موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر السبت، ٩ أغسطس / آب ٢٠٢٥
تأمل الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا: الأحد التاسع عشر من السنة العادي ج، 2025

بطريرك القدس للاتين :

 

إنجيل هذا الأحد (لوقا 12: 32-48) مرتبط ارتباطًا وثيقًا بإنجيل الأحد الماضي، حين روى الرب يسوع مثل الغني الجاهل (لوقا 12: 13-21). أما في قراءة اليوم، فيتّضح المعنى، ويتعمّق مضمونه، ونُعطى بطريقة ما المفتاح لفهم أمر بقي معلّقًا.

 

في الآحاد السابقة، بقيت لدينا بعض الأسئلة المهمة: ما هو "النصيب الأفضل" الذي اختارته مريم، والذي "لن يُنزع منها"؟ (لوقا 10: 42). وما هي الخيرات التي لا تبلى؟ وماذا يعني أن "نكون أغنياء عند الله"؟ (لوقا 12: 21). يتحدث يسوع إلى خاصّته عن هذا الموضوع لأنه موضوع مصيري: يتعلّق بالأبدية، وبالتالي بقلوبنا، يكشف لنا أين نقف في هذه الحياة، وما هو الشيء الذي يهمّنا حقًا، وفيمَ يتعلّق معنى وجودنا؟

 

يبدأ النص بكلمة أساسية، في الآية 32: "لا تَخَفْ، أَيُّها القَطيعُ الصَّغير، فقد شاءَ أَبوكُم أَن يُنعِمَ عَليكُم بِالمَلَكوت."

 

وربما يكمن مفتاح فهم هذه الجملة في عبارة "القطيع الصغير" التي يستخدمها يسوع، والتي تعيدنا إلى مقاطع عديدة من العهد القديم، حيث يُظهر الله أنه اختار شعبه، وأحبّهم، وحماهم، لا لأنهم أعظم من سائر الشعوب، بل لأنهم الأصغر والأقل شأنًا: "لَيْسَ مِنْ كَوْنِكُمْ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ، الْتَصَقَ الرَّبُّ بِكُمْ وَاخْتَارَكُمْ، لأَنَّكُمْ أَقَلُّ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ." (راجع تثنية 7: 7-8).

 

هكذا يتصرف الله: يحبّ الإنسان ويختاره لا لأنه يستحق، ولا لأنه يتمتع بصفات خاصة، بل لأنه يسرّ بذلك. فالله يحبّ بمحبة مجانية. لقد منحنا الآب ملكوته، منحه لصِغرنا. لقد أعطانا ما هو ضروري للحياة. فملكوت الله ليس ثروة تُجمع، ولا كنزًا يُستولى عليه. لا علاقة له بالخيرات التي أراد الغني في المثل أن يخزنها في مخازنه. على العكس، يرتبط الملكوت بالنقص أكثر مما يرتبط بالامتلاك.

 

بعد ذلك مباشرة، يستخدم يسوع صورًا تشير إلى الافتقار أكثر من الاكتفاء: "بيعوا أموالكم"، "تصدقوا بها"، "انتظروا رجوع سيدكم من العرس..." فالملكوت يُدرك من خلال اختبار الفراغ والغياب، وكأنه جرح. لأن الفراغ، والنقص، والجرح، تنقش في قلب الإنسان الانتظار والرغبة، وهما أثمن العطايا التي تُمنح في هذه الحياة. إنّها تفتحنا على ما يتجاوز ذواتنا، ويدعواننا إلى اللقاء، إلى الصلاة، إلى الصداقة.

 

أما الغنيّ في المثل، فكان منغلقًا على ذاته وغناه، غير قادر على أن يرى ما هو أبعد من ممتلكاته. في حين أن الانتظار والرغبة يوسّعان القلب نحو الحياة، نحو التضامن، نحو نشر الخير، نحو الخدمة. لهذا السبب، يستخدم يسوع في هذه الآيات صفة لطالما ارتبطت بالملكوت، واقترنت بالنقص والانتظار: "طوبى".

 

طوبى لأولئك الذين، عندما يعود الرب، يجدهم في أماكنهم يخدمون إخوتهم بأمانة: "طوبى لأولئك العبيد الذين إذا جاء سيدهم وجدهم ساهرين" (لوقا 12: 43). ففي نظر يسوع، لا يُعدّ "طوبى" لمن يمتلك، بل لمن يرجو، لمن يبقى منفتحًا على العطيّة بثقة.  عطيّةٌ، كما قلنا، لها وجه العلاقات والصداقة، وتُعاش في إطار الخدمة. وعندما يتحقّق ذلك، يتمّ ملكوت الله، كزرعٍ ينمو حيث يجد له موضعًا. وثمرة هذا المسار من النمو مخفية في كلمة نجدها مرتين في إنجيل اليوم.

 

في البداية، هناك الآب الذي سُرّ بأن يعطينا الملكوت: "لأن أباكم قد سُرَّ أن يعطيكم الملكوت" (لوقا 12: 32). وفي النهاية، هناك العبد الذي، أثناء انتظاره عودة سيده، يوزّع على رفاقه طعامهم في الوقت المناسب: "فمن هو الوكيل الأمين الحكيم الذي يقيمه سيده على خدمه ليعطيهم طعامهم في حينه؟" (لوقا 12: 42).

 

في هذا الانتظار، يتعلّم العبد فنّ العطاء، ويعطي بفرح، تمامًا كما أعطانا الآب ملكوته بسرور. ومن يتعلّم هذا الفنّ، تنقلب حياته رأسًا على عقب، ويُصبح غنيًا (لوقا 12: 44)، لا بالغنى الفاني، بل بكل ما يملكه الله، بملء حياته الإلهية: "الحق أقول لكم: إن سيده يقيمه على جميع أمواله".