موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الجمعة، ١٦ مايو / أيار ٢٠٢٥
تأمل الكاردينال بييرباتيستا: الأحد الخامس من الزمن الفصحي (ج)، 2025

بطريرك القدس للاتين :

 

عندما ينهي يسوع رسالته ويعود إلى الآب، ماذا سيبقى على هذه الأرض؟ ما هي النبتة التي ستخرج من البذرة التي زرعها؟ من يُتابع رسالته؟ من يُجسّد الملكوت الذي بدأه؟

 

نستمع اليوم إلى إنجيل هذا الأحد (يوحنا 13: 31-33أ. 34-35) في محاولة للإجابة عن بعض الأسئلة. نحن في الفصل الثالث عشر من إنجيل يوحنا، وهو الفصل الذي، بعد سرد الآيات (المعجزات)، يبدأ بالكشف عن اكتمال مشروع محبة الآب للبشرية، الذي يتحقق في عطية الابن.

 

حتى هذه اللحظة، كان يسوع قد أتمّ آيات عديدة، كما ترويها أيضًا الأناجيل الإزائية: فقد شفى المرضى، وطرد الأرواح الشريرة، وكثّر الخبز، وأقام الموتى. ولم يكتفِ بذلك، بل علّم بالأمثال، وأعلن رحمة الله للجميع، وفتح أبواب الملكوت، وكانت له كلمة محبة ورجاء لكل إنسان.

 

قام يسوع بكل ذلك ليُمكّن كل من يلتقي به من التعرّف على اقتراب الله وحضور ملكوته في وسطهم. فمن خلال أعماله المنظورة وكلماته الحيّة، أصبح بإمكان الناس أخيرًا أن يفرحوا، إذ أدركوا أن ملكوت الله قد اقترب فعلاً. وعندما كانوا يراقبونه وهو يعمل، كانت تتجدّد في ذاكرتهم نبوءات الأنبياء الكبرى، ووعود الله العظيمة، والعهد الذي وهبه للبشرية جمعاء. فالوعود القديمة تجد كمالها فيه، هو الذي لا يُعلن نفسه مباشرةً أنه المسيح، بل تَشهد له أعماله وكلماته بكل وضوح.

 

وبالمثل، الأمر ينطبق على الكنيسة: فهي لا تفرض على نفسها لقب "شعب الله الجديد" أو "شعب العهد الجديد"، بل الأمر متروك للآخرين، إن اختاروا، أن يتعرّفوا عليها بهذه الصفة. لكن كيف يمكن لذلك أن يحدث؟ ولماذا يُفترض بمن ينظر إلى الكنيسة أن يرى فيها ملامح وجه المسيح القائم من بين الأموات؟

 

ليس من خلال سلطتها ولا من عظمتها أو قدراتها، ولا من خلال المعجزات، أو كثرة أتباعها، أو فخامة أبنيتها وكنائسها... بل "إِذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضًا، عَرَفَ النَّاسُ جَميعًا أَنَّكُم تَلاميذي" (يوحنا 13: 35). بهذا فقط تُعْرَف الكنيسة على أنها جسد المسيح، من خلال المحبة التي تسري بين أعضائها. فقط هكذا تُعرف.

 

لنتوقف قليلًا عند كلمات يسوع.

 

يقول يسوع أولًا: "عَرَفَ النَّاسُ جَميعًا" لغة المحبة هي لغة مفهومة للجميع. ليست كمعاهدة فلسفية، ولا كتعليم معقد يحتاج إلى عقل راقٍ وتكوين خاص، أو مخصص لفئة معيّنة. الجميع قادر على أن يُحب، وكل إنسان يمتلك القدرة على أن يميّز حضور المحبة من غيابها. شهادة الكنيسة هي دعوة للتواصل مع الجميع والتحدث إليهم.

 

ويقول يسوع أيضًا إن التلاميذ مدعوون إلى محبة بعضهم البعض. هذه العبارة، "بعضهم لبعض"، ظهرت في بداية الفصل 13، بعد أن غسل يسوع أقدام تلاميذه: إذ يوضح يسوع مباشرة بعد ذلك أنه كما فعل هو، يجب عليهم أيضًا أن يفعلوا، وأن يغسلوا أقدام بعضهم البعض (يوحنا 13: 14).

 

في الحالتين، يشير يسوع إلى أمرٍ مهم، وهو أنه قبل أن يغسل التلاميذ أقدام بعضهم البعض، وقبل أن يحبّوا بعضهم بعضًا، عليهم أن يدركوا أن يسوع نفسه قد فعل ذلك لهم ومعهم. هو من أحبَّ أولًا، وكان لنا عبرة (يوحنا 13: 15)، أي هو من بيّن لنا في حياته، ما معنى أن نحب حقًا.

 

فقط إذا سمحنا لأنفسنا أن نُحَبّ من قِبَله، نستطيع حينها أن نحب مثله، وأن نحب بنفس المحبة التي نقلها إلينا أولًا. وعندها فقط، سيعترف الجميع أننا تلاميذه: في أعمال التلاميذ المتواضعة والبسيطة، سيستطيع الجميع أن يروا نفس أعمال الرب، ونفس الشفقة التي أظهرها تجاه كل امرأة وكل رجل على هذه الأرض.