موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢٣ مايو / أيار ٢٠٢٤
تأمل الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا: عيد الثالوث الأقدس (ب)، 2024
متى 28: 16-20

بطريرك القدس للاتين :

 

في هذا اليوم الذي نحتفل فيه بعيد الثالوث الأقدس، دعونا نتأمل في الآيات الختامية من إنجيل متى (متى 28: 16-20)، التي تتمحور حول لقاء الرب القائم من بين الأموات مع تلاميذه، وهو اللقاء الوحيد الذي رواه الإنجيلي متى. وخلال هذا اللقاء، يأتمن يسوع تلاميذه على رسالة جديدة، إذ يرسلهم إلى جميع أنحاء العالم ليعلنوا بشارة الملكوت للبشر أجمعين.

 

وباعتباره المقطع الختامي، فهو بمثابة ملخّص للعديد من العناصر الرئيسية في هذا الإنجيل، والتي سنتطرق إلى بعضها اليوم.

 

نستقي العنصر الأول من فعل مهمّ ورد 57 مرّة في إنجيل متى، وهو فعل "اقترب" (متى 28: 18). وهنا يصل التلاميذ إلى الجليل بعد أن أوصاهم يسوع بذلك من خلال النسوة (متى 28: 10). ومع ذلك، فإن يسوع هو الذي يقترب منهم، وليس العكس.

 

في الواقع، الجليل هو المكان الذي اقترب فيه يسوع من حياتهم، حيث التقى بهم ودعاهم لأول مرة. وبعد قيامته، يستمر يسوع في القيام بذلك، فجعل نفسه قريبًا، حتى يتمكن الجميع من لقائه وبناء علاقة معه.

 

من خلال حياته وموته، كشف يسوع عن وجه الله الذي يقترب منا. لا يبقى الله بعيدًا عنا أو غير مبالٍ بحياتنا، بل يبذل نفسه من أجلنا ويقترب منا.

 

لم يكن احتفالنا بالفصح عائقًا من مسيرة الاقتراب، بل جعلها ممكنة إلى الأبد وللبشر أجمعين. لدرجة أن اسم الله بحد ذاته يتحدث عن هذا القرب: ففي سفر الخروج، أعلن الله نفسه لموسى باسم "أنا هو" (سفر الخروج 3: 14). أما في خاتمة إنجيل متّى، يشير يسوع إلى الاسم ويعلن بقوة: "أنا معكم" (متى 28: 20). لقد دخلنا في سرّ الله، أصبحنا جزءًا لا يتجزأ منه، بعد غربة كنا قد شعرنا فيها بعدنا عنه.

 

وهذا ليس لبضعة أيام، ولا لفترة وجيزة، بل إلى الأبد وكل يوم، حتى نهاية الزمان. فلا توجد لحظة في التاريخ، ولا حتى في أحلك الأوقات وأشدّها ظلامًا، لا يكون فيها الله معنا، ولا يجعل نفسه قريبًا منا، ليحمل معنا عبء الحياة، ويفتح لنا طريق الرجاء.

 

لذلك، يكشف هذا المقطع الختامي عن شيء مهم للغاية حول من هو الله، وكيف تجسّد في شخص يسوع المسيح. كما يتحدث هذا المقطع عن جماعة التلاميذ وعن البشرية جمعاء.

 

إن جماعة التلاميذ الذين يصلون إلى الجليل، والذين يقترب منهم يسوع، هم جماعة مميزة جدًا، لأنهم منكسري القلب ومنسحقي الروح.

 

لم يعد هناك اثنا عشر تلميذًا بل أحد عشر تلميذًا (متى 28: 16)، لأن واحدًا منهم خان ورحل. فغيابه بمثابة تذكير بأن الجميع، بطريقة ما، قد خانوا معلمهم وتخلوا عنه في أحلك اللحظات.

 

علاوة على ذلك، يشير متى إلى أن هذه الجماعة مليئة بالريبة (متى 28: 17) وتجد صعوبة في التعرف على الرب.

 

إن جماعة التلاميذ جماعة غير كاملة وستبقى كذلك دائما إلا أن هذا لا يمنع الرب من إرسال التلاميذ إلى الشعوب قاطبة. فرسالة التلاميذ ليست إعلان فضائلهم أو عيوبهم، بل ببساطة الاقتداء بيسوع، أي الاقتراب من الآخرين: يسوع يرسلهم ليكونوا بين الناس (متى 28: 19). ويجب ألا ينتظروا أن يأتي الناس إليهم، بل عليهم أن يتّخذوا الخطوة الأولى نحو الجميع، تمامًا كما فعل الرب معهم.

 

تُعلن البشارة لجميع الأمم (متى 28: 19)، لأن الجميع ينتظرون لقاء الرب. مثل هذا اللقاء لا يبدأ من تلقاء نفسه لأنه يتطلب مشاركة الآخر، تمامًا مثل الحب الذي لا يتحقق بمعزل عن الآخر، ويتطلب شريكاً.

 

من خلال لقائنا وقربنا من الآخرين، نشكل عائلة واحدة على صورة الثالوث الأقدس. ومن خلال هذا نصبح تلاميذ للرب القائم من بين الأموات، ونتعلم تدريجيًا أن نختبر محبته ونعيش بها كل يوم.