الأذى، فإن كان شهر رمضان ولم يصبر الصائم على الأذى وردّ الإساءة بالإساءة، أو باشرها بالقول والعمل فلا يتعدّى نصيبه حينئذ من هذا الشهر إلا الجوع والعطش.

 

 

مسلمون ومسيحيون يجتمعون في أعياد

 

مشتركات إيمانية عديدة يجتمع عليها المسلمون والمسيحيون في هذا الشهر، والذي يليه من الشهور. فما إن يحل يوم الخامس والعشرين من شهر آذار حتى يجتمع المسلمون والمسيحيون في عيد البشارة الوطني المريمي المشترك، الذي تحوّل في غضون سنوات قليلة، منذ إقراره في سنة 2010، ثقافة عالمية تزخر بها المكتبات والوثائق والمقالات والأبحاث والاطروحات العلمية لتجعل منه ركيزة أساسية في التقارب الإسلامي المسيحي.

 

واحتفاءً بهذه المناسبة، أعلنت المرجعيات الدينية المسيحية والإسلامية في مدينة جبيل قبل سنوات عدة يوماً مفتوحاً للمساجد والكنائس مع ما يتخلله من احتفاليات مشتركة. وما إن يمر عيد الشعانين، حتى تعيدنا ذكراه إلى اجتماع النبي محمد مع نصارى نجران في مسجده النبوي، كما أورده ابن هشام في  سيرته أن الأحبار المسيحيين الوافدين إلى الاجتماع استأذنوا النبي للخروج من المسجد لإقامة قداسهم الديني الذي ذكره البعض بأنه كان في مناسبة الشعنينة، فطلب منهم النبي أن يصلوا في مسجده، فكان المسلمون يقيمون صلاتهم حين دخل وقتها في ركن من المسجد، والمسيحيون يقيمون صلاتهم في ركن آخر من المسجد.

 

كذلك، يتلاقى المسلمون والمسيحيون في آخر يوم أربعاء من شهر نيسان للاحتفال معاً في مناسبة يطلق عليها رابعة أيوب. هذه المناسبة تجد ركيزتها في الكتاب المقدس الذي ذكر المرض الذي ابتُلي به النبي أيوب: (فَخَرَجَ الشَّيْطَانُ مِنْ حَضْرَةِ الرَّبِّ، وَضَرَبَ أَيُّوبَ بِقُرْحٍ رَدِيءٍ مِنْ بَاطِنِ قَدَمِهِ إِلَى هَامَتِهِ. فَأَخَذَ لِنَفْسِهِ شَقْفَةً لِيَحْتَكَّ بِهَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي وَسَطِ الرَّمَادِ).

 

وأما في ما ذكره القرآن الكريم، فإن أيوب نال الشفاء بواسطة الماء. وفي تفسير ابن كثير أن الله أنبع عيناً وأمره أن يغتسل فيها فأذهبَ جميع ما في بدنه من الأذى، ثم أمره فضرب الأرض في مكان آخر فأنبع له عيناً أخرى، وأمره أن يشرب منها فأذهب جميع ما في بطنه من السوء، وتكاملت العافية ظاهراً وباطناً (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ* ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ۖ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ*وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ* وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ ۗ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ).

 

هذه الحادثة خلّدها أهالي بيروت دون غيرهم من باقي مدن العالم بطبق من أطباق الحلوى تسمّى "المفتقة"، التي تقدم بمناسبة رابعة أيوب. اعتاد أهل العاصمة اللبنانية إعداد طبق المفتقة خلال الاحتفال بـ«أربعاء أيوب» من كل عام. ومع أن هذه الاحتفالات قد توقفت منذ الستينيات، ما زال البعض يواظب على إحيائها كتقليد جميل.

 

ومن طقوس هذه الاحتفالات التي كانت تقام على شاطئ البحر في بيروت، وتحديداً في منطقتي الرملة البيضاء والأوزاعي البعيدة عن السكن في حينها آنذاك، كان البيروتيون ينصبون الخيام ويمضون يومهم في ظلها احتفالاً بشفاء النبي أيوب، الذي يُحكى أن حكماء ذلك الزمن نصحوه بطمر نفسه في الرمال. أما الأطفال الصغار فكانوا يحتفلون على طريقتهم الخاصة بشفاء أيوب، حين كانوا يرافقون أهلهم إلى الشاطئ، فيلجؤون إلى صنع طائرات من ورق ويلهون بها على الرمال.

 

وما إن يحل آخر يوم أحد من شهر تموز حتى يحتفل المسلمون والمسيحيون في فرنسا وبعض المناطق بذكرى الشهداء القديسين السبعة النيام، أو من يسمّيهم القرآن الكريم "أهل الكهف"، فيتشارك المسلمون والمسيحيون في احتفاليات جماعية بتلاوة النصوص المسيحية والقرآنية التي تمجد ذكراهم بجو مفعم بالمحبة والأخوة والتضامن بين أتباع هاتين الديانتين.

 

لقاءات إيمانية كثيرة تجمعنا مسلمين ومسيحيين في لبنان والعالم. فلنرفع الصلوات والأدعية في هذا الشهر الكريم ليحفظ لنا بلدنا ويصون أمنه بسواعد جيشه وحكمة المخلصين من مسؤوليه وتضامن مواطنيه جميعاً. 

 

(النهار اللبنانية)