موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الجمعة، ٦ يونيو / حزيران ٢٠٢٥
تأمل الكاردينال بييرباتيستا: عيد العنصرة – السنة ج، 2025
يو 14: 15-16؛ 23-26

بطريرك القدس للاتين :

 

في تاريخ الخلاص، لطالما تدخّل روح الرب، لا سيما في الأوقات الصعبة، ليُمهِّد الطريق للخلاص، ويُحقق التحرير، ويُظهر تدخّل الله في حياة البشر المعقدة. لقد حلّ على أشخاص ضعفاء وجعلهم قادة لشعبه، وتكلّم من خلال الأنبياء، وأعاد الحياة إلى العظام اليابسة، وهو قوّة ديناميكية كانت دائمًا تعيد القوة والحيوية.

 

في كلٍّ من هذه الأحداث، كان حضور الروح دائمًا يُمهّد الطريق لبداية جديدة.

 

هناك، حيث كان كل شيء متوقفًا، حيث بدا كل شيء مثقلاً أو ميتًا أو متعبًا ومرهقًا، ها هو الروح يأتي ليمهد لطريق جديد. وقد تم ذلك تدريجيًا، في صميم تاريخ الإنسان. حيث يكون حضور الروح أعمق وأكثر حميمية، هناك تكون العلاقة مع الله أكثر حيوية، ويزداد الوعي بحضوره في حياة العالم.

 

في إنجيل اليوم (يو 14: 15-16؛ 23-26)، نرى أن يسوع يُعلن مجددًا عن حلول الروح، ويرغب في تهيئة تلاميذه لهذا التحوّل الجوهري، ليُدركوا أنهم سيبقون متحدين به، ولكن بطريقة جديدة، من خلال الروح. إنها عطية تتطلب الاستعداد، وقد تمرّ دون أثر إن لم تُنتظر، أو لم يُحتفل بها ويُطلب حضورها. باختصار، يُبشّر يسوع بمجيء الروح، ويغرس بذلك بذور الانتظار والرجاء في قلوب تلاميذه المربَكين.

 

لأنّ التلاميذ أمام أمر سينتهي، وهناك حاجة لبداية جديدة، بداية لا يستطيع أن يحققها إلا الروح. يسوع على وشك مواجهة آلامه، وسيكون من الضروري وجود الروح للانطلاق من هذا الحدث المأساوي ومواصلة المسيرة. ولن تنتهي هذه المرة أيضًا قصة الله مع البشر.

 

خصائص مجيء الروح تنكشف في كلمتين من إنجيل اليوم: "وَأَنا سأَسأَلُ الآب فيَهَبُ لَكم مُؤَيِّدًا آخَرَ يَكونُ معَكم لِلأَبَد" (يو 14: 16)؛ "ولٰكِنَّ المُؤَيِّد، الرُّوحَ القُدُس الَّذي يُرسِلُه الآبُ بِٱسمي هو يُعَلِّمُكم جَميعَ الأشياء ويُذَكِّرُكُم جَميعَ ما قُلتُه لَكم" (يو 14: 26).

 

إن حضور الروح في حياة المؤمنين لا يُعدّ أمرًا عابرًا أو استثنائيًا، بل هو حضور دائم ويومي، حياة تتغلغل في أعماق حياتنا. فالروح لا يكون معنا فقط في أوقات الشدة والظلمة، ولا حتى في اللحظات المصيرية فحسب، بل هو حاضر على الدوام، ينعش فينا باستمرار حياة المسيح.

 

ولهذا، بعد إعلانه أن الروح سيكون معنا دائمًا، يستخدم يسوع صورة البيت، المسكن: "إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأَحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقامًا" (يو 14: 23).

 

الروح يأتي ليسكن فينا، ليجعل فينا بيتًا، وفي الوقت نفسه يجعلنا مسكنًا لله، مكانًا يأتي الله إليه باستمرار. إذا كان الروح يأتي دائمًا، فهذا يعني أن كل شيء مليء بالحياة والمعنى. إنّ حياتنا مندمجة إلى هذا الحد بالروح القدس، لدرجة أن كل شيء فينا مشبع به، دون أن يستطيع أحد أن يفصلنا عن حضوره وعمله.

 

لأن مهمة البارقليط هي أن يُعلّم ويُذكّر بكل ما قاله يسوع، أي أن يفتح أمامنا إمكانية فهم الحياة من منظور فصحي، وأن يحوّل كل حدث فيها إلى فرصة نسمح من خلالها لأنفسنا بأن نتغيّر، ونستأنف المسيرة، وننطلق من جديد.

 

ما هو هذا البدء الجديد؟ وإلى ماذا يقودنا؟

 

من الواضح في إنجيل اليوم، أن البداية الجديدة، التي يجعلها الروح ممكنة، هي تلك التي تبدأ دومًا بالمحبّة "إن كنتم تحبّونني... إن أحبّني أحد... يحبّه أبي... ومن لا يحبّني" (يو 14: 15؛ 23؛ 24). الروح مرتبط دائماً بالمحبة، لأنه هو المحبة، هو الشركة. يتعلق الأمر إذًا بقبول الروح، أي بقبول محبة الله التي أُفيضت في قلوبنا (رو 5، 5)، للبدء في حياة جديدة بالمحبة.

 

سيبقى الروح معنا إلى الأبد، مما يجعل البداية الجديدة ممكنة في كل لحظة، دون أن يكون هناك ما يعوق هذه الإمكانية أو يحبسنا في جمود الخطيئة والموت. إنه "دائمًا" يصعب تصديقه أحيانًا حتى الأعماق، لاسيما في اللحظات الأكثر تعقيدًا في الحياة. لكن وحده الروح قادر أن يفتح قلوبنا للإيمان والرجاء، ليجعلنا نؤمن بإمكانية ولادة جديدة، وحياة قادرة دومًا على الانطلاق من جديد.