موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
يأتي مثل "السامري الصالح"، الذي نستمع إليه اليوم، في سياق حوار بين يسوع وأحد علماء الشريعة (لوقا 10: 25-37)، كان يسعى إلى امتحانه ووضعه في موقف حرج. إنّ سؤال عالم الشريعة يحمل في طيّاته أهمية كبيرة، فهو السؤال ذاته الذي اعتاد كل تلميذ أن يطرحه على معلمه. غير أنّ نية هذا الرجل لم تكن صافية، ولا موقفه موقف تلميذ حقيقي، إذ لم يكن يسعى إلى معرفة الحقيقة، بل إلى الإيقاع بيسوع والتقليل من شأنه.
فسأل قائلًا: "يا معلم، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟" (لوقا 10: 25). وللردّ على هذا السؤال الجوهري، اختار يسوع أن يجيب بسؤالَين أساسيَّين آخرين: "ماذا كُتب في الشريعة؟ وكيف تقرأ؟" (لوقا 10: 26).
من الضروري أن نربط بين السؤالين، لأن الجواب الكامل لعالم الشريعة لا يُفهم إلا من خلال الجمع بينهما. فالمعرفة الحقيقية لا تقتصر على ما هو مكتوب في الشريعة، أي على ما أعلنه الله بشأن الحياة الأبدية، بل تتطلّب أيضًا فهماً عميقًا لطريقة القراءة: أي بأي قلب وبأي نظرة نتعامل معها.
عالم الشريعة كان على دراية تامة بالشريعة، وأعطى جوابًا دقيقًا. ومع ذلك، لم يكن يبدو عليه أنه أدرك المعنى العميق لما يعرف، أو كيفية تأويله بشكل صحيح. فنظرته هي نظرة مَن يسعى إلى تبرير نفسه: "فأَرادَ أَن يُزَكِّيَ نَفسَه فقالَ لِيَسوع" (لوقا 10: 29).
وسؤاله الثاني ليسوع يشكّل مرحلة جديدة ومهمة في الحوار: "ومن قريبي؟" ويأتي المثل الذي يرويه يسوع جوابًا شاملًا عن السؤالَين اللذين طرحهما عالم الشريعة.
المثل معروف: رجل كان ينحدر من القدس إلى أريحا، فوقع في أيدي اللصوص الذين اعتدوا عليه وتركوه بين حيّ وميت (لوقا 10: 30). الموت، إذًا، كان حاضرًا هناك، في منتصف الطريق. وما سيحدث لاحقًا هو ما سيُحدد مصير هذا الرجل: هل سيُترك للموت ليُكمل عمله؟ أم أنّ شخصًا ما سيُجبر الموت على التراجع؟
لو اقتصر الموقف على مرور كاهنٍ من هناك مصادفة، لكان الموت قد نال غايته، وسلب هذا الإنسان البائس حياته بالكامل.
فالكاهن، على الرغم من أنه رأى الرجل الجريح ممدّدًا على الطريق، اكتفى بالنظر إليه، ثم مضى في طريقه دون أن يقدّم له أيّ عون. لم يرتكب شرًّا، لكنه أيضًا لم يصنع خيرًا. اكتفى باللامبالاة، وتابع طريقه ببساطة، كما فعل اللصوص حين تركوا الرجل بين حيّ وميت: "فٱتَّفَقَ أَنَّ كاهِنًا كانَ نازِلًا في ذٰلكَ الطَّريق، فرآهُ فمَالَ عَنه ومَضى" (لوقا 10: 31).
والأمر نفسه تكرّر مع اللاوي، الذي كان هو الآخر في طريقه، ورأى الجريح، لكنه تصرّف كما فعل الكاهن: نظر، ثم اجتاز إلى الجهة الأخرى وتابع سيره (لوقا 10: 32).
وهنا، ما يبدّل مجرى الأحداث هو كلمة صغيرة تحمل في طيّاتها تحولًا عظيمًا: "أما السامري..."، هذه الكلمة تُدخل المشهد شخصية ثالثة مختلفة، شخصًا لم يتصرف مثل من سبقوه: "ووَصَلَ إِلَيه سامِرِيٌّ مُسافِر ورَآهُ فأَشفَقَ علَيه" (لوقا 10: 33). الجميع رأوا، والجميع مرّوا، وتركوا الموت يُكمل طريقه.
أما ذلك الرجل الآخر، فلم يكتفِ بتكرار ما فعله الآخرون قبله، ولم يلجأ إلى تبرير موقفه (راجع لوقا 10: 29)، حتى وإن كان بوسعه أن يحتجّ بأن الجميع قد تصرّفوا بالطريقة ذاتها.
السامري أيضًا رأى، كما رأى الكاهن واللاوي، لكن نظرته لم تكن كسابقَيه. في داخله كان هناك شيء مختلف، إذ إنّ المشهد الذي رآه أثّر فيه بعمق، ولمس قلبه، فأثار فيه الشفقة. لقد رأى بعين الرحمة: "ووَصَلَ إِلَيه سامِرِيٌّ مُسافِر ورَآهُ فأَشفَقَ علَيه" (لوقا 10: 33).
ولم ينشغل السامري بلعن الذين ارتكبوا هذا الاعتداء، ولا بإدانة الذين مرّوا من قبله دون أن يحرّكوا ساكنًا. بل بكل بساطة، فعل ما كان يستطيع فعله، بكل ما أوتي من قدرة: اعتنى بالرجل الجريح، "فدَنا منه وضَمَدَ جِراحَه، وصَبَّ علَيها زَيتًا وخَمرًا، ثُمَّ حَمَلَه على دابَّتِه وذَهَبَ بِه إِلى فُندُقٍ وٱعتَنى بِأَمرِه" (لوقا 10: 34).
ومن بين مظاهر هذه العناية، التي تجلّت في أفعال ملموسة مفعمة بالحنان، نُسلّط الضوء على عنصر بالغ الأهمية: الوقت. فالسامري لم يقدّم لهذا الرجل الإسعاف فحسب، ولم يكتفِ بحمله على دابّته وتسليمه إلى صاحب الفندق ودفع المال من أجله، بل أعطاه ما هو أثمن من كلّ ذلك، ما هو أغلى ما نملكه جميعًا، أعطاه من وقته.
إن عناية السامري، في الواقع، لم تكن مجرّد ردّة فعل عاطفية عابرة، ولا اندفاعًا لحظيًا، بل كانت التزامًا مستمرًا يمتدّ عبر الزمن. لقد تجاوزت لحظة اللقاء الأول، واستمرت في اليوم التالي، بل ونظرت إلى الأمام، إلى ما بعد العودة المرتقبة. "وفي الغَدِ أَخرَجَ دينارَيْن، ودفَعَهما إِلى صاحِبِ الفُندُقِ وقال: «إِعتَنِ بِأَمرِه، ومَهْما أَنفَقتَ زيادةً على ذٰلك، أُؤَدِّيهِ أَنا إِليكَ عِندَ عَودَتي»" (لوقا 10: 35).
في ختام المثل، يوجّه يسوع إلى عالم الشريعة سؤالًا جديدًا يقلب من خلاله منطق السؤال الأول. فلم يعُد السؤال: "من قريبي؟" بل صار: "فمَن كانَ في رأيِكَ، مِن هٰؤلاءِ الثَّلاثَة، قَريبَ الَّذي وَقَعَ بِأَيدي اللُّصوص؟" (لوقا 10: 36).
رغم معرفة الكاهن واللاوي الأكيدة بما تنصّ عليه الشريعة وماذا تُلزم به، لم تكن حياتهما منسوجة حقًا على منوال ما يعرفان. أما السامري، فكانت حياته مطبوعة بروح الشريعة، ولهذا شعر بمسؤولية تجاه هذا الرجل الفقير، فاقترب منه ورفض أن يتركه يموت. وهكذا، يقدّم يسوع من خلال هذا المثل الجواب الحقيقي عن السؤال الرئيسي: كيف نرث الحياة الأبدية؟