موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
بالنسبة إلى يسوع، لم تكن الإفخارستيا مجرّد لحظة تاريخية جرت في العشاء الأخير حين أخذ الخبز والخمر وقدّمهما لتلاميذه كرمز لحياته التي يهبها.
بالنسبة إليه، الإفخارستيا هي أسلوب حياة، خيار يومي. إنّها طريقته في الوجود، إلى حدّ أن تلميذَي عمّاوس قد تعرّفا عليه بالضبط عندما أخذ الرب الخبز وكسره: عندئذٍ انفتحت أعينهما، ومن تلك الحركة تعرّفا عليه، عَرِف هويّته (لوقا 24: 31 ؛ 35): "فٱنفَتَحَت أَعيُنُهما وعَرفاه فغابَ عنهُما... وكَيفَ عَرَفاه عِندَ كَسْرِ الخُبْز".
الإفخارستيا، بالنسبة إلى يسوع، ليست إذاً حدثًا عابرًا، بل هي قصة، بل قصّته الخاصة. ولو أردنا تلخيص حياة يسوع بكلمة واحدة، لقلنا: إفخارستيا.
اتّخذ يسوع إنسانيّتنا، وتقبّل حياته وجسده بكامل المسؤولية. رآهما عطيّة من الآب، فلم يحتفظ بهما لنفسه في أي لحظة من حياته، بل كسرهما ووهبهما باستمرار، لكي يتغذّى الجميع من هذه الحياة المبذولة حبًّا.
ولهذا، لا يروي الإنجيليون الإفخارستيا فقط في سياق العشاء الأخير، بل ينثرون في الإنجيل إيماءات إفخارستية، وفي هذا العيد العظيم، عيد جسد الرب ودمه، يعرض علينا مقطع الإنجيل واحدًا من هذه الإيماءات.
بعد عودة الرسل من الرسالة (لوقا 9: 10)، انزوى يسوع مع تلاميذه في مكان قفر، لكن الجموع، وقد أدركت قصده، تبعته. فاستقبلهم يسوع، وتحدّث إليهم عن ملكوت الله، وشفى مرضاهم "لٰكِنَّ الجُموعَ عَلِموا بِالأَمْرِ فتَبِعوه، فٱستَقبَلَهم وكَلَّمَهُم على مَلَكوتِ الله، وأَبرأَ الَّذينَ يَحتاجونَ إِلى الشِّفاء" (لوقا 9: 11). يركّز النصّ على حالة الفقر والحاجة التي تعاني منها الجموع: المكان قفر (لوقا 9: 12)، الناس كثر (لوقا 9: 13-14)، والوسائل المتوفّرة غير كافية إطلاقًا "لا يَزيدُ ما عِندَنا على خَمسَةِ أَرغِفَةٍ وسَمَكَتَيْن" (لوقا 9: 13)، وقد بدأ النهار يميل إلى نهايته (لوقا 9: 12). هناك نقص في الحياة لا يستطيع الإنسان وحده تجاوزه.
الحلّ الذي يقترحه التلاميذ هو أن يُصرَف الجمع "إِصرِفِ الجَمعَ لِيَذهَبوا إِلى القُرى والمَزارِعِ المُجاوِرَة" (لوقا 9: 12). الفعل المستخدم في الأصل اليوناني لوصف "إِصرِفِ الجَمعَ" تعود للجذر "حلّ"، وهي الكلمة عينها التي كانت تُستخدم في الشريعة القديمة عندما يريد الرجل أن يطلّق زوجته، أن يحلّ الرباط الذي يجمعهما. أمام جوع هذا الشعب، بدا وكأن الخيار الوحيد هو حلّ الرباط، ونقض العهد، والاعتراف بالعجز عن منح الحياة للجميع.
أمّا يسوع، فعلى النقيض تمامًا، فهو لا يحلّ الرباط، بل يدعو الجميع إلى الثبات، وإلى البقاء في حضرته، والجلوس براحة وطمأنينة. "أَقعِدوهُم فِئَةً فِئَةً، في كُلِّ واحِدةٍ مِنها نَحوُ الخَمسين" (لوقا 9: 14).
بالنسبة إلى يسوع، هناك مسار مختلف، يتجلّى من خلال بعض الأفعال التي ستظهر أيضًا في ليلة العشاء الأخير (لوقا 22: 19): "فأَخَذَ الأَرغِفَةَ الخَمسَةَ والسَّمَكَتَيْن، ورَفَعَ عَينَيهِ نَحوَ السَّماء، ثُمَّ بارَكَها وكَسَرَها وجَعَلَ يُناوِلُها تَلاميذَه".
هناك أربعة أفعال يجب أن نأخذها زوجًا، لأنها تعبّر عن حركتين، وعن موقفين مختلفين.
أولاً: يأخذ ويبارك.
أي يأخذ إنسانيّتنا، يصبح إنسانًا حتى النهاية، يعيش كلّ ما تعنيه الحياة البشرية. يأخذ حياته، أي يتقبّلها كعطيّة، لا يمنحها لنفسه، بل يتلقّاها.
ثم يبارك: يرى في هذه الحياة خيرًا، فيشكر الآب، ويتكلّم عنه بالخير.
ثم هناك الفعلان الآخران: يكسر ويناول.
يكسر الخبز ليصل إلى الجميع، لكي ينال كلّ واحدٍ نصيبًا منه. يكسر ليعطي، لأنّه إن لم يُكسر الخبز، فلن يشبع أحد.
إذاً، لكي نعيش الإفخارستيا، يجب أن نحافظ على توازن هذين الزوجين من الأفعال.
لا يكفي أن نأخذ ونبارك: فالهبة ستبقى في أيدينا، ولن تصل إلى أحد. ولا يكفي أيضًا أن نكسر ونعطي: فإذا اعتمدنا على قوانا، ستنفد منّا العطيّة سريعًا، ويزداد الجوع، ويضطر الناس إلى البحث في أماكن أخرى.
أمّا إذا كانت الحياة أوّلًا مأخوذة ومباركة، ثم مكسورة ومبذولة، فإنّ العطيّة لا تنفد، بل يبقى منها فائض عظيم "فأَكَلوا كُلُّهم حتَّى شَبِعوا، ورُفِعَ ما فَضَلَ عَنْهم: إِثنَتا عَشْرَةَ قُفَّةً مِنَ الكِسَر" (لوقا 9: 17)، لأنّ المحبّة هكذا، لا تُستَهلك، بل تفيض، وتتجاوز.
كلّ ما يُؤخَذ، ويُبارَك، ويُكسَر، ويُعطى، يُنشئ حياة، ويعود كملء، ويتضاعف. ويعود إلى يدي من أعطى، كمائة ضعف، لن يُنتزع منه، بل يبقى للحياة الأبدية.