موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الخميس، ١١ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٥
تأمل الكاردينال بييرباتيستا لعيد ارتفاع الصليب المقدّس 2025

بطريرك القدس للاتين :

 

لقد سمعنا في إنجيل الأحد الماضي أنّ من أراد أن يتبع الرب يشبه ذلك البنّاء الذي، قبل أن يشرع في بناء برج، يجلس ليُحصي النفقة، ليرى هل عنده ما يكفي لإتمام العمل (لوقا 14: 28-30). أو مثل ذلك الملك الذي وهو مزمع أن يخوض حربًا، يجلس أوّلًا ويتأمّل إن كان في مقدوره أن يواجه خصمه بما لديه من رجال، فإن لم يكن، تنازل وتراجع (لوقا 14: 31-32).

 

ومن هنا ننطلق لندخل في إنجيل عيد اليوم (يوحنا 3: 13-17)، عيد ارتفاع الصليب المقدّس.

 

فبينما كان الرب يسوع يحاور نيقوديموس، استند إلى صورة من سفر العدد (21: 4-9)، حيث الشعب في البرّيّة في ضيق وشكوى، كانوا قد بدأوا مسيرتهم نحو الحرّيّة، غير أنّهم في لحظة ضعف ضجروا من الطريق واعتبروا أنّ ما يعيشونه عبث، وأنّ الرب قد خدعهم، وأنّه لا يريد لهم الحياة بل الموت.

 

وكذلك نحن، نعيشُ في مسيرة، ومسيرتنا شاقّة، فنظنّ أحيانًا أنّ صعوبة الطريق دليل على أنّ الله قد تركنا، أو أنّه لا يهتمُ بنا، وهذا الظنّ هو السمّ الذي تنفثه الحيّة في القلوب، سمّ يقود إلى الموت.

 

لكن الله، في رحمته، أعطى علامة لشعبه المتعب ليعيدوا الثقة ويجدّدوا الإيمان بمحبّته.

 

واللافت أنّ الرب لم يُبعد الحيّات عنهم، بل تركها تلدغ، غير أنّه أعطاهم دواءً أقوى من السمّ، ترياقًا يبطل مفعوله، فالشرّ لم يُرفع، لكنّه لم يعُد يقود بالضرورة إلى الموت.

 

وما هو هذا الترياق؟ وماذا كان عليهم أن يفعلوا؟

 

لم يكن المطلوب منهم أن يحاربوا الحيّات أو أن يقضوا عليها، فذلك يتجاوز قدرتهم، لأنّه ليس نحن وحدنا من ننتصر على الشرّ.

 

بل كان عليهم فقط أن يرفعوا أنظارهم إلى الحيّة النحاسية المرفوعة على السارية، ومن يفعل، يحيا.

 

وهكذا تحوّل رمز الموت إلى علامة حياة.

 

ويسوع يعيد قراءة هذه العلامة على ضوء سرّ صليبه، إذ يقول: وكما رفع موسى الحيّة في البرّيّة، هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبديّة» (يوحنا 3: 14-15).

 

فحياته وموته هما كالحيّة المرفوعة، يراهما الجميع، ومن يرفع نظره يرى شيئًا قادرًا على أن يشفيه في عمق قلبه، فيرى محبّة الآب لكلّ إنسان: «لأنّه هكذا أحبّ الله العالم حتّى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة» (يوحنا 3: 16).

 

فالشرّ ما زال حاضرًا، وهو شرّ يولّد موتًا ويعرقل مسيرة الإنسان نحو الحرّيّة والحياة الأبديّة، وهو في جوهره، قلّة الإيمان وغياب المحبّة. ولكن عيد اليوم يعلن لنا أنّ الصليب هو القوّة التي تهزم هذا الشرّ، وهو الترياق الوحيد الذي يخلّصنا.

 

فمن يرفع عينيه نحو المصلوب، لا يمكنه بعدُ أن يظنّ أنّ الله لا يحبّنا.

 

بل على العكس، محبّة الله لنا لا تعرف نهاية، تتجاوز كلّ ما يمكن أن نتصوّره، إنّها محبّة لا تدين أخطاءنا، بل تلتقي بنا في مكان ضعفنا وتيهنا.

 

هناك شرط واحد فقط: أن نرفع نظرنا إلى ذلك الحبّ ونقبله في حياتنا، وعيد ارتفاع الصليب المقدّس يدعونا تحديدًا إلى القيام بهذا، وهو أن ندرك من جديد عظمة هذه العلامة، وأن نرفع من جديد عيوننا صوبها.

 

فلقد خَلُصنا بمحبّة حولت الشرّ إلى خير، وهذه دعوتنا نحن أيضًا، هذه هي الحياة الأبديّة.

 

فمن أراد أن يتبع الرب، لا يحسب حساب قواه الذاتية ولا إمكانياته البشرية، بل يكفيه أن يرفع عينيه نحو الصليب، ليتأمّل في المحبّة اللامتناهية التي كُشِفَت لنا فيه.