موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
حنان (وفيقة) ذيب، مديرة التأهيل والتعليم والتطوير في مركز سيدة السلام
المقدمة
في عالمٍ يتزايد فيه التركيز على الجودة والتميّز، تُعدّ كلمات المسيح في يوحنا 10:10: "لقد جئت لتكون لهم حياة، وتكون لهم أوفر." دعوةً عميقة للتأمل في مفهوم الجودة الشاملة من منظور روحي وإنساني. تُشير هذه العبارة إلى نوعية حياة تتجاوز البقاء، نحو حياة مليئة بالمعنى، والكرامة، والعطاء و التميَز في الخدمة.
هذا المقال يستعرض العلاقة بين تعاليم العهد الجديد ومفاهيم الجودة الشاملة، مع التركيز على تطبيقها في الرعاية الصحية والتعليم، بالإضافة إلى دمج معايير ISO لضمان تحقيق أعلى مستويات الجودة في مختلف القطاعات. تساعدنا مبادئ الجودة الشاملة على عيش التحسين المستمر، والتنمية المتكاملة.
الجودة في ضوء الآية: "لقد جئت لتكون لهم حياة، وتكون لهم أوفر"
في يوحنا 10:10، يستخدم المسيح كلمة (perisson) في اللغة اليونانية περισσὸν، والتي تعني "وفرة" أو "زيادة"، مشيرًا إلى نوعية حياة فائقة تشمل الجوانب الروحية والمادية. هذه الحياة الوفيرة ليست مجرد وعود بالرخاء، بل دعوة إلى حياة مليئة بالفرح، والسلام، والهدف، تتجلى في العلاقة العميقة مع الله ومع الآخرين.
معايير الجودة الشاملة ومعايير ISO
تُعد الجودة الشاملة (TQM) نهجًا إداريًا يهدف إلى تحسين الأداء في جميع جوانب العمل، من خلال التركيز على:
1. التحسين المستمر
2. رضا المستفيدين
3. العمل الجماعي والتعاون
4. القيادة الفعالة
5. المساءلة والشفافية
معايير ISO في الجودة الشاملة
تُوفر معايير ISO إطارًا عالميًا لضمان الجودة، ومن أهمها:
- ISO 9001 معيار إدارة الجودة، يركز على تحسين العمليات وضمان رضا العملاء.
- ISO 21001 معيار إدارة الجودة في التعليم، يعزز جودة المناهج التعليمية وطرق التدريس.
- ISO 45001 معيار إدارة السلامة العامة و الصحة المهنية، يهدف إلى حماية العاملين والمنتفعين وضمان بيئة عمل آمنة.
هذه المعايير تساعد المؤسسات الصحية والتعليمية على تحقيق أعلى مستويات الجودة، مما يتماشى مع تعاليم المسيح حول الرحمة، الرعاية الصحية، والتعليم الجيد.
يمكننا ربط مبادئ إدارة الجودة الشاملة كما هو موضح في ISO 9001 بتعاليم العهد الجديد وكلام السيد المسيح، حيث نجد أن القيم التي تحدد الجودة في الإدارة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمبادئ التي وضعها المسيح في الخدمة، كما يلي:
- التركيز على العميل (Customer Focus)
في نظام الجودة، يُعتبر العميل هو الأولوية، حيث يجب تقديم أفضل الخدمات لتلبية احتياجاته. وفي العهد الجديد، نجد أن يسوع ركز على خدمة الإنسان ورعايته، و هذا يعكس الحرص على تحقيق جودة حياة عالية للناس، تمامًا كما تهدف الجودة الشاملة إلى تلبية احتياجات المستفيدين بأفضل صورة.
- القيادة (Leadership)
يشدد نظام الجودة الشاملة على أهمية القيادة القوية لضمان نجاح المنظومة. في تعاليم المسيح، نرى أنه كان قائدًا عظيمًا بأسلوب الخدمة بدلًا من السلطة، حيث قال في مرقس 10:45: "لأن ابن الإنسان لم يأت ليُخدَم، بل ليَخدِم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين." وهذا يعكس مفهوم القيادة الخادمة التي تدعو إليها الجودة الشاملة، إذ يجب أن يكون القائد مصدر إلهام ودعم لموظفيه لضمان تحقيق أفضل مستويات الأداء.
- إشراك الناس (Engagement of People)
في منهج الجودة الشاملة، يتم التأكيد على أهمية مشاركة الأفراد لتحقيق النجاح الجماعي. وبالمثل، دعا المسيح إلى المحبة والعمل الجماعي، كما قال في متى 5:16: "فليضئ نوركم هكذا قدام الناس، لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات." وهذا يشجع على إشراك المجتمع في صنع الخير، مما يعزز بيئة العمل الإيجابية في أي مجال، خاصة في الرعاية الصحية.
- نهج العمليات (Process Approach)
تعتمد الجودة الشاملة على العمل وفق منهج العمليات لضمان تحقيق النتائج المرجوة. ويمكننا ربط ذلك بتعاليم المسيح حول الالتزام بمنهجية واضحة في الحياة، حيث قال في متى 7:24: "كل من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها، أشبهه برجل حكيم بنى بيته على الصخر." وهذا يؤكد أهمية اتباع منهج واضح ومنظم لضمان النجاح، سواء في الحياة الروحية أو في أنظمة الجودة.
- التحسين المستمر (Improvement)
تسعى الجودة الشاملة إلى التحسين المستمر لضمان تطوير الأداء والخدمات. ونجد هذا المفهوم في تعاليم المسيح، خاصة عندما قال في متى 5:48: "كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي هو كامل." وهذا يشجع على السعي نحو الأفضل دائمًا، وهو ما يتوافق مع فكرة التحسين المستمر في إدارة الجودة.
- اتخاذ القرارات بناءً على الأدلة (Evidence-Based Decision Making)
يركز نظام الجودة على اتخاذ القرارات بناءً على الأدلة والحقائق لضمان فعالية القرارات. في العهد الجديد، نجد أن المسيح أكد على أهمية الحكمة والتمييز بين الصواب والخطأ، كما قال في متى 7:16: "من ثمارهم تعرفونهم." وهذا يشير إلى أهمية التقييم المستمر للأداء واتخاذ قرارات مبنية على الأدلة، لا على الانطباعات الشخصية.
- إدارة العلاقات (Relationship Management)
إدارة العلاقات هي أحد المبادئ الأساسية للجودة، حيث تؤكد على بناء علاقات قوية مع المستفيدين والشركاء. في تعاليم المسيح، نجد أهمية العلاقات المبنية على المحبة والتواصل الفعّال، حيث قال في يوحنا 13:34: "وصية جديدة أنا أعطيكم: أن تحبوا بعضكم بعضًا كما أحببتكم أنا." وهذا يؤكد أن إدارة العلاقات الجيدة تؤدي إلى جودة في الرعاية والخدمة، سواء في الرعاية الصحية أو المؤسسات التعليمية.
السامري الصالح: نموذج للجودة في الرعاية الصحية
في مثل السامري الصالح (لوقا 10:25–37)، يُقدّم المسيح مثالًا حيًا للجودة في الرعاية الصحية، يتجلى في:
الاستجابة الفورية: عندما رأى السامري الرجل الجريح، لم يتردد في تقديم المساعدة، مما يعكس أهمية الاستجابة السريعة في الرعاية الصحية من دون اي تمييز في العرق او الدين او الجنس.
الرعاية الشاملة: قام السامري بتضميد جراح الرجل، وصب الزيت والخمر عليها، مما يشير إلى تقديم رعاية طبية متكاملة ذات خطوات محسوبة، و ذات طابع يعتمد على مهنية عالية و هي كانت الأفضل في ذلك الزمان مع تقديم محبة صادقة بالأعمال و ليس بالأقوال فقط. جمال صورة السامري يتجلى بالرحمة و الانسانية الحقيقية.
الاستمرارية والمتابعة: أخذ السامري الرجل إلى فندق واعتنى به، ثم أوصى صاحب الفندق بالاعتناء به، وتعهد بتغطية التكاليف، مما يعكس أهمية المتابعة المستمرة في تقديم الرعاية.
هذا المثل يُبرز أهمية تقديم رعاية صحية ذات جودة عالية، تتسم بالرحمة، والاستجابة السريعة، والمتابعة المستمرة، دون تمييز أو تحيّز.
- الجودة في التعليم وفق معايير ISO
ISO 21001: يساعد المؤسسات التعليمية على تحقيق الجودة العالية في التعليم والتدريب.
التقييم المستمر: كما دعا المسيح إلى التقييم الذاتي "من ثمارهم تعرفونهم" متى 7:16، يجب أن يتم تقييم المناهج ورضى الطلاب و الأهالي و المعلمين و المدراء باستمرار لضمان التطوير المعتمد على الأدلة و ليس على وجهات النظر.
- الجودة في التعليم وفق الكتاب المقدس
القيادة الحكيمة - كما صوّر المسيح نفسه كـ"الراعي الصالح"، يجب أن يكون المعلم قائدًا يساعد طلابه على النجاح والتطور.
التطوير المستمر - كما دعا يسوع إلى السعي نحو الكمال (متى 5:48)، يجب أن تسعى المؤسسات التعليمية إلى تحسين المناهج وطرق التدريس بشكل دائم.
التواصل الفعّال - كما أكد المسيح على التواصل الصادق في تعاليمه، يجب أن يكون هناك تواصل واضح بين المعلمين والطلاب و بين المدراء و الموظفين و بين المعلمين و أهالي الطلبة لضمان نقل المعرفة بكفاءة.
الجودة في التعليم تتجاوز مجرد تحصيل المعرفة، بل تشمل تنمية القيم والأخلاق، وتعزيز التفكير النقدي، والبحث عن الحقيقة، وهو ما يتماشى مع تعاليم المسيح.
الجودة كفعل محبة والتزام بالتميّز
الجودة ليست مجرد معايير وإجراءات تقنية، بل هي تعبير عن المحبة والرحمة. في مثل السامري الصالح، يُظهر السامري محبة حقيقية من خلال تقديم المساعدة لرجل غريب، مما يُبرز أن الجودة تتجلى في الأفعال التي تعبّر عن الاهتمام بالآخرين.
وهذا يتماشى مع مفهوم المسيح عن الحياة الوفيرة، حيث الجودة ليست فقط في الصحة والتعليم، بل أيضًا في العلاقات، التواصل، والعمل الجماعي.
حياة أفضل وفق تعاليم العهد الجديد والجودة الشاملة
لقد دعا يسوع إلى حياة ذات جودة عالية، وهذه الحياة الأفضل تتجلى في كل نواحيها من خلال:
- خدمة أفضل
- تواصل أفضل
- مساندة أفضل
- دعماً أفضل
- علاقات أفضل
- إدارة أفضل للوقت
- قيادة أفضل
- إتقان أفضل
- حياة افضل
أسس الجودة في الكتاب المقدس
تقوم الجودة على مجموعة من الأسس التي يمكن تطبيقها في الحياة اليومية، سواء في العمل أو في الرعاية الصحية أو في العلاقات الإنسانية. ومن بين هذه الأسس:
الإتقان والتميز – العمل من القلب للرب
كولوسي 3:23 – "وكل ما فعلتم، فاعملوا من القلب كما للرب، وليس للناس." الجودة هنا تبدأ من النية: أن يكون العمل تعبيرًا عن الإيمان، لا مجرد مهمة تؤدى لإرضاء البشر.
تطبيق عملي: في العمل، يعني أن يقدم المعالج جلساته وكأنها صلاة عملية فيها محبة واتقان.
الأمانة والنزاهة – الصدق كصورة لله
تيطس 2:7 – "مقدِّمًا نفسك في كل شيء قدوة للأعمال الصالحة، ومقدِّمًا في التعليم نقاوة ووقارًا." الأمانة هي حجر الزاوية لكل علاقة مهنية وإنسانية، وهي تعكس صورة الله في حياتنا.
تطبيق عملي: في قيادة الفرق، النزاهة تُظهر نفسها في توزيع الموارد، وشفافية التعامل.
التحسين المستمر – السعي للارتقاء الروحي والمهني
فيلبي 3:14 – "إلى الغاية أسعى لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع." لا مكان للجمود في حياة المؤمن — الجودة تعني التطوير الدائم، والمراجعة، والتجديد.
تطبيق عملي: تحديث أدوات التدريب في الرعاية الصحية لتعكس أفضل الممارسات.
الاهتمام بالآخرين – خدمة تُظهر محبة المسيح
غلاطية 6:2 – "احملوا بعضكم أثقال بعض، وهكذا تمّموا ناموس المسيح." الاهتمام لا يكون ردّ فعل بل أسلوب حياة، حيث نسعى لراحة الآخرين قبل راحتنا.
تطبيق عملي: توفير بيئة علاجية تراعي الخلفيات الثقافية واللغوية.
العمل بروح الجماعة – نحن جسد المسيح
1 كورنثوس 12:27 – "فأنتم جسد المسيح، وأعضاؤه أفرادًا." لا يمكن أن تتحقق الجودة في عزلة. التعاون هو جوهر العمل المثمر، الروحي والمهني.
تطبيق عملي: بناء فرق متكاملة ومتناغمة تؤمن بالتكامل والتشاور.
خبرة حياة
في رحلتي داخل مركز سيدة السلام، اكتشفت شيئًا جوهريًا عن محبة الله للجودة. لطالما ارتبط تقديم الخدمات المجانية في أذهان الناس بجودة منخفضة، وكأن الجودة الحقيقية لا يمكن تحقيقها إلا إذا كانت مدفوعة الثمن. لكنني كنت مؤمنة بأن الله يريدنا أن نقدم خدماتنا بجودة و أن نعيش الحياة بجودة، لا بل بوفرة، تمامًا كما قال.
هذا الإدراك العميق قادني إلى فهم أن الجودة ليست مجرد معيار مادي أو إداري، بل هي مبدأ روحي يعكس إرادة الله لنا بأن نسعى و نتعب لكي يعيش الآخرين حياة مليئة بالكرامة، ويحظوا بأعلى جودة من الخدمات و أن نسعى أيضا الى التميَز، وتقديم الخدمة للجميع و خصوصا افقر الفقراء.
يمكننا ربط مفهوم الجودة كفعل محبة والتزام بالتميّز مع نظرية EPQS التي تم تطويرها من خلال عملي لقيادة المنظمات غير الربحية والجمعيات الخيرية.
في نظرية EPQS، يتم التركيز على أربعة عناصر رئيسية لتحقيق النجاح في قيادة المنظمات غير الربحيّة:
1. المؤهلات التعليمية، التي تساعد القائد على اتخاذ قرارات مستنيرة وتطوير استراتيجيات فعالة.
2. إدارة المشاريع، التي تضمن تنفيذ البرامج بكفاءة وتحقيق الأهداف المرجوة.
3. إدارة الجودة، التي تعزز الأداء العام وتضمن تحقيق أعلى مستويات الفعالية.
4. القيادة الخادمة، التي تركز على تمكين الفريق وتعزيز روح التعاون والالتزام.
القيادة الخادمة كأساس للجودة الشاملة
في يوحنا 10، يُصوّر المسيح نفسه كـ"الراعي الصالح" الذي يضحي بحياته من أجل خرافه، مما يُبرز نموذج القيادة الخادمة. هذا النموذج يتجلى في تقديم الرعاية والاهتمام بالآخرين، وهو أساسٌ لمفهوم الجودة الشاملة، حيث يُعتبر القادة مسؤولين عن تمكين فرقهم وتوفير البيئة المناسبة لتحقيق التميّز، و متابعة نقاط التحسين، و المدافعة عن حقوقهم و تقديم أفضل سبل الدعم و الاسناد لهم لكي يعيشوا بكرامة و أن يشعروا بأنهم جزء مهم من رسالة و رؤية المؤسسة وأن يعيشوا حياة أفضل على جميع الأصعدة!
الخاتمة
نجد أن مبادئ الجودة كما هو موضح في ISO 9001 تتوافق بشكل كبير مع تعاليم العهد الجديد وكلمات السيد المسيح. حيث أن الهدف الأساسي في كلاهما هو تحقيق التميز في الخدمة، والسعي إلى تطوير مستدام يلبي احتياجات الناس. إن تطبيق هذه المبادئ في المؤسسات يمكن أن يؤدي إلى نظم أكثر فاعلية، وإنسانية، وإستدامة، تعكس روح المحبة، القيادة الخادمة، والاهتمام بالإنسان كما علمنا الراعي الصالح.