موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الخميس، ١٢ يونيو / حزيران ٢٠٢٥
تأمل الكاردينال بييرباتيستا: عيد الثالوث الأقدس – السنة ج، 2025

بطريرك القدس للاتين :

 

في مقطع إنجيل اليوم (يو 16: 12-15)، نسمع يسوع يتحدث عن الروح القدس ويُكرر مرتين تعبيرًا مميزًا بعض الشيء. إذ يقول إن الروح "إِنَّه يأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِه" (يو 16: 14 ؛ 15). ولكي نفهم ما يريد يسوع أن يقوله لنا، لنرجع خطوة إلى الوراء وإلى مقطع من العهد القديم نرى فيه وضعًا مخالفاً لما يتحدث عنه يسوع.

 

المقطع المقصود هو سفر التكوين (3: 1-12). خلق الله الإنسان ودخل معه في حوار. والمقطع معروف: يسلم الله للإنسان الخليقة الجميلة التي أبدعها، ومن خلال شجرة معرفة الخير والشر، يطلب الله من الإنسان ألا يقترب منها، كموقف من لا يملك شيئًا، بل أن يقبل كل شيء كعطية. إنه موقف الابن الذي يعلم أنه ليس سيدًا على كل شيء. لكن في لحظة معينة، تظهر الحيّة وتدخل في حوار مع المرأة. تستعيد الحية كلمات الله، لكنها لا تفعل ذلك احترام لفكر الله، بل تُضيف عليها بعضاً من كلماتها: كلمات صغيرة، خبيثة، تكفي لتزرع في قلب المرأة الشك بأن الله ليس كما ظهر في الجنة.

 

قال الله لإنسان أن بإمكانه أن يأكل من جميع أشجار الجنة، ما عدا واحدة "مِن جَميعِ أشْجارِ الجَنَّةِ تأكُل" (تك 2: 16-17)، أما الحيّة فتسأل: هل صحيح أنكما لا تأكلان من أي شجرة في الجنة؟ "أَيقينًا قالَ الله: لا تأكُلا مِن جَميعِ أَشْجارِ الجَنَّة؟" (تك 3: 1). تختلف الكلمات قليلًا، لكن المعنى ينقلب تمامًا.

 

تريد الحيّة أن تفصل البشرية عن خالقها، وتفعل ذلك بكلمات تُنشئ في قلب الإنسان كذبة، وصورة مشوهة عن الله. لكنها ليست فقط صورة مشوهة عن الله، بل تقابلها صورة مشوهة عن الإنسان، الذي يكفّ عن أن يكون مخلوقًا محبوبًا، ويعيش في شعور بالذنب، وفي وهمٍ مُضلِّل يخيّل إليه أن عليه استرضاء الله من جديد ليستعيد محبته.

 

تنغرس هذه الصورة في أعماق الذاكرة البشرية، وتنتشر بسرعة مدهشة، على نحو ما تفعله الكذبة وحدها. وهكذا يغدو الإنسان غير قادر على احتمال ثقل الحقيقة "لا يَزالُ عِنْدي أَشْياءُ كثيرةٌ أَقولُها لَكم ولٰكِنَّكُم لا تُطيقونَ الآنَ حَملَها" (يو 16: 12) فيصير أسيرًا لكذبة يعجز عن التحرّر منها بقوته. فما الذي يمكنه أن يُعيد الإنسان إلى حقيقة نفسه، إلى حقيقة الله؟ هذا ما يكشفه يسوع في إنجيل اليوم.

 

فالروح لا يفعل كما فعلت الحيّة: لا يُضيف إلى  كلمات يسوع شيئاً ولا يُنقص منها. لا يُقحم فيها شيء من عنده، لأنه يشترك في ذات الحقيقة التي يحياها يسوع، ويعلم أن تلك الكلمات حق، وتكفي لخلاص الإنسان. فهي أيضاً كلماته.

 

لذلك يستطيع الروح أن يأخذ تلك الكلمات، إذ إن كل شيء مشترك في الثالوث، حيث التبادل العجيب بين الأقانيم، بلا خوف ولا تحفظ. ففي الشركة الكاملة للثالوث، لا يُعدّ أخذ ما للآخر انتقاصًا منه، بل على العكس: إنه تأكيد حيّ لحقيقة الشركة التي توحّدهم.

 

أما بالنسبة للإنسان، فإن هذا الأسلوب في الحياة يُشكل عبئًا، ومشقة: فإذا أخذ أحدهم منا شيئًا، نشعر بأننا قد خَسِرنا، وأننا قد سُلبنا. أما في الثالوث، فالعكس هو الصحيح. لذا، فإن عمل الله هو أن يُدخلنا شيئًا فشيئًا في هذا الأسلوب الجديد من الحياة والتفكير، أسلوب الشركة.

 

الإنسانية التي تستمع إلى كلمات الحيّة الكاذبة تجد نفسها، في النهاية، منعزلة، فقيرة، ومشتتة. أما الإنسانية التي تقبل كلمات يسوع، تلك التي يأخذها الروح ويُحييها في داخلنا، فتستعيد حقيقة نفسها وحقيقة الله. حقيقة الشركة والمحبة المتبادلة، التي تجعل الإنسانية غنية بالخير والعلاقات والحياة.

 

هذه هي "الأمور الآتية" التي يتحدث عنها يسوع "رُوحُ الحَقّ... لِأَنَّه لن يَتَكَلَّمَ مِن عِندِه بل يَتَكَلَّمُ بِما يَسمَع ويُخبِرُكم بِما سيَحدُث" (يو 16: 13) هي عطيّة وُهِبت لنا، لكنها تحتاج إلى أن تُقبل كل يوم. إنها تقف أمامنا كالحقيقة الوحيدة التي لا تزول، والتي تبقى ثابتة حتى حين ينهار كل ما عداها.