موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ٣٠ يوليو / تموز ٢٠٢٤
لماذا عندما تمر الأحداث الدرامية في حياتنا يتم إنقاذ واحد ولا يتم إنقاذ آخر؟
تأمّلٌ يستند إلى محاولة اغتيال ترامب الأخيرة. إجابة يسوع . ذكريات رحلة إلى بكين في عام 1993
الكاردينال فرناندو فيلوني – الرئيس الأعلى لجمعية فرسان القبر المقدّس

الكاردينال فرناندو فيلوني – الرئيس الأعلى لجمعية فرسان القبر المقدّس

الكاردينال فرناندو فيلوني :

 

هناك أشخاص معروفون ومشهورون وآخرون أقل شهرة، وهناك مثقفون ومومنون وآخرون أقل ثقافة، يكتبون علنًا أنهم لا يؤمنون، وهناك البعض الآخر يحتفظ بأفكارهم لأنفسهم. كل إنسان له أفكاره ويعبر عنها بطرقٍ ٍمختلفة.

 

في الآونة الأخيرة، غامر صحفي معروف وبارع في إحدى الصحف الوطنية بالتأمل في إله ترامب، أو بالأحرى التأمل في أولئك الذين وضعوه في مرمى نيرانهم ومن المعروف أن رجل الإطفاء المسكين الذي كان وراءه وقع ضحية بدلاً منه. إن أعجوبة تدخل الله في نجاة المرشح الرئاسي الأمريكي للانتخابات، تأتي من وجهة نظر ترامب، ومع هذا لا يزال يثير غضب منتقديه.

 

لقد كان لدى يوحنا بولس الثاني الإدراك العميق أيضًا، بأن مريم العذراء قد أنقذته من الرصاصة (في يوم ذكرى ظهور فاطيما، 13 أيار 1981)، والكثير لديهم نفس التصور، وتلك الرصاصة موجودة اليوم في التاج الذي يزين تمثال مريم في فاطيما.

 

لقد واجه يسوع أيضًا سؤالاً عن السبب في مثل هذه الحالات من الخطر. لماذا عندما يمرّ الإنسان في بعض مراحل حياته بخطر محدق، ينجو البعض من هذا الخطر، في حين تكون ذا عواقب وخيمة للبعض الآخر، لماذا يخلص أحدهم ولا يخلص الآخر؟

 

يحدثنا إنجيل لوقا (١٣: ١–٥) عن هذا الأمر فيما يخص أولئك الجليليين الذين جعل بيلاطس دمهم يسيل مع دم ذبائحهم. كان الناس يتداولون هذه الحقيقة في احاديثهم بأورشليم، في الواقع، كان بيلاطس قد تصرّف بقوّة في قمع ثورة اثناء تُقدَّيم الذبائح في الهيكل.

 

بالمقابل يشير يسوع إلى حدثاً آخر: ألا وهو انهيار برج سالوم  على بعض الأشخاص سيئ الحظ ومقتل ثمانية عشر شخصًا. وعندما نتأمل في رأي المسيح، نرى أن الجواب لا يعالج السؤال بالمعنى العقلاني؛ الجواب هو دعوة لإعادة التفكير في تلك الأحداث وغيرها من الأحداث المشابهة ليس من منطلق قدري أو أخلاقي، بل من منطلق وجودي. أي التفكير في أن ليس لكل شيء في الحياة منطق خطي ظاهري لكل الحالات، وأن الإجابات الفورية أو الشائعة غالبًا ما تكون خطرة أو واهية.

 

فهناك دائمًا جانب مبهم يصعب علينا فهمه، هناك سر آخر يشكلُ عنصرًا غامضًا، وهذا الجزء من التقييم الموضوعي الواعي.

 

وباختصار، فإن الإشكالية التي يواجهها المرء هي أزمة قوية، بسبب صعوبة الإجابة المقنعة، ونادرًا ما يكون المرء صامتًا في هذه الحالات إلا إذا كان ساذجًا وسطحيًا. لهذا لا يمكن لأحد أن يعرف السبب، ففي حالة ترامب، من الواضح أن أحدهم نجا من الموت، بينما أخر وقع ضحية له.

 

من الخطورة دائمًا إعطاء أجوبة، وتحديد الخير والشر، وربط الأحداث الإيجابية أو السلبية بصلاح الناس أو أي شيء آخر، يسوع واضح في كلامه. إن أحداث حياتنا كلها لها أصل قريب أو بعيد، ومسبّب قريب أو بعيد، معروف أو غير معروف، لكن فهمها يبقى غامضًا بشكل جوهري.

 

في إنجيل لوقا، يسوع لا يعطي الجواب المقنع على الفور للشخص الذي سأل، بل يترك مجالاً للغز، أي الزاوية الوجودية المقنعة التي ترتبط قاصدًا الله، هذا بالنسبة لأولئك الذين يؤمنون.

 

بالنسبة لي، المهم هو أنه لا توجد إجابات مقنعة. فالضمير، في الحقيقة، لا يهدأ أبدًا، وقد تحدّث القديس اوغسطينوس عن هذا الأمر بشكل رائع فيما يتعلّق بحياته، روعة هذا المفكر تأتي من الحقيقة، حيث يقول ما من أحد يخلو من مثل هذه التجارب الوجودية، والثابتة والتي لا تعد ولا تحصى في حياتنا، وأن أكثرها تاثيراً هي تلك التي تنبثق منها حالة إشكاليات عميقة: وطرح السؤال لماذا أنا؟

 

كل جزء من حياتنا، الألم المعاناة المأساة المرض الموت والحياة عندما تصل إلى درجة الاشكالية العميقة يُطرح السؤال لماذا؟ ولكنه في نفس الوقت يعلّمنا أيضًا خبرة جديدة وتُغيرنا. هذا الذي أعطاه يسوع لسائليه: ما لم تغيّروا طريقة تفكيركم فلا جواب. أظن أن كل واحد منا له قناعته الداخلية الخاصة به في تقلبات الحياة: هناك من يعتمد على القدر (قد يكون؟)، وهناك من يفكر في الحظ أو سوء الحظ (قد يكون؟)، وهناك من يبني رؤيته المثالية أو الأيديولوجيات الخاصة به.

 

كثيرًا ما أتذكر التجربة التي مررتُ بها، قد لا تعتبر تجربة مأساوية ولكن لها معنى كبير. كنت في بكين لحضور اجتماع دوليّ نيابة عن الكرسي الرسولي في السابع والعشرين من أيار 1993. وبعد الظهر قبل حلول الظلام تم نقلي بسيارة أجرة إلى الكاتدرائية القديمة، بيتانغ، في الحي الشمالي من العاصمة الإمبراطورية القديمة، حيث كانت الحياة لا تزل تتدفق ببساطة وحيوية، وأعتقد أنها كانت المرة الأولى التي يذهب فيها ممثل للكرسي الرسولي إلى هناك منذ طرد السفير البابوي ريبيري (1951).

 

هذه الكاتدرائية كان تستعمل لفترة طويلة كمخزن للفحم، ولا تزال تحتفظ برائحته الذي لا لبسَ فيه، ولكن بعد إصلاحات دينغ شياو بينغ الأولى عادت كمكان للعبادة. دخلتُ الى المكان، فجأة لا أحد يتوقع ذهابي هناك، ورأيتُ الحديقة المليئة بالورود الربيعية، وكانت واجهة الكاتدرائية مرسومة للفن شبه غوطي، كانت هناك خمس فتيات صغيرات يصلين أمام مغارة صغيرة تشبه مغارة لورد، كنّ يرتلن ترنيمة "السلام عليك أيتها الملكة" باللاتينية. دُهشّتُ من خصوصيّة وطريقة الترتيل تلك الترنيمة ولاسيما في اللغة اللاتينيّة، غير المتوقّعة، ففكّرتُ في هذه اللحظة: "كيف أنني أقف في هذا المكان، بعد أربعين سنة من طرد ممثّل البابا، ولكن كانت مريم، أمّ يسوع، تنتظرني! إنها لم تغادر أبدًا".

 

وسألتُ نفسي هل هي مصادفة؟ أم هي اللحظة الغامضة في منطق يتجاوز الواقع المحدود والمعاصر، لقد عدّ حدثًا مهمًا بالنسبة لي، ولي فقط. كان لقاءً يحمل معنى كبير وغنى روحي. في ذلك الوقت كانت الكنيسة في الصين تعيش حياة المسيحين الخفيّة في سراديب تحت الارض. وقدمت الماوية عددًا لا يُحصى من الشهداء والمعترفين بالإيمان الذين شهدوا بحبهم للمسيح وولائهم للكنيسة ولخليفته بطرس. ولكن بالرغم من هذا كله كانت هناك صلاة لمريم أم يسوع، الحقيقة أنه ليس من البديهي أن أدّعي الجميع يشعرون بنفس شعوري؛ بالنسبة لي كان الأمر إحساس النبوءة، إحساس شيئًا لم يحدث بعد، الذي غالبًا ما يتعلق بخبرات هامة وعميقة في كياننا التي يتم استيعابها بشكل أفضل مع مرور الوقت.

 

(نقلها إلى العربية الأخت كارولين سعيد – راهبات قلب يسوع)