موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
سلّطت قضية رئيس الأساقفة كارلو ماريا فيغانو الضوء على العقوبات القانونيّة في القانون الكنسيّ.
فقد حكمت دائرة "العقيدة والإيمان" الفاتيكانيّة على السفير البابوي السابق في الولايات المتحدة الأميركيّة بالحرمان الكنسي، بسبب "جريمة الانشقاق"، بعد أن أوضحت في بيانها بأنّ "تصريحاته العلنيّة تظهر رفضه الاعتراف بالحبر الأعظم والخضوع له، ورفضه الشركة مع أعضاء الكنيسة، ورفضه الشرعيّة والسلطة القانونيّة للمجمع الفاتيكاني الثاني".
الانشقاق هو جريمة قانونيّة.
من المهم ملاحظته أنه على الرغم من أنّ قانون الكنيسة الكاثوليكيّة يعتمد على الإيمان والأخلاق، إلا أنّه لا يزال نظامًا قانونيًا، وليس نظامًا أخلاقيًا بحتًا. وهذا يعني أنّ القانون الكنسيّ موجه عمليًّا إلى الإدارة الجيّدة للمؤسّسة الكنسيّة، وبالتالي يمهّد الطريق للمؤمنين للحصول على بيئة مناسبة للتقرّب من الله، بدلاً من تحديد مبادئ العلاقة الجيّدة مع الرّب يشكل مباشر.
لذلك، في حين أن جميع الجرائم الكنسيّة هي خطايا، فليست كل خطيئة تعتبر جريمة في القانون الكنسيّ. وبشكل عام، يتم وضع الخطايا في القانون كجرائم قانونيّة عندما تؤثّر بشكل خارجي على الانضباط في ممارسة الأسرار أو الإدارة الجيّدة أو الرشيدة للكنيسة.
يقول القانون 751 من القانون الكنسيّ أنّ الانشقاق "هو رفض الخضوع للحبر الأعظم أو الشركة مع أعضاء الكنيسة الخاضعين له". وهذا على النقيض من الهرطقة التي يعرّفها القانون بأنّها "الإنكار أو الشكّ العنيد، بعد المعموديّة، للحقيقة التي يجب أن يؤمن بها الإيمان الإلهي أو الكاثوليكي". كما أنه يختلف عن جريمة "الإنكار التام للإيمان المسيحي" والتي نسميها "جحود الإيمان".
لذا، فبينما يتخلّى المرتد عن المسيحيّة تمامًا، وبينما يبقى المهرطق مسيحيًّا ولكنه ينكر بعض حقائق الإيمان الأساسيّة، فإنّ الشخص الذي يرتكب الإنشقاق قد يبقى مؤمنًا بكلّ ما تعترف به الكنيسة بطريقة سليمة لاهوتيًا، لكنه يرفض الاعتراف بسلطة البابا أو أنّه يتعمّد إخراج نفسه من الشركة مع البنية المؤسّسية المرئيّة للكنيسة الكاثوليكيّة.
وبقدر ما يعتبر الانشقاق جريمة، فهو ليس شيئًا يمكن أن يقع فيه الكاثوليكي بحسن نيّة عن طريق الصدفة، أو من خلال الضعف البشري الطبيعي. إنّ الاختلاف بكلّ احترام مع قرار ملموس محدّد للأب الأقدس لا يعني انشقاقًا، كما أنّ الشعور بمشاعر الإحباط أو الارتباك تجاه إجراءات يتخذها الفاتيكان لا يعد أيضًا عملاً من أعمال الانشقاق.
اعتمادًا على هذا السياق، قد يكون شيئًا مثل التذمّر من البابا بطريقة ساخرة، خطيئة. لكن هذا أيضًا لا يعتبر في العادة انشقاقًا (على الرغم من أنّ حثّ الآخرين على عصيان الأب الأقدس أو الأسقف المحلي، أو التحريض علنًا على الكراهيّة أو العداوة ضدهم، يعد جريمة في حد ذاتها، وفقًا للقانون 1373، إلا أنّ الجريمة لا ترقى بالضرورة إلى مستوى الإنشقاق).
وفي بعض الأحيان، تتمّتع السلطة المختصة –غالبًا الأسقف المحلي، ولكن في بعض الحالات البابا نفسه فقط- ببعض السلطة التقديريّة حول كيفية أو حتى معاقبة الجريمة بعد إثباتها. لكن هنالك جرائم لديها عقوبة تلقائية أو إلزاميّة.
الانشقاق هو أحد هذه الجرائم.
يقول القانون 1364، الفقرة 1: "المنشق يفرض حرمانًا كنسيًا [تلقائيًا]". من الناحية الفنيّة، لا يمكن للشخص المحروم أن يتلقى أيّة أسرار، أو أن يحتفل بأيّة أسرار إذا كان الجاني رجل دين، ولا يمكنه ممارسة منصب كنسي، أو منصب مسؤوليّة داخل الكنيسة" (انظر القانون 1331).
لكن الحرمان هو عقوبة يُساء فهمها إلى حد ما. ففي المخيلة الشعبيّة، قد يبدو الحرمان الكنسيّ وكأن أحد المؤمنين "يُطرد" من الكنيسة، في حين أن المقصود فعليًا من الحرمان هو عكس ذلك. يُطلق على الحرمان الكنسيّ اسم "العقوبة العلاجية"، لأنّه يُقصد به أن يكون بمثابة نوع من "جرس التنبيه" للمخالفين لإعادتهم إلى العلاقة الصحيحة مع الكنيسة.
وهذا يتعارض مع "العقوبات التكفيريّة" التي تهدف إلى إعادة الشعور بالعدالة إلى المجتمع، وبالتالي تهدف إلى أن تكون أكثر عقابيّة. من بين الأمور التي يمكن أن تشملها العقوبات التكفيريّة: الأمر بدفع غرامات ماليّة، فقدان المنصب الكنسي، الفصل من الحالة الإكليروسيّة، حظر ارتداء الملابس الكهنوتيّة أو الرهبانيّة، منع الإقامة في أبرشيّة معينة...
يمكن فرض الحرمان كنتيجة لمحاكمة قانونيّة أو لإجراء مشابه. أما بالنسبة لبعض الجرائم الخطيرة بشكل خاص، فإنّ القانون يستطيع أن يحكم بالحرمان الكنسي من خلال إصدار حكم بذلك، أو بشكل تلقائي latae sententiae. ففي هذا الشأن يتم حرمان الجاني من خلال ارتكاب جريمة معينة. وبعبارة ثانيّة، بمجرد ارتكاب الجريمة، يكون الجاني قد حرم نفسه تلقائيًا بفعلته.
أحد العناصر الصعبة فيما يتعلق بالعقوبات التلقائيّة بشكل عام هو أنه قد لا يكون من الواضح دائمًا للأطراف الثالثة على الفور أن جريمة قد تم ارتكابها وبالتالي تم فرض العقوبة. هذا هو السبب في أن الكنيسة لديها أيضًا فئات الحرمان الكنسي المعلن وغير المعلن.
إنّ الحرمان الكنسي التلقائي غير المعلن هو في بعض النواحي مسألة ضمير بالنسبة للجاني، لأنّه لا يترتب عليه نفس العواقب القانونيّة مثل الحرمان الكنسيّ الذي كان يعرف رسميًا بـ"المعرفة العامة". ومع ذلك، فإنّ الجاني لا يزال يعرف أنّه قد تمّ حرمانه كنسيًا، لأنّ الشخص الذي لم يكن على علم حقًا بارتكاب جريمة قانونيّة لا يمكنه أن يتحمّل عقوبة قانونيّة (القانون 1323، البند 2).
أما بالنسبة للحرمان الكنسي المعلن فيتم إعلانه رسميًا من قبل السلطة المختصة. وهذا لا يماثل تمامًا إنزال العقوبة بالمعنى الطبيعي، حيث أن إعلان السلطة للعقوبات التلقائيّة يعني ببساطة الاعتراف بأن الجاني قد حرم نفسه كنسيًا بالفعل.
كما ذكر أعلاه، فإن جريمة الانشقاق تنطوي بالضرورة على الحرمان الكنسي. ومع ذلك، فإن الانقسام يُعدّ جريمة خطيرة بحيث ينص القانون أيضًا على إمكانية فرض عقوبة تكفيريّة بالإضافة إلى الحرمان الكنسي، خاصة إذا كانت "خطورة العثرة العلنية تستدعي ذلك" (انظر القانون 1364، الفقرة 2.) حتى لو تاب الجناة المحرومون كنسيًّا، كما هو مأمول، وتم قبولهم من جديد في الحياة الأسراريّة الكاملة للكنيسة، فقد تظل هناك عقوبة تكفيريّة دائمة سارية المفعول من أجل معالجة العثرة التي تسبّبت فيها أفعالهم الإنشقاقيّة.
في حين أن قانون الكنيسة الكاثوليكيّة فيما يخص الانشقاق والعقوبات المقرّرة قد يبدو للوهلة الأولى قاسيًا، إلا أن هذه القوانين موجودة لحماية الكنيسة، ولضمان العدالة لكل من الجناة ولجميع المؤمنين على نطاق أوسع. في "صلاته الكهنوتيّة" التي يوردها إنجيل القديس يوحنا، صلى يسوع: "فليكونوا بأجمعهم واحدًا: كما أنك فيّ، يا أبتِ، وأنا فيك فليكونوا هم أيضًا فينا ليؤمن العالم بأنك أنت أرسلتني" (17: 21). ولذلك، فإنّه على السلطة الحاكمة في الكنيسة واجب ضمان معالجة الانقطاعات في هذه الشركة بطريقة محسوبة ومناسبة.