موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
في صباح الأحد، الثاني والعشرين من حزيران/يونيو 2025، دوّى انفجار داخل كنيسة مار إلياس للروم الأرثوذكس في حي الدويلعة بدمشق، ليحول قدّاسًا مليئًا بالمصلّين إلى مشهد دامٍ يغرق في الدماء والدخان، ويغلفه الفزع والخراب. أكثر من عشرين شهيدًا، وعشرات الجرحى، كانوا بين يدي الله في مكانٍ يُفترض أن يكون ملاذًا للسلام، لا مسرحًا للدمار.
لم يكن هذا الانفجار الأرهابي، بكل فظاعته، حدثًا صادمًا بقدر ما كان تكرارًا مأساويًا لنمطٍ بات مألوفًا في المشرق العربي: اعتداءٌ جديد على كنيسة. ولا يملك من يعرف تاريخ هذه المنطقة إلّا أن يسترجع فورًا مشاهد أخرى مشابهة؛ من بغداد عام 2010 حين ذُبح المصلّون في كاتدرائية سيدة النجاة، إلى كنيسة القديسين في الإسكندرية، عشية عام 2011، وصولًا إلى حوادث متفرقة في المنيا وسيناء وغيرها.
الرسالة تبقى ثابتة، بغض النظر عن المكان أو الزمان: هذا الوجود المسيحي المتناقص هو في مرمى الاستهداف، ليس لأنه يشكّل تهديدًا، بل لأنه يظل شاهدًا على أن التنوع في هذه المنطقة كان، وربما لا يزال، أمرًا ممكنًا.
ما يحدث ليس مجرد "عمل إرهابي" كما يرد في البيانات الرسميّة. إنه طعنة في قلب هذا المشرق، في ذاكرته وهويته وعمقه الحضاري. المسيحيون في سوريا، كما في فلسطين والعراق ومصر ولبنان والمشرق بشكل عام، لم يكونوا طارئين أو ضيوفًا، ولا غزاة. بل هم جزء أصيل وشريك في بناء هذه المجتمعات. ساهموا في تأسيس المدارس والمستشفيات، وكتبوا في الصحف، وأسسوا الجامعات، وأطلقوا مشاريع اقتصادية وفكرية وثقافية، وكانوا في طليعة النهضة العربية.
وهذا الوجود لم يكن "رمزيًا" أو "هامشيًا"، بل حضورًا أصيلًا وفاعلًا في قلب الحياة المشرقية. واستهدافه اليوم لا يهدد المسيحيين وحدهم، بل ينذر بخطر أوسع يطال المنطقة كلها، بكل مكوناتها المتعددة، التي ما زالت تحتضن فسيفساء من الجماعات والأقليات. ومع كل اعتداء أو تهجير، تفقد هذه المنطقة أحد أعمدتها التاريخية والروحية، ويتآكل تنوعها الذي كان على الدوام مصدرًا لقوتها وغناها.
الانفجار في كنيسة مار إلياس أعاد إلى الواجهة سؤالًا صارخًا: من يربح من ترويع هذا المكوّن؟ ولماذا يستمر هذا الصمت بعد كل جريمة؟ الإدانات تصدر، والبيانات تُوزّع، ثم تعود الأمور إلى "الاعتياد"، بانتظار حادثة أخرى... وهكذا يتقلص الحضور المسيحي بصمت، من دون ضجيج أو مقاومة حقيقية. لكن المشكلة أكبر من فعل العنف نفسه، فالصمت المجتمعي والسياسي والدولي من بعده، هو الذي يعطي للمجرمين هامشًا أوسع في تكرار الجريمة.
في زمن تتصاعد فيه الكراهية بين الثقافات، وتزداد فيه "الإسلاموفوبيا" في الغرب، ينبغي أن يكون المسيحيون المشرقيون جسرًا طبيعيًا بين عالمين: بين الإسلام من جهة، والغرب من جهة أخرى. هم يمتلكون معرفة باللغتين، والثقافتين، والتاريخين. لكن تهميشهم أو تهجيرهم أو إسكاتهم يعني ببساطة خنق فرصة نادرة لفهم مشترك وبناء تواصل إنساني في عالمٍ يصبح فيه الاستقطاب أكثر حدة.
كمسيحي فلسطيني، لست أكتب هذا المقال من موقع التضامن فقط، بل من موقع المعرفة الشخصية. نعرف في فلسطين جيدًا معنى أن تُستهدف، وأن تُعامل كأقلية في وطنك. نعرف جيدًا ماذا يعني أن تُغلق كنيسة أو يُهاجم دير، أو يُعتدى على جنازة. لكننا نعرف أيضًا أن وجودنا هنا ليس خيارًا، بل التزام. التزام بالبقاء، بالشهادة، بالصوت، وبالقول إن هذا المشرق لا يكتمل من دون مسيحييه.
ما جرى في كنيسة مار إلياس ليس حادثًا منفصلًا، بل جزء من مسار طويل من محو الذاكرة وتفكيك التنوع. ومهما كانت الجهة المنفذة، فإن الرسالة واضحة: التعدّدية في خطر. لكن هذه الجريمة قد تكون فرصة أيضًا، إن قررنا أن نراها كذلك. فرصة للتوقف، والتأمل، والتحرك. حماية الوجود المسيحي في المشرق ليست دفاعًا عن أقلية، بل دفاع عن فكرة، عن روح، عن هوية المشرق نفسه.