موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
في الأحَدِ الثَّالِثِ مِن زَمَنِ المَجيءِ، نَتَأمَّلُ بِشَخصِيَّةِ يُوحَنَّا المُعمِّدانِ.
المَقطَعُ الَّذي نَقرَأُهُ اليومَ مِن إِنجيلِ لُوقا (لُوقا ٣: ١٠-١٨) لا يُركِّزُ كثيرًا على وَصفِ شَخصِيَّةِ المُعمِّدانِ، بِقَدرِ ما يُبرِزُ الحَرَكَةَ الَّتي أَثارَها بَينَ النّاسِ حينَ بَدَأَ، في البَرِّيَّةِ، يُعلِنُ كَلِمَةَ اللهِ الَّتي نَزَلَت عليه: "حَنَّانُ وقِيافا عَظيمَا الكَهَنَةِ، كانت كَلِمَةُ اللهِ إِلى يُوحَنَّا بْنِ زَكَرِيَّا في البَرِّيَّةِ" (لُوقا ٣: ٢).
المِحوَرُ الرَّئِيسيُّ لِهٰذا المَقطَعِ هُوَ سُؤالٌ يَتَكَرَّرُ ثَلاثَ مَرّاتٍ: "ماذا نَفعَل؟" (لُوقا ٣: ١٠، ١٢، ١٤).
يُوجَّهُ هٰذا السُّؤالُ إِلى يُوحَنَّا مِن مَجموعاتٍ مُختَلِفَةٍ مِنَ النّاسِ، يَعيشونَ أَنماطَ حَياةٍ مُتَنَوِّعَةٍ جِدًّا، وبَعيدينَ كُلَّ البُعدِ عَن بَعضِهِم البَعضِ: الجُموعُ، العَشَّارونَ، والجُنودُ، وكُلُّهُم يَسأَلونَ السُّؤالَ ذاتَهُ: ماذا نَفعَل؟
يَتَضَمَّنُ هٰذا السُّؤالُ أَوَّلًا وأَخيرًا انتِظارًا: انتِظارَ فَتحِ طَريقٍ جَديدٍ، شَيءٍ جَديدٍ لِحَياتِهِم. حَقيقَةُ أَنَّ أَشخاصًا مُختَلِفين يُوجِّهونَ إِلى يُوحَنَّا نَفسَ السُّؤالِ تَجعَلُنا نُفَكِّرُ في أَنَّهُ سُؤالٌ عالَمِيٌّ، يَخُصُّ الجَميعَ، يَسكُنُ قَلبَ كُلِّ إِنسانٍ. الكُلُّ يَبحَثُ عَن حَياةٍ أَفضَلَ، عَن كَمالٍ لَم يُتحَقَّقْ بَعدُ، وعَن طَريقٍ يُؤَدِّي إِلى حَياةٍ حَقيقيَّةٍ.
غَالِبًا ما يَكونُ وَراءَ هٰذا السُّؤالِ شُعورٌ بِعَدَمِ الرِّضا: شَيءٌ ما يَنقُصُنا لِنَكونَ سُعَداءَ، ولكِنَّنا لا نَعرِفُ ما هُوَ. ومِن هُنا يَنبَعُ السُّؤالُ: ماذا نَفعَل؟
جَوابُ يُوحَنَّا مُفاجِئٌ: لا يَطلُبُ مِن أَحدٍ القِيامَ بِأَشياءَ استِثنائِيَّةٍ، ولا يَطلُبُ مِن أَحدٍ تَغييرَ حَياتِهِ تَمامًا، حَتَّى مِمَّن يَعيشونَ حَياةً قَد تَكونُ مَشبوهةً، مِثلَ العَشَّارينَ: "لا تَجبُوا أَكثَرَ مِمّا فُرِضَ لَكُم" (لُوقا ٣: ١٣)، أَوِ المُعرَّضينَ لِلعُنفِ مِثلَ الجُنودِ: "لا تَتَحامَلوا على أَحَدٍ ولا تَظلِموا أَحَدًا، وٱقنَعوا بِرَواتِبِكُم" (لُوقا ٣: ١٤).
نَحنُ غَالِبًا ما نَعيشُ في وَهمٍ أَنَّ الكَمالَ في الحَياةِ يَجِبُ أَن يُبحَثَ عَنهُ خارِجَ حَياتِنا اليومِيَّةِ، في أَمرٍ استِثنائِيٍّ يَتَجاوَزُ ما نَملِكُهُ، لِأَنَّ ما لَدَينا غَيرُ كافٍ ولا يُمكِنُ أَن يُؤَدِّيَ إِلى شَيءٍ. ولكِنَّ يُوحَنَّا يَرفُضُ هٰذا التَّصَوُّرَ: لا تُوجَدُ حالَةٌ أَو وَضعُ حَياةٍ لا يُمكِنُ أَن يَنفتِحَ على جَديدِ الإِنجيلِ.
لا يَتَعَلَّقُ الأَمرُ بِالبَحثِ عَن شَيءٍ آخَرَ أَوِ البِدءِ مِن جَديدٍ في كُلِّ مَرَّةٍ، بَل بِالبَقاءِ داخِلَ الواقِعِ اليومِيِّ بِطَريقةٍ جَديدةٍ، والنَّظَرِ إِلى الحَياةِ المُعتادَةِ بِمَنظورٍ مُختَلِفٍ، واكتِشافِ كَمالِ الحَياةِ داخِلَ الواقِعِ الخاصِّ بِنا.
بالنِّسبَةِ لِيُوحَنَّا، ما نَفتَقِدُهُ لَيسَ هَدَفًا نَصِلُ إِليهِ، ولا شَيئًا إِضافِيًّا نَمتَلِكُهُ. ما نَفتَقِدُهُ هُوَ القُدرَةُ على مُشارَكَةِ ما نَحنُ عَلَيهِ وما نَملِكُهُ، دونَ أَن نُثَقِّلَ حَياةَ الآخَرينَ، بَل على العَكسِ، نُحاوِلُ أَن نَجعَلَها أَخفَّ ما يُمكِنُ: "مَن كانَ عِندَهُ قَميصانِ، فَليَقسِمْهُما بَينَهُ وبَينَ مَن لا قَميصَ لَهُ. ومَن كانَ عِندَهُ طَعامٌ، فَليَعمَلْ كَذٰلِك" (لُوقا ٣: ١١).
ما يَجِبُ عَلَينا فِعلُهُ هُوَ أَن نُفَكِّرَ في أَنفُسِنا في سِياقِ عَلاقاتٍ جَديدةٍ، حَيثُ يَكونُ هَدَفُنا الأَوَّلُ لَيسَ حِمايَةَ مَصالِحِنا أَو تَعزيزَها، بَل مُشارَكَةَ حَياتِنا بِحُرِّيَّةٍ.
بِهٰذِهِ الطَّريقةِ، تُصبِحُ الحَياةُ انتِظارًا، مِساحَةً نَبني فيها مَعًا العالَمَ الآتي. وهُناكَ يَأتي الرَّبُّ.
جاءَ يُوحَنَّا مُعْلِنًا: أَنَّ الرَّبَّ آتٍ! "أَنا أُعَمِّدُكُم بِالماءِ، وَلَكِنْ يَأْتِي مَن هُوَ أَقْوَى مِنِّي، مَن لَسْتُ أَهْلًا لِأَنْ أَفُكَّ رِبَاطَ حِذَائِهِ. إِنَّهُ سَيُعَمِّدُكُم فِي الرُّوحِ القُدُسِ وَالنَّارِ" (لُوقَا 3: 16).
يَأْتِي يَسُوعُ بَاذِلًا ذَاتَهُ بِالكَامِلِ. يُشْرِكُنَا فِي أُلُوهِيَّتِهِ، وَفِي حَيَاتِهِ كَابْنٍ مَحْبُوبٍ. يُشَارِكُنَا كُلَّ شَيْءٍ، وَلَا يَحْتَفِظُ بِشَيْءٍ لِنَفْسِهِ.
إِذًا، المَسْأَلَةُ تَتَعَلَّقُ أَوَّلًا وَقَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ بِقَبُولِ هَذَا العَطَاءِ الإِلَهِيِّ غَيْرِ المَحْدُودِ. إِنَّهُ دَعْوَةٌ لِنَفْتَحَ قُلُوبَنَا لِنَارٍ تُحْرِقُ فِينَا مَا هُوَ زَائِلٌ، وَمَا لَيْسَ لَهُ جُذُورٌ، وَمَا لَا يَتَوَافَقُ مَعَ حَقِيقَتِنَا العَمِيقَةِ.
أُولَئِكَ الَّذِينَ جَاءُوا إِلَى يُوحَنَّا يَسْأَلُونَهُ: "مَاذَا يَجِبُ أَنْ نَفْعَلَ؟"
عَادُوا بِجَوَابٍ يَتَجَاوَزُ أَسْئِلَتَهُمْ: "سَيُعَمِّدُكُمْ فِي الرُّوحِ القُدُسِ وَالنَّارِ" (لُوقَا 3: 16). لَمْ يَكْتَشِفُوا طَرِيقًا جَدِيدًا فَقَطْ، بَلْ عَرَفُوا أَنَّ الرَّبَّ نَفْسَهُ سَيَكُونُ حَاضِرًا فِي هَذَا الطَّرِيقِ. بِنَارِ مَحَبَّتِهِ سَيُحَوِّلُ حَيَاتَهُمْ، تِلْكَ النَّارُ الَّتِي لَا تَنْطَفِئُ أَبَدًا، كَالعُلَّيْقَةِ المُشْتَعِلَةِ فِي سِفْرِ الخُرُوجِ. إِنَّهَا نَارٌ تُضِيءُ الطَّرِيقَ لِكُلِّ قَلْبٍ يَسْأَلُ بِإِخْلَاصٍ، وَلِكُلِّ مَنْ يَحْمِلُ فِي دَاخِلِهِ شَوْقًا لِلْحَيَاةِ الحَقِيقِيَّةِ.