موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
أستاذ الدراسات الإسلامية والعلاقات الإسلامية المسيحية لدى الجامعة البابوية الغريغورية، والمعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية في روما
أمضى البابا فرنسيس يوم السبت الثالث من تشرين الأول، رسالةً عامة بعنوان "إخْوة كُلّهم، في الأُخوَّة والصداقة الاجتماعية"، وذلك أمام ضريح القديس فرنسيس الأسِّيزي، الذي يحمل البابا اسمه ويستلهم منه روحانيته. يشير البابا في هذه الرسالة إلى أن فقير أسيزي لم يخُض حربًا كلامية لفرض عقائد معينة، ولكن كان يفيض حبًّا إلهيًّا غامرًا يغيّر الناس ويجمعهم. ما يوحّد الإنسانية يتجاوز الجذر الآدمي، لينغرس في المخلوقية الموصولة بالخالق الواحد. فـ"الخَلق كلّهم عيال الله" كما جاء في الحديث، وما الخَلق إلا نفَسُ الرحمن الذي يسري في جميع مفاصل الوجود؛ ما يقتضي وحدة المأتَى والمصير. فلا أحد ينجو بمفرده، وهذا ما أثبتته جائحة كورونا.
تشير الرسالة إلى أزمة السياسة اليوم، في ظهور النزعات الشعبوية التي تريد أن تكسب الأصوات بأي ثمن، والتي ليست إلا تمثُّلًا سياسيًّا للأنانية (مَصدر الشرور). فيذكِّر البابا بضرورة "الخروج من الذات لنجد في كيان الآخر نموًّا لوجودنا". ليس مطلوبًا من الدين أن يؤسّس حزبًا سياسيًّا، ولكن لا يمكنه أن يتخلّى عن "البعد السياسي للوجود"، بوصفه ضميرًا حيًّا ناقدًا، وبالتعاون مع جميع القوى الاجتماعية الحية.
تُعتبر هذه الرسالة امتدادًا لوثيقة الأخوَّة الإنسانية، التي أمضاها البابا مع شيخ الأزهر أحمد الطيب قبل سنة تقريبًا. وقد ذكر البابا اسم الشيخ، معبّرًا عن امتنانه له. فنجد العديد من المسائل المشتركة بين النصين، مثل: المواطنة الشاملة الحاضنة للتنوع، والدعوة إلى التخلي عن مصطلح "أقلية" لِما يحمله من انتقاص، ما دام الجميع متساوين أمام القانون. أيضًا نجد أنّ الأديان تشترك في رسالة سلام، وأنّ أيّ استخدام للنص الديني لتبرير العنف، إنما هو تحريف للمعنى الأصيل للدين.
لكن، ما يميّز هذه الرسالةَ أنها ذهبت شوطًا أبعد في بعض القضايا، حتى من منظور تاريخ التعاليم الكاثوليكية، مثل: تجاوُز نظرية "الحرب العادلة". فهي دعوة صريحة إلى العنف الجذري، لأن التِّقنية الحربية الحديثة جعلت تَجنّب المدنيين أمرًا مستحيلًا. فالحرب نفي للحقوق وفشل للسياسة، ولا يمكن أن توصف بـ"العادلة". اللاعنف لا يعني الاستسلام للظلم، ولكنه يعني خاصة عدم الخضوع للكراهية التي يفرزها الظلم. و"محبة" الظالم تكون -حسب البابا- بوقف الظالم عن التمادي في ظلمه بالوسائل السلمية، حتى لا يتمادى في إيذاء نفسه أو غيره. ومن الخطوات الضرورية لجعل اللاعنف الجذري واقعًا عمليًّا وليس مجرد أمنيات، إصلاح منظمة الأمم المتحدة لتقوم بدورها في الوساطة وحل النزاعات الدولية، لفرض "قوة القانون" عوض "قانون القوة".
هذه الرسالة تؤكد معارضة الكنيسة لعقوبة الإعدام، إلا أنها تذهب أبعد من ذلك، متسائلةً أَكانَ السجن مدى الحياة إعدامًا بطيئًا للإنسان أمْ لا. يتعلّق الأمر بإصلاح نظام العقوبات والسجون، حتى لا تكون العقوبة محوًا للإنسان، بل تنمية وتنقية وإصلاحًا. بغياب هذه الرؤية تتحوّل السجون إلى مصبّ للحُطام الاجتماعي، وهذا فشل كبير على الصعيد الإنساني. السجون ليست الحل لمشكلتَي الفقر والعنف بين الفقراء، الذين يقعون غالبًا ضحية النظام الجائر.
الديمقراطية أكبر من مجرد إجراءات وترتيبات وقوانين، الديمقراطية ثقافة وقيم. وإسهام الأديان في ترسيخ الديمقراطية بوصفها نمطَ عيشٍ لاعنفيًّا، يكون بالتربية على القيم التي تدعم الديمقراطية والتعايش السلمي بين الأفراد والجماعات، وعلى قيم السلام والرحمة والعدالة والمغفرة. والمغفرة لا تعني محو الذاكرة، بل تعني خاصةً الخروج من منطق الضغينة، بتجاوز الألم والغضب وردود الأفعال العنيفة.
هذه الرؤية النبوية ترى في الأديان ضميرًا إنسانيًّا ضروريًّا لإصلاح مسار الإنسانية، التي تعاني التشظي والانقسام. فالدعوة إلى الأخوَّة ما هي إلا انعكاس للعطش إلى الأخوة ورقة المشاعر ونبلها؛ إذ إن الرسالة تتحدث بمعجزة اللطف والحنان التي تجبر الجروح وتشفي الصدور، حتى يكون المؤمن رحمةً حيةً تمشي بين الناس.
كثيرٌ مما طُرح في الرسالة يمثّل قيمًا إنسانية، صيغت بلغةٍ جامعة، لا تلغي اختلاف الأديان في صيغها العقائدية والشعائرية. فهي دعوة إلى داخل الكنيسة وما يعتري ذلك من نقائص، وكذلك هي دعوة إلى خارج الكنيسة، إلى العالم الأرحب، إلى العائلة الإنسانية قاطبة. يمكن الاعتراض على بعض التفاصيل، ولكنها تظلّ مدعاةً للتفكر، وبابًا مشرَّعًا للنقاش والحوار بين المختلفِين، لأن المشكلة حقيقية وخطيرة. التغيير لا تحقّقه النصوص وحدها -مهما كانت جميلةً أو مقدَّسة-، بل يحقّقه الناس الذين يؤمنون بالقول ويحوِّلونه إلى عمل. وذلك هو دورنا!
(تعددية)