موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
المُقدمة
"وَأنْتُمْ تَكُونُونَ لِي مَمْلَكَةَ كَهَنَةٍ وَامَّةً مُقَدَّسَةً. هَذِهِ هِيَ الْكَلِمَاتُ الَّتِي تُكَلِّمُ بِهَا بَنِي إسرائيل" (خر 19: 6). اختار الله الشّعب إذن من أجل رسالةٍ في العالم، هم كهنتهُ، وعليهم أن يعملوا إرادتهُ ويُعرِّفوا العالم بفرائضه، والتي ستجعل الأرض مسكَناً له، وهو ما سيطلبهُ لاحقاً منهم من خلال بناء خيمة العهد. لذا، كان من المهم أن يُعلِنَ لهم وصاياهُ التي سيحملونها إلى العالم، وقرَّر إعلانها هو بنفسه في البرية قبل أن يدخلوا أرض الميعاد ليُعلِّمهم أن تطبيق هذه الوصايا ليس مُرتبطة بمكان جغرافي، كما أنها ليست متعلّقة بسبط أو عشيرة ما، بل هي للشعب كلّه، بل للإنسانيّة جمعاء، فالأرض كلّها له وهو خالقها.
أكدّ الكاتب المُلهَم أن الكلمات العشر هي كلمات الله نفسه وليست كلمات موسى: "ثُمَّ تَكَلَّمَ الله بِجَمِيعِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ" (خر 20: 1)، "ثُمَّ أعْطَى مُوسَى عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْكَلامِ مَعَهُ فِي جَبَلِ سِينَاءَ لَوْحَيِ الشَّهَادَةِ: لَوْحَيْ حَجَرٍ مَكْتُوبَيْنِ بِإصْبِعِ الله" (خر 31: 18)، بخلاف الفرائض الأخرى التي كتبها موسى لاحقاً: "وَكَتَبَ مُوسَى هَذِهِ التَّوْرَاةَ وَسَلمَهَا لِلكَهَنَةِ بَنِي لاوِي حَامِلِي تَابُوتِ عَهْدِ الرَّبِّ وَلِجَمِيعِ شُيُوخِ إسرائيل." (تث 31: 9). كلماته (الله) الموجهة إليهم جميعاً فليست حصراً على نُخبةٍ مُختارة منهم، والجميع سيكون مسؤولاً أمام الله عن تطبيقها، كما أنها ليست نسبيّة في نظرتها للإخلاق، بل هي من الله الواحد، الذي يرى كل البشر جنساً واحداً مخلوقاً على صورته ومثاله (تك 1: 26- 27)، ويضعهم أمامَ ميثاقٍ أخلاقيَّ واحد، والخبرة الإنسانية تقول إنّ الشعوب التي بدأت تتنكّر لوصية "احفظ يوم الرب" على سبيل المثال، تشهد زيادة في حالات التوتر والعنف بسبب الضغط النفسي وعبودية العمل التي يُعاني منها العاِمل.
عشرُ كلمات
لدينا إذن عشر وصايا بحسب عدد أصابع اليدين، ليتمكن المؤمن من حفظها بسهولةٍ فلا ينساها لأنها كلماتٌ للحياة كلّها، فديمومة العلاقة مع الله تعتمد على أمانةِ الإنسان في المحافظة على بنود العهد الذي له مع الله، لذا، اِعتاد شعب إسرائيل أن يُصلّي يومياً هذه الصلاة: "اسمعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. فَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ قُوَّتِكَ" (تث 6: 4-5)، كما اعتاد الشّعب أن يُعلن "الوصايا العشر" ويُصلّيها في كل احتفالٍ دينيّ كونها الأساس الذي يعتمد عليه في علاقاته مع الله ومع القريب، فالشّعب لا يعُدّ حُبَّ الله وحبَّ القريب اختياراً بين اختيارات أخلاقيّة، بل وصيةً لا يستطيع الإفلات منها إن أرادَ أن يبقَى شعباً مُختاراً، فهي شريعة شعبٍ ارتبطَ بعهدٍ مع الله، فما يُميّزها أيضاً عن غيرها من المُشترعات في بقيّة الديانات، هو أنها جعلت الترابط وثيقاً ما بين سلامة العلاقة مع الله وسلامة علاقة الإنسان مع أخيه الإنسان، فعمل الخير للقريب وإكرامهُ تعبير عن أصالة العلاقة مع الله، فيكون مظهراً أخلاقياً للتعبد صالحاً مُلزِماً: "بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي فَعَلْتُم" (متّى 25: 40)، وهو ما دعا يعقوب الرسول أن يكتب في رسالته: "أَنْتَ تُؤْمِنُ أَنَّ الله وَاحِدٌ. حَسَناً تَفْعَلُ. وَالشَّيَاطِينُ يُؤْمِنُونَ وَيَقْشَعِرُّونَ! وَلَكِنْ هَلْ تُرِيدُ أَنْ تَعْلَمَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ الْبَاطِلُ أَنَّ الإِيمَانَ بِدُونِ أَعْمَالٍ مَيِّتٌ؟" (يع 2: 19- 20).
لم تكن هذه الوصايا يوماً "قانوناً" بل "كلمة نعمة"، و"بُشرى للحياة" من عند الله، وهذا ما فعلهُ ربّنا يسوع المسيح الذي كان يُصليها يومياً مرتين، ووجّه الشاب الذي سألهُ: "أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ أَيَّ صَلاَحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ؟" إلى أن يحفظَ الوصايا أولاً، إن أرادَ الحياة الأبدية (متى 19: 16- 19)، كونُه، أي ربّنا يسوع المسيح، تحقيقُ كاملٌ لهذه الوصايا: "لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ، بَلْ لِأُكَمِّلَ" (متى 5: 17)، والتي كانت تعبيراً عن الهوية الداخلية للشعب، عن كيانهِ العميق كشعبٍ اختاره الله، فصارت تعليماً، تعليما يُقدّمه الأب لابنه: يا بنيّ، نحن شعبٌ اختاره الله وميّزه عن باقي شعوبِ الأرض، فخلَّصَه من العبودية ليعبده حُرّاً، فليس لنا إلهٌ آخر. نحن نُكرِم اسمه، ونُكرِم سُلطته، ونحن شعبٌ لا يقتل ولا يزني ولا يسرق ولا يشهدُ بالزور، هي هويّتنا ورسالتنا في العالم الذي يتعبّد لآلهةٍ باطلةٍ، وعلينا أن نُبشّرهم جميعاً أن يذوقوا وينظروا ما أطيب الربّ (مز 34: 8)، وعليكَ أن تعرِف يا بُنيّ أنكَ مهما حققتَ من منجزاتٍ، فإشكر الله لأنه رفعكَ من عبودية مصرَ، ووهبَك الحياة بعدما قرَّر فرعون موتّك (خر 1: 22)، لذا، لتكن هذه الوصايا دليلاً لك في الحياة، فلا تنساق إلى كلّ ما ترغبهُ أو تتمنّاه، فليس كلٌّ ما تراهُ حسن المنظر سينفعُك في حياتِك.
وأخيراً هي عشرُ وصايا (كلمات) مُلزِمة تحمل معها واجبات وليس حقوقاً، وتمنعُ الإنسان من التجاوز على حقوق الله وحقوق الآخرين، وتاريخنا الإنساني حافلٌ بسير حياة شخصيات ادّعت نيّاتٍ صالحة فأهلكت حياة كثيرين. ولأن هذه الوصايا ملزمة لكل فردٍ في الجماعة، لذا، جاءت بصيغة المُخاطَب المُفرد، فالمجتمع الصالح يُبنى بوجود أفراد يعرفون ما هو الصلاح ويعملونهُ، وخاصّةً تجنّب إيذاء القريب والابتعاد عن السلوكيات الخاطئة، وهي نقطة الشروع في العلاقة الصالحة مع الله ومع القريب.
الكلمة الأولى
"أنَا الرَّبُّ الَهُكَ الَّذِي اخْرَجَكَ مِنْ أرض مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ. لا يَكُنْ لَكَ الِهَةٌ أخرى أمَامِي" (خر 20: 2- 3)، والتعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية للوصيّة الأولى يُقدِم الوصيّة الأولى على النحو الآتي: "أنَا الرَّبُّ الَهُكَ الَّذِي اخْرَجَكَ مِنْ أرض مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ. لا يَكُنْ لَكَ الِهَةٌ أخرى أمَامِي. لا تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالا مَنْحُوتا وَلا صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَمَا فِي الأرض مِنْ تَحْتُ وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأرض. لا تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلا تَعْبُدْهُنَّ" (خر 20: 2-5)، فيدمج الوصيّة الأولى والثانية في وصيّة واحدة.
المُتابع لأخبار الساعة سيقول: لماذا لم يطلب الله في وصيّته الأولى أن يكفّ الإنسان عن القتل ويضع: "لا تقتل" أولى الوصايا، فالعنف والقتل أكثر المظاهر الاجتماعية انتشاراً بين الناس؟ لما لم تكن كلمة "لا تسرق" ه يالأولى؟ والفساد المالي والإداري يقتل مُستقبل شعوب وأفراد. وواقع الحال أننا نحن المسيحيين، لم نعرف غيرَ الله إلهاً ولم نتبعّد قط لبعل أو للأوثانِ لكي يُطالبنا الله اليوم بخصّه بالعبادة بالقول: "أنا هو الرب إلهكَ لا يكن لك آلهةٌ تجاهي. قانون إيماننا واضحٌ ومن خلاله نُعلن: نُؤمنُ بإلهٍ واحدٍ، فلماذا هذه البداية؟
يكشِف الله لنا في الوصية الأولى عن هويتهِ، مَن هو إلهنا الذي نسمعُ له ونصغي إلى وصاياهُ ونخضع له. إنه إلهٌ فاعلٌ في حياتنا وليس مجّرد فكرة أو نظرية فلسفية، أو العلّة الأولى المُحرِكة التي لا تتحرّك. هو إلهٌ يعتني بخليقتهِ، سمِعَ أنينَ الشّعب في مصرَ ونظرَ إلى مذلّتهم وقرر أن يُنقذهم من أيدي مُعذبيهم (خر 3: 7- 9). إلهنا لا يُقدّم نفسه خالقاً أو معلِّماً يطلب الطاعة، بل إلهاً مُحِّرراً يطلبُ صداقة الإنسان المؤسَّسة على شروط واضحة لطرفي العلاقة. هو المُخلِّص والمُحرِّر والفادي الذي وضعَ كلَّ ألوهيتهِ في خدمةِ الإنسان المُضطَهَد، إلهٌ حيٌّ يتفاعلُ مع شعبهِ ويتحرّك معهم حيثما هم، حتّى صار جسداً وحلّ بيننا (يو 1: 14).
إلهنا ليس مُهتماً بالكشفِ عن قُدرتهِ، فلم يقل: "أنا خالقُ السماء والأرض"، بل إلهُ يُريد علاقةً مع الإنسان يراها ستؤول إلى خير الجماعةِ كلّها، لذا، فوصيّته الأولى هي: أنا أنقذتُك من عبودية مصرَ ووهبتُك الحياة بكرامةٍ من جديد، وهذا ما أطلبهُ منك. فهل يعني هذا أن الله أنقذ شعبه ليُدخله في عبودية أخرى؟ كلا، فالعلاقة تختلف هنا. فحين أعيش الحياة شاكراً الآخر لأنّه تفضّل عليّ بالحياة وسمحَ لي بأن أعيش، فأنا تابعٌ له وليس لي اختيارٌ آخر، ولكن عندما أشعر أن الحياة تستحقُ أن تُعاش بسبب وجود الآخر الذي يُحبّني وهو مُستعدٌّ لأن يُضحّي بنفسه من أجل أن أعيش بكرامةٍ وتكون لي الحياة الأبدية (يو 3: 14- 16)، فأنا أخضعُ له حُبّاً لا خنوعاً، وهو يَحمي حُريّتي ولن يسلبها منّي، لأنّه يُحبني، لذا، ترانا نتجنّبُ الشّر الذي يراه هو شرّاً، لا خوفاً من العقاب الإلهي، بل لأنه شرٌ، وهو أمرٌ لا يليق بهويتنا: "نحن أبناء العهد". من هنا نقول: إنَّ مُخالفتنا للوصايا ليست خطأ أو ضعفا أو نقصاً، بل خطيئة، لأنها تعني رفض قبول إرادة الله.
"أنَا الرَّبُّ الَهُكَ الَّذِي اخْرَجَكَ مِنْ أرض مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ. لا يَكُنْ لَكَ إلِهَةٌ أخرى أمَامِي"، إلهنا هو الذي يكشفُ لنا عن اسمهِ لنا، فهو ليس كباقي الالهة التي أخذت اسمها من الإنسان الذي خاف منها مرتعباً. فالإنسان لم يعرف الله، ولم يكن بمقدورهِ التعرّف عليه عن قربٍ، بل الله هو الذي بادَرَ وقرّبَ نفسه، وهو الذي أعلنَ اسمهُ للإنسان. "أنا هو الربُّ إلهك": يهوه، أكون حيثما أكون، وخلقَ هذا الإله علاقةً خاصّةً مع شعبهِ الذي عليه أن يُبشِّرَ به العالم أجمع. هذا الإختيار ليس سبباً للإفتخار، بل على العكس، فمنذ البدء أعلنَ الله أن نعمتهُ هي التي اختارتنا وليست أمانتنا أو أفضليتنا: "ليْسَ مِنْ كَوْنِكُمْ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ، التَصَقَ الرَّبُّ بِكُمْ وَاخْتَارَكُمْ لأَنَّكُمْ أَقَلُّ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ. بَل مِنْ مَحَبَّةِ الرَّبِّ إِيَّاكُمْ وَحِفْظِهِ القَسَمَ الذِي أَقْسَمَ لآِبَائِكُمْ أَخْرَجَكُمُ الرَّبُّ بِيَدٍ شَدِيدَةٍ وَفَدَاكُمْ مِنْ بَيْتِ العُبُودِيَّةِ مِنْ يَدِ فِرْعَوْنَ مَلِكِ مِصْرَ" (تث 7: 7-8). فهذا الاختيار يحمل معه مَهمةً ورسالة ومسؤولياتٍ: "أَنَا الرَّبَّ قَدْ دَعَوْتُكَ بِالْبِرِّ فَأُمْسِكُ بِيَدِكَ وَأَحْفَظُكَ وَأَجْعَلُكَ عَهْداً لِلشَّعْبِ وَنُوراً لِلأُمَمِ. لِتَفْتَحَ عُيُونَ الْعُمْيِ لِتُخْرِجَ مِنَ الْحَبْسِ الْمَأْسُورِينَ مِنْ بَيْتِ السِّجْنِ الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ" (إش 42: 6-7).
فلستَ حُراً يا إنسان لتعملَ ما يحلو لكَ، فإنسانيّتُك لها حدودها لأنّك لا تقوى على الطيران مثل الطيور، ولست قادراً على البقاء في أعماق البحار مثل الاسماكَ: أنتَ إنسان ولست قادراً على تغيير طبيعتِك الإنسانية، حاول إن شئتَ، تراك تسقط أو تغرق.
أنت إنسانٌ وأنا اخترتُكَ وأنقذتُك من عبودية مصر، تذكّر هذا دوماً لئلاَ تتكابر وتتشامخ (تتفرعَن)، فتظِلمَ وتستعبِد الآخرين وتُعيد عبودية مصر في حياتِك، فاعرف أن هناك حدّاً لممارسة سلطتكِ على الآخرين فلا تتجبَّر عليهم فهم إخوتُك وأنتم أمامي سواسية، ولا تنظر متحسّراً إلى أرض العبودية مثلما فعلت سابقاً (خر 16: 3)، آملاً تحقيق إنجازاتها، فتلك صارت على حسابِ كرامتك وكرامةِ إخوتك. لذا، يُذكّرُ الله شعبهُ من الكلمة الأولى بأن عبودية مصر يُمكن لها أن تتكرّر عندما يتشامخ الإنسان ويستكبِر مُتسلّطاً، فتذكَّر يا إنسان مقولة إبراهيم: "إنِّي قَدْ شَرَعْتُ اكَلِّمُ الْمَوْلَى وَأنَا تُرَابٌ وَرَمَادٌ" (تك 18: 27)، فالبداية (الأصل)، وضيعُ، بل من العدم.
ولكن هل هناك آلهة أخرى في حياتنا حتّى نسمع الله يقول: "أنَا الرَّبُّ الَهُكَ الَّذِي اخْرَجَكَ مِنْ أرض مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ. لا يَكُنْ لَكَ الِهَةٌ أخرى أمَامِي"؟
يؤكد المبدأ الأخلاقي أنّ كل ما خلقهُ الله هو حسنٌ جداً (تك 1: 31)، ولكن عندما يتحوّل من كونه وسيلةً في الحياة من أجل تقديسنا، ليكون غاية الحياة سيكون صنماً وإلهاً يُعبد. من ذلك، على سبيل المثال، طلبُ الشهرة، أو السعي وراء منصب، أو ثروة، أو موهبة، أو فكرة، أو لذة، أو سلطة، أو التبعية لأيّ عِرقٍ أو حتّى شخصيّة. هذه كلّها وسائل صالحة وُجِدَت لتقديس الإنسان ولإكرام الله وخدمة البشرية، ولكنها إن تحّولت من وسيلةٍ إلى غاية ستُصبح آلهةً تُعبَد وتُكرَم وتُفقِدُ الإنسان النظرة الصحيحة إلى ذاته وإلى هويّته، فيغدو مُكبَّلاً بالقلق خوفاً من خسارتها، فيحتاج إلى سماعِ صوت الله المُحرِّر: "أنَا الرَّبُّ الَهُكَ الَّذِي أخْرَجَكَ مِنْ أرض مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ. لا يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أخرى أمَامِي"، فلا يجوز تحريم ما حلَّله الله (أع 10: 15)، مثلما لا يجوز تقديس ما خلقهُ الله: "للربِ إلهك تسجدُ، وإياه وحدهُ تعبُد" (لو 4: 8)، خلقك حُراً أمامهُ وهو يمنحك لك كلَّ يوم فرصةَ البدء من جديد، فالمستقبل كلّه بين يديك، وأنت مَن يُقرِّر وجهتكَ.
من هنا ترفض هذه الوصية الإصغاء إلى الخرافة وممارسة السِّحر واستحضارَ الأمواتِ، فضلاً عن استشارة مُستطلعي الأبراج والمنجّمينَ وقارئي الكف، شارحي الفأل بالخير أو الشؤم أو مستطلعي الحظّ، واللجوء إلى الوسطاء أو محاولة إرضاء القوى الخفية وحمل التعاويذ. هذه الممارسات صرنا نلحظ انتشارها بين المؤمنين مُتوهمينَ أن لها قوّةً شافية من القلق الذي يختبرونهُ. لذا، فنحن بحاجةٍ إلى أن نُصلّي إلى إلهنا ليهبنا القوّة اللازمة لمحاربة هذه الآلهةِ التي تقف في طريق مُشاهدتنا وجهَ الله، وأن نؤمن به ونُعظِّمهُ إلهاً أوحد في حياتنا على مثال أمنّا مريم: "تُعظّمُ نفسي الربَّ، وتبتهجُ روحي بالله مخلصي" (لو 1: 46- 49).
مُختصر التعليم الأخلاقي للوصيّة الأولى: من أجل أن تعيش حياة صالحة، أنت مدعو يا إنسان إلى الإيمان بأنَّ هناك إلهاً واحداً، وله وحدهُ يحقُّ التعبّد، وهو ينظر إلى الإنسان، وإلى البشرية جمعاء نظرة مُعتنَيةً ملؤها الرحمةُ، ويراهم جميعاً أبناءه، إخوةً وأخوات سواسيةً أمامه، ويطلُب منهم جميعاً إتمام وصاياهُ من دون استثناء يُميّز هذا عن ذاك، سيستدعي الله الإنسان، كلُّ إنسان، إلى المُحاسبةِ عن نوعيّة الحياة التي عاشها، لأنّ الله يراه إنساناً مسؤولاً عن حياته وسلوكياتهِ، فلا حُرية من دون عدالة، ولا يُمكن تحقيق العدالة من دون أن يلتزم كلُّ إنسان بمسؤوليته الشخصية عن ديمومة الحياة على الأرض، بما فيها تعزيز العلاقات البشرية وإنماؤها، كما أنّه مسؤول عن كلّ قرار شخصيّ يلتزم به، فهو ليس مُطالباً بأن يُقدِم التعبّد إلاّ للَّه الذي يُريده إنساناً حُرّاً أمامه.