موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الجمعة، ٣ يونيو / حزيران ٢٠٢٢
محاضرات في العهد القديم (سفر الخروج) مع المطران بشار وردة - اللقاء الرابع عشر
"فَأجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسمكَ وَتَكُونَ بَرَكَةً" (تك 12: 2)

أبرشية أربيل الكلدانية :

 

المقدمة

 

قرَّرَ بنو العماليق مواجهةَ الربِّ الإله وإعتراضَ بني إسرائيل وهم في طريقهم إلى لقائهِ في البريةِ. أزالَ الرّبُّ حاجزَ العماليقِ، وبقوته، نجحَ بنو إسرائيل في أولِ اختبارٍ عسكريّ خاضوه ضدّهم مُكرَهينَ، على الرغمِ من أن العداوةَ مع بنو العماليقَ ستتواصل، وسيتواجه الفريقان فيما بعد في أكثر من مناسبةٍ.

 

سنتأملُ أولاً في رواية الإصحاح الثامن عشر من سفر الخروج الذي يستغرِب العديدُ من القُراء وجودَهُ في مثلِ هذا المكان من الكتاب المُقدس! بل إن بعض علماء الكتاب المُقدس يعتقدون أنه ربّما كان من الأنشب أن يكون في مكان آخر ويقترحون وضعهُ بعد الوحي بالوصايا العشر، استناداً إلى قول موسى لحميه يثرون: "إنَّ الشّعب يَأتِي إلَيَّ لِيَسْألَ الله. إذَا كَانَ لَهُمْ دَعْوَى يَأتُونَ إلَيَّ فَأقْضِي بَيْنَ الرَّجُلِ وَصَاحِبِهِ وَأعَرِّفُهُمْ فَرَائِضَ الله وَشَرَائِعَهُ" (خر 18: 15- 16)، وتلك الشرائع التي لم يُوحَ بها بعدُ. ولكنَّ هذا الإصحاح يُقدِّم تعليماً هامّا جداً في مسيرة الشّعب الإيمانية: كيف إستقبلَ العالمُ فعلَ الله المُحرِّر وإنقاذ شعبهِ من عبوديةِ مصر، وكيف يعيش الشّعب هذا الحدثَ الخلاصيّ في تفاصيلِ حياتهم اليومية، فيتوقف الرّاوي في هذا الإصحاح عند مفهومَين أساسيين يُظهران معنى كوننا شعبَ الله: الإيمان والشريعةَ، ففي سفر الخروج (18: 1- 12)، يعترِف يثرون (الوثنيون) بما صنعهُ الله لشعبِ إسرائيل، فيما يتحدّث (خر 18: 13- 27) عن أهميّة القضاء وتثبيت العدالة في حياة هذا الشّعب لئلاّ تعود فوضى مصر لتتحكّم في العلاقات.

 

فبخلاف العماليقِ، قدّمَ المديانيونَ، من خلال كاهنهم، مشاعرَ الاحترام والإكرام لإلهِ إسرائيل فرحّبوا بالشّعب المُخلَّص من ظلمِ مصرَ، بل أنشدوا لهذا الحدث الخلاصيّ العظيم. وجاءَ اعترافُ يثرون بأن جماعةَ الخروجِ؛ أي بني إسرائيل، هم خليقة الله المُفتداة والذي وهبَ لهم حياة جديدة بعد عبودية مصر المُهلِكة، ومع أن اختيارهم من قبل الله كان نعمةً لا استحقاقاً، إلا أن هذا الاختيار لا يُعطيهم امتيازاتٍ خاصّة بين الشعوب، بل يضع على عاتقهم مسؤولياتٍ عالمية لا سيّما استدعائهم للمحاسبة عندما يُخطئونَ: "اسمعُوا هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ عَلَيْكُمْ يَا بَنِي إسرائيل عَلَى كُلِّ الْقَبِيلَةِ الَّتِي أَصْعَدْتُهَا مِنْ أرض مِصْرَ قَائِلاً: "إِيَّاكُمْ فَقَطْ عَرَفْتُ مِنْ جَمِيعِ قَبَائِلِ الأرض لِذَلِكَ أُعَاقِبُكُمْ عَلَى جَمِيعِ ذُنُوبِكُمْ" (عا 3: 1-2).

 

 

لقاء موسى بحميهِ

 

قدّمَ الرّاوي هذه القصّة بعد قصة مواجهة العماليق العسكرية، لكيلا يعتقد بنو إسرائيل أن كلَّ الأُمميين هم أعداءٌ يجب قتلهم، هناك شخصيات تعرِف ما هو الصلاح وتلتزمُ العملَ به، ويثرون واحد منهم، إذ قدّم لإله إسرائيل الإكرام اللائق، ووجّه موسى لتكون رعايته للشعب أكثر فاعلية.

 

ذهبَ موسى إلى مديان عندما هربَ من وجه فرعونَ (خر 2)، وأظهرَ نُبلاً وبسالةً في حماية بنات يثرون من اعتداء الرُّعاة، فاستقبلهُ يثرون واستبقاه عنده ثم تزوّج من ابنتهِ صفّورةَ وبقي أربعين سنةً خارجَ مصرَ قبل أن يعودَ إليها مُكلَفاً برسالةٍ من الله. ومع أن الرّواي قال لنا إن موسى طلبَ السماح من حميه يثرون لينزل إلى مصر (خر 4: 18)، ورافقته صفوّرة وابنها (خر 4: 24- 26)، لكن يبدو أن موسى أرسل عائلتهُ فيما بعد إلى مديان مُكرِّساً نفسه كلياً للمهمّة التي كلّفه الله بها بعد أن اشتّدت العداوة بينه وبين فرعون وهذا ما يُوضحهُ اسم إبنهِ الثاني: "واسم الآخر أليعازر لأنَّه قالَ: "لانَّهُ قَالَ: "إلَهُ أبِي كَانَ عَوْنِي وَأنْقَذَنِي مِنْ سَيْفِ فِرْعَوْنَ" (18: 4)، وهي المرّة الأولى التي يذكر فيها الرّاوي اسم ابن موسى الثاني. ويُعبّر كلا الاسمين عن حالةِ موسى والشّعب، فهو إنسانٌ (شعبٌ) نزيلٌ وغريبٌ، ولكنّهُ مُباركٌ بعون الله، لذا، فهي ليست اسماء فحسب، بل إعترافاتٌ لاهوتية تُعطينا فكرة عن دعوةِ هذا الشّعب وعن مصيره. هو شعبٌ دعاه الله إلى أن يكونَ غريباً في الأرض، وغريباً عن كلِّ الحضارات التي سيعيشُ بينها، ولن يكونَ باستطاعتهِ الحياة من دونِ عونِ الله، فعليه أن يُبقي أنظاره متوجهةً إليه، فمنه العون، فلن يتبنّى عبادات الشعوب ولن يقبلَ بأي خطوةٍ توافقيةٍ مع تقاليدها والتي مراراً ما تكشفِ عن بُطلان إدعاءاتهم، فهم في العالم، ولكنهم ليسوا من العالم كما علّمنا ربّنا يسوع المسيح (يو 15: 19).

 

سمع يثرون بما صنعهُ الربّ مع موسى والشّعب، وكيفَ خلَّصَ الله شعبهُ وقادهُ في البرية (الخلق والفداء والقيامة)، وهذه كانت أخباراً سارّةً للعالمِ أجمع، وليس لإسرائيل فحسب، فصعِدَ لمُقابلة موسى ومُباركة الله وشكره على هذا الحدثِ الكبير عند جبلِ سيناء، جبل الله.

 

كانَ لقاء يثرون بموسى لقاء ودّياً حملَ الكثير من الأخبار المُفرحِة، بل كان اعترافاً إيمانياً بأنَّ الله إنتشلَ هذا الشّعب من طُغيانِ فرعونَ، فأعطى للشعبِ حياة جديدة، وهذا الذي وضّحه موسى من أنَ كلَّ شيءٍ كان بتدبيرٍ من الربِّ الإله بدون أن يُشيرَ إلى جهوده وإسهاماتهِ الخاصة، فصغّر من شخصه ليكبُر الله في عيون يثرون، فتحرّكت مشاعره ومجّد إله إسرائيل:

 

"فَقَصَّ مُوسَى عَلَى حَمِيهِ كُلَّ مَا صَنَعَ الرَّبُّ بِفِرْعَوْنَ وَالْمِصْرِيِّينَ مِنْ أجْلِ إسرائيل وَكُلَّ الْمَشَقَّةِ الَّتِي أصَابَتْهُمْ فِي الطَّرِيقِ فَخَلَّصَهُمُ الرَّبُّ. فَفَرِحَ يَثْرُونُ بِجَمِيعِ الْخَيْرِ الَّذِي صَنَعَهُ إلَى إسرائيل الرَّبُّ، الَّذِي أنْقَذَهُ مِنْ أيْدِي الْمِصْرِيِّينَ. وَقَالَ يَثْرُونُ: "مُبَارَكٌ الرَّبُّ الَّذِي أنْقَذَكُمْ مِنْ أيْدِي الْمِصْرِيِّينَ وَمِنْ يَدِ فِرْعَوْنَ. الَّذِي أنْقَذَ الشّعب مِنْ تَحْتِ ـيْدِي الْمِصْرِيِّينَ. الآنَ عَلِمْتُ انَّ الرَّبَّ أعْظَمُ مِنْ جَمِيعِ الالِهَةِ لانَّهُ فِي الشَّيْءِ الَّذِي بَغُوا بِهِ كَانَ عَلَيْهِمْ". فَأخَذَ يَثْرُونُ حَمُو مُوسَى مُحْرَقَةً وَذَبَائِحَ للَّه. وَجَاءَ هَارُونُ وَجَمِيعُ شُيُوخِ إسرائيل لِيَاكُلُوا طَعَاما مَعَ حَمِي مُوسَى أمَامَ الله" (خر 18: 8-12).

 

"مُباركٌ الرّب (الله)"، عبارة نطق بها يثرون الكاهن الوثنيّ، وما زال يتداولها المتدينون من اليهود عندما يسألهم شخصٌ عن صحتهم، للتأكيد على حقيقة أن الله يستحق الإكرام والشّكرَ في كلّ الأحوال وليس في وقت الرخاء فحسب، فالكتاب المُقدس لا يعرِف إلهاً آخر، ففي فترة السبي لم يقل الشّعب أن آلهة البابليون هم أقوى من إله إبراهيم وإسحق ويعقوب، بل إن الله إستخدمَ البابليون لمُعاقبةِ الشّعب لعصيانهم وتمرّدهم على الله. لكّن ما يُميّز يثرون هو أن مُباركتهُ للَّه جاءت بسبب نعمةُ الله التي فاضت بوفرةِ على الآخرين وليس على نفسه، فكان صعودُ يثرون لإكرامِ الله أمامَ موسى متوافقاً مع ما أنشدهُ موسى سابقاً: "يَسْمَعُ الشُّعُوبُ فَيَرْتَعِدُونَ" (خر 15: 14)، على الرغمِ من أن الرّاوي لم يذكر لنا مَن الذي حملَ هذه الأخبارِ المُفرحةَ ليثرون، مثلما لم يُخبرنا أيّ إلهٍ تعبّدَ له يثرون الكاهن، ولكنّه يخبرنا باعتراف أن إله إسرائيل هو أعظمُ من جميع الآلهةِ، إذ أسقط فرعون وشعبه في السوء الذي فكّروا في إنزاله على شعبِ إسرائيل. هكذا، صارَ خلاص شعب إسرائيل بشارةَ خلاصٍ لجميعِ الأرض، فقدّم يثرون الذبائح للربِّ، وحضرَ هارون وجميع شيوخ بني إسرائيل، ليأكلوا معه أمام الله، فصارَ سلامٌ ما بين الشّعبينِ.

 

 

موسى يجلس للقضاء

 

سمعت الشعوب إذن بالخلاص الذي صارَ لشعبِ إسرائيل، فمجّدوا الله إلهاً قديراً. ولكنَّ هذا الخلاص لا يعني إنتهاء كل الأزماتِ ومشكلات الحياة اليوميةِ، ولا يعني حلَّ جميع معضلات الحياة المُعقّدةِ. لقد تحرروا من قيودِ العبوديةِ، لكنَّ تحررهم جَعَلهم في مواجهةِ صعوباتٍ وتحدياتٍ اجتماعية مُعقدّة، وأهمهّا أن يتأسس نظام حسنٌ للعدالةِ فلا مجالِ لانتهاكاتٍ اجتماعية تُعيدُ ظُلمَ مصرَ.

 

إلهنا أنعمَ على الإنسان بمواهبَ وبركاتٍ كثيرةٍ، وعلينا أن نعملَ على اكتشافها والتنعُّمِ بها فنبارك الله ونشكره على ذلِكَ. لذا، لا نستغِرب من أن شخصاً خارج جماعةِ المؤمنين مثل يثرون يكتشِف ما يؤولُ لخير الجماعةِ، واقتراحهُ مقبول ومُرحَّبٌ به.

 

يُطلِعنا الرّاوي في هذه القصةِ على خدمةٍ أخرى قامَ بها موسى بين الشّعب، ألا وهي خدمة القضاء، فيقضي بينهم ويُعلّمهم ما هي إرادة الله ويُعرّفهم فَرَائِضَ الله وَشَرَائِعَهُ (خر 18: 15- 16). ولكن مثل هذه الخدمة سبَّبت إرهاقاً لموسى الذي كان يجلسُ النهارَ كلّه ليسمَعَ ويُرشدَ شعبهُ، وانزعاجاً بين الشّعب الذين كانوا يقفونَ النهارَ كلّه ليحظوا برؤيتهِ (موسى) وسماعِ توجيهاتهِ، فصارت صحتُه وسلامُ الجماعةِ على المحك، لأنّ الشّعب شرع يتذمّر ويتمرّد من طولِ الانتظار، وقد يُخاصِم موسى. ولا بدّ من تنظيمِ ذلكَ، لأن العدالة ليست قضيةَ الله ومسؤوليتهِ فحسب، بل هي مهمة الجماعةِ الإنسانية التي كانت محطَّ اهتمامِ الله المُخلِّص، على أن يكونَ الأمرُ مُنظَّماً.

 

"لَيْسَ جَيِّداً" (خر 18: 17)، وردت هذه العبارة مرتين في التوارة، في هذه القصّة مرةً، والثانية على لسان الله الذي قال: "لَيْسَ جَيِّدا أنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ فَأصْنَعَ لَهُ مُعِيناً نَظِيرَهُ" (تك 2: 18)، فنحن لا نسنتطيع أن نعيش وحدنا أو نقودَ الآخرين منفردين، ولا يُمكن احتكار كل المسؤوليات في شخصٍ واحد. فتقدّم يثرون بمُقترحٍ يُخفّف العبءَ عن موسى ودعاه إلى اختيار أُناس شُجعان لا يخافون البشر، بل يخافونَ الله وحده، على مثالِ القابلَتينِ اللّتينِ خلّصتا ذكورَ العبرانيين (خر1: 15- 22)، أُمناءَ يكرهونَ الرشوةَ فلا يقبلونها لئلاّ تعمي عيونهم عن رؤية الحقيقة، لكي يُعاونوهُ في القضاءِ في القضايا البسيطة، فيما يحتفِظ موسى بالخدمة الأهم وهي خدمةُ الصلاة والتوسّط لدى الله من أجلِ الشّعب: "كُنْ أنْتَ لِلشَّعْبِ أمَامَ الله، وَقَدِّمْ أنْتَ الدَّعَاوِيَ إلَى الله. وَعَلِّمْهُمُ الْفَرَائِضَ وَالشَّرَائِعَ، وَعَرِّفْهُمُ الطَّرِيقَ الَّذِي يَسْلُكُونَهُ، وَالْعَمَلَ الَّذِي يَعْمَلُونَهُ" (18: 19- 20)، إضافةً إلى القضاءِ بينَ الناس في الشؤونِ والدعاوي الخطيرة.

 

هكذا نشأَ نظامٌ قضائيٌّ يتعاملُ مع مُختلفِ شرائح ِالشّعب ويهدف أخيراً إلى معرفةِ فرائِض الله وشرائعهِ، فيُقاد الشّعب من قبل القُضاة لا العسكر، قُضاة يُحققون العدالة للجميع من دون مُحاباة: "لا تَرْتَكِبُوا جَوْراً فِي الْقَضَاءِ. لا تَأخُذُوا بِوَجْهِ مِسْكِينٍ وَلا تَحْتَرِمْ وَجْهَ كَبِيرٍ. بِالْعَدْلِ تَحْكُمُ لِقَرِيبِكَ" (أح 19: 15). فبيّنَ موسى أن أحد أهم مهام القيادةِ هو إحقاقُ الحقِّ والعدالةِ بينَ الناس، ومنبعُ هذا الحقِّ هو الله نفسهُ، فموسى هو المُعرِف بفرائض الله وليس مُشرّعها: "أُعرّفَهُم فرائِضَ الله وشرائعهِ" (خر 18: 16)، لأنَّ الله نفسهُ مهتمٌ بشؤونَ العدالةِ اليوميةِ للشعب ليكوَنَ السلامُ في بيوتِ الناسِ، ويعم الازدهارُ في الجماعةِ كلّها. فالقضية ليست قضيةَ نزاعٍ حولَ المُلكية أو غيرها من المشكلات العلائقية، بل الأهم هو معرفةُ فرائضِ الله وشرائعهِ.

 

يعرف موسى أنَّ الشّعب مُتطلِّبٌ ويُريد مشورته في كلِّ صغيرة وكبيرة، ولاحظَ يثرون ذلك وعاتبهُ وكأنّه يقول له: يا موسى، أنت تجعلُ من نفسِكَ فرعوناً آخر، مُتسلِّطاً ومتحكماً في تفاصيل حياة الشّعب، اسمحَ لآخرينَ أن يُعينوكَ في الخدمةِ! أنت لا تستطيعُ حمل أثقال هذا الشّعب وحدَكَ! قَبِلَ موسى انتقادَ حميه يثرون وعمِلَ بما اقترحهُ عليه ففوّضَ أُناساً لهذه الخدمة، وكشفَ عن تواضعه في قبول انتقادات الآخرين ومُقترحاتهِم، لأنه جعلَ خيرَ الناس الذين يخدمهم أولويةً في حياته، لذلك قيل عنه: "حَلِيماً جِدّاً أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ الذِينَ عَلى وَجْهِ الأرض" (عدد 12: 3).

 

عادَ يثرون إلى مديان ولن نسمعَ عنه شيئاً بعد ذلك، ولكن، على الشّعب أن يُعيدوا رواية القصة لجميعِ الناسِ ليعمَّ السلامُ والحياة الآمنةُ بين جميع ِالشعوبِ، لأنَّ الله الخالِقَ يعملُ في خليقتهِ على نحوٍ لا نُدركهُ.

 

 

حملهم على أجنحة النسور

 

خيَّم الشّعب مقابلجبل سيناء، فنادى الله موسى قائلاً: "هَكَذَا تَقُولُ لِبَيْتِ يَعْقُوبَ وَتُخْبِرُ بَنِي إسرائيل: "أنْتُمْ رَأيْتُمْ مَا صَنَعْتُ بِالْمِصْرِيِّينَ. وَأنَا حَمَلْتُكُمْ عَلَى أجْنِحَةِ النُّسُورِ وَجِئْتُ بِكُمْ الَيَّ" (خر 19: 3- 4)، فذَكَّرَهم الله بحمايته لهم في مصر وفي البرية، فكان لهم مثل النسر الذي يحمل صغيره على جناحيه، إذ لا يُمكن لطائر آخر أن يطير أعلى منه أو يحاول خطفَ صغيرهِ، في إشارة إلى محبّة الله لهم والتي شهدَ الشّعب فاعليتها: "أنتم رأيتُم"، فكان الرّب هو الأب والحامي والراعي والمُغذي للشعب.

 

جاء الله بهم ليكونوا له: "وَجِئْتُ بِكُمْ إلَيَّ"، فأسَّس علاقةً مشروطةً معهم: "فَالآنَ إنْ سَمِعْتُمْ لِصَوْتِي، وَحَفِظْتُمْ عَهْدِي تَكُونُونَ لِي خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. فَانَّ لِي كُلَّ الأرض" (خر 19: 5). إلهنا يتوقّع الأمانة له من قبل الشعب في هذه العلاقة، وينتظر من الإنسان أن يُظهِر في تفاصيل حياته اليومية أنه مُحبٌ ورحوم وعادلٌ شهادةً على أنه مُرتبطٌ في علاقة مع الله: "قَدْ أَخْبَرَكَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا هُوَ صَالِحٌ وَمَاذَا يَطْلُبُهُ مِنْكَ الرَّبُّ، إِلاَّ أَنْ تَصْنَعَ الْحَقَّ وَتُحِبَّ الرَّحْمَةَ وَتَسْلُكَ مُتَوَاضِعاً مَعَ إِلَهِكَ" (ميخا 6: 8).

 

خروج الشّعب من مصرَ لم يكن من أجل التحرّر من العبودية فحسب، بل من أجل التعبّد للَّه، كما أشرنا في لقاءٍ سابقٍ، بل ليكونوا له شعباً خاصاً: "وَأنْتُمْ تَكُونُونَ لِي مَمْلَكَةَ كَهَنَةٍ وَأمَّةً مُقَدَّسَةً. هَذِهِ هِيَ الْكَلِمَاتُ الَّتِي تُكَلِّمُ بِهَا بَنِي إسرائيل" (خر 19: 6). هذا الاختيار لا يعني أن لهم أفضليةً على باقي الشعوب، بل جاء اختيارهم ليجعلوا الله معروفاً ومحبوباً من قبل العالم أجمع، وسيشهدون لحضورِ الله من خلال تطبيق فرائضه وشرائعه، فخدمة الكاهن، على سبيل المثال، هي أن يخدم الله ويساعد المؤمنين على التقرّب منه، وهذه خدمة هذا الشّعب في العالم، فهناك اختيارٌ وتكريسٌ (إفراز) عن الآخرين كونهم يحملون رسالة في العالم، ودعوة للتقرّب من الآخرين في الوقت نفسه فهذه الرسالة هي من أجل العالم، لذا، عليهم أولاً الطاعة لمَن اختارهم وحرَّرهم لخدمتهِ، وقبلَ أن يُعلِن الله علاقة العهد هذه مع الشّعب: سألهم: هل تقبلون بهذا العهد أم لا؟ إلهنا مُحِبٌّ غيورٌ يُخاطب شعبهُ بحنان وحبٍ ليس لهما مثيلٌ، ولأنّه يُحب فهو قادرٌ على أن يسأل كلَّ شيءٍ من محبوبته، ومحبوبته تُحّبه فتُطيع كلامه، والجواب عن هذا السؤال سيُغيّر حياة طرفي العهد إلى الأبد.

 

"فَجَاءَ مُوسَى وَدَعَا شُيُوخَ الشّعب وَوَضَعَ قُدَّامَهُمْ كُلَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي أوْصَاهُ بِهَا الرَّبُّ. فَأجَابَ جَمِيعُ الشّعب مَعاً: "كُلُّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ نَفْعَلُ". فَرَدَّ مُوسَى كَلامَ الشّعب إلَى الرَّبِّ". (خر 19: 7- 8)، ثم عادَ موسى وأعلمَ الله بجواب الشّعب، فطلبَ الله من موسى أن يتهيأ الشّعب للقائه، هو القُدوس، عند الجبل، والذي سيعني بالضرورة التحّرك نحوه صعوداً من أجل لقاء الله. على الشّعب أن يغسلوا ثيابهم ويظهروا بمظهرٍ يليقُ بهذه اللقاء، فعندما يرتدي الإنسان ثياباً خاصةً لأجلِ لقاء خاص، سيؤثّر ذلك على موقفه وأفكاره وحتّى على كلامهِ، ولكلِّ لقاءٍ مكانته الخاصّة: "إذْهَبْ الَى الشّعب وَقَدِّسْهُمُ الْيَوْمَ وَغَداً وَلْيَغْسِلُوا ثِيَابَهُمْ. وَيَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ لِلْيَوْمِ الثَّالِثِ." (خر 19: 10- 11)، وعليهم ألاَّ يقتربوا من الجبل، حيث حضرَ الله، مثلما أشارَ إليه عند العُليقة المُشتعلة (خر 3: 5)، وفعل الشّعب كل ما أمرَ به الله، فغسلوا ثيابهم، وعند اليوم الثالث صارَت "رُعُودٌ وَبُرُوقٌ وَسَحَابٌ ثَقِيلٌ عَلَى الْجَبَلِ وَصَوْتُ بُوقٍ شَدِيدٌ جِدّا. فَارْتَعَدَ كُلُّ الشّعب الَّذِي فِي الْمَحَلَّةِ." (خر 19: 16)

 

سألَ الله طاعةَ الشّعب، وقَبِلَ الشّعب طاعة الله طوعاً، وحضرَ الله للقاء الشّعب، فارتعدَ الشّعب من حضوره. هم شعبهُ، "مَمْلَكَةَ كَهَنَةٍ وَأمَّةً مُقَدَّسَةً" (خر 19: 6)، بمعنى، أنهم قادرونَ جميعاً على الإصغاء والتعلّم والتأمل والتفسير والتعليم، وهو واجب الكاهن، وسيُخصِّص الله لاحقاً سبط لاوي ليخدُمَ خيمةَ العهد والمذبح كهنةً، لكنّ الله ينتظر من الشّعب أن يكونوا مُستعدين لتعلّم فرائضه وتعليمها: "يُخْبِرُ يَعْقُوبَ بِكَلِمَتِهِ وَإسرائيل بِفَرَائِضِهِ وَأَحْكَامِهِ. لَمْ يَصْنَعْ هَكَذَا بِإِحْدَى الأُمَمِ وَأَحْكَامُهُ لَمْ يَعْرِفُوهَا" (مز 147: 19 -20).