موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأربعاء، ١٣ يوليو / تموز ٢٠٢٢
الحرب المقدّسة والدّيانة اليهودية: ماذا تقول التوراة؟
الحرب المقدسة هي تعبير يُلزم أمّة أو شعبًا بكامله للدفاع عن الوطن والشعب والهيكل، وذلك باسم الله، الذي يلزم الجماعة لحمل السلاح واستعمال القوة للقضاء على العدو بل ومهاجمته، بوضع عبارات القتال على فم الله باسم الدين، حتى لا يبقى للفرد أي مجال للعذر والتنصل

الأب منويل بدر :

 

هدف التوراة الأوّل والأساسي هو التّعريف على يهوى، إلهِ الشّعب المختار، كما يسمّي اليهود أنفسهم. وقد أعلن هو يهوى عن نفسه بأنّه القويُّ الجبّار بين الآلهة المعروفة، ومِنْ ثمّ فرض نشر وتثبيت الإيمان به من الشعب المختار إلى باقي الشّعوب. "أنا هو الرّبّ الهُك، لايكن لك إله غيري". ألا نرى في هذه الفكرة تحريضاً على إصطدام قد يؤدّي إلى حرب دائمة؟ وبما أنَّ هذا ما كان بالسّهل تمريره بين الشّعوب الوثنية، فقد لجأ الشعب اليهودي للدّفاع عن إلهه وسلك الطرق البشرية بمحاربة تلك الشّعوب الوثنيّة وآلهتها. فلا تُخفي علينا كتب التّوراة أنّ هذا الشّعب قد خاض بحدود 105 حروب طاحنة، كثيراً ما يرد بجانبها كلمة "حرب مقدّسة" باسم إلهه يهوى. "نادوا بهذا بين الأمم: قدِّسوا حربا. أنهضوا الأبطال ليتقدّم ويصعد كلّ رجال الحرب" (يوئيل 9:4). هذا ويُقال عن كتاب العدد (وهو الرابع في التوراة) أنّه كتاب الحروب (عدد 14:21)، فهو من بدايته وحتى نهايته، يُحرّض على الخوض بالحروب باسم يهوى. أضف إلى ذلك أن كتاب القُضاة لمليء بالتحريضات لإعلان الحرب باسم يهوى "لأن الرّبّ رجل الحرب. الرّب اسمه". هذا وليس كتاب يشوع بأقلّ تحريضاً من الكتب الّتي ذكرناها على خوض الحروب باسم يهوى (خروج 3:15). إن الرّبّ الهكم سائر معكم لكي يحارب عنكم أعداءكم ليخلِّصكم. فبعد خروج الشّعب من البحر الأحمر سالما وإغراق جيش فرعون بالأمواج، الّتي هو يهوى أرسلها، راحت النساء تغني بدفوف ورقص، ثم قالت مريم أخت موسى: "رنّموا للرّب فإنّه قد تعظّم. الفَرَس وراكبه طرحها في البحر"(خر 20:15). وإن خاض الشعب حربا، كان قادة الجيش يُطمئنونه بأنه المنتصر بأمر الله: "الرّبّ يقاتل عنكم"(خر 14:14). "أمّا مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الر ّب الهك نصيبا فلا تستَبْقِ منها نسمة ما، بل تنحرهم نحرا، كما أمرك الرب الهك (التثنية 20: 4  و 17-18). "فضرب يشوع كلّ أرض الجبل والجنوب والسّفوح وكلِّ ملوكها، لم يُبقِ شارداً بل حرَّم كلَّ نسمة كما أمر الرّبُّ إلهُ إسرائيل" (يشوع 40:10).كانوا يلجاؤون لتحميل الله فوزهم بالحرب، إذ هو قوّتهم وسندهم. وإن فشلوا بحرب ما، لجأؤا إليه كي يقف إلى جانبهم ويُظهر حمايته لهم كي تؤمن به الشعوب الأخرى. من يخفى عليه فوز داؤد الرّاعي البسيط بمقلاعٍ ضد جوليات القائد المُدجّج بالسّلاح. داؤد انقضّ لمواجهة جوليات بمقلاع حجر والدّعاء إلى يهوى أن يُظهر قوّته. وفعلاً قد تمّ انتصار داؤد الباهر بقتل جوليات بحجر مقلاع وهزيمة جيوشه المدجّجة، وهذا عنى وقوف الله إلى جانب شعبه.

 

ماذا قال الأنبياء المرسلون الأوّلون عن الحروب؟

 

من افتكر أنّ عهد الأنبياء الّذي ابتدأ بثمانية قرون قبل مجيء المسيح سيحمل بُشرى تختلف عمّا قبلها بما يخص الحروب فهو على خطأ، إذ محتوى رسالتهم لم تختلف عن رسالة القُضاة. فطالما كان الشعب في ضيق، محاطا بأعداء يقاتلونه، سيكون هو يهوى قوتهم وسندهم: "ربُّ الجنود معنا"(مز 7:46) يُحارب عنهم إلى أن يستقرّوا في أرضهم الموعودة وهيكلهم في أورشليم. عندها "يقضي يهوى بين الأمم ويُنصف لشعوبٍ كثيرين، فيطبعون سيوفهم سِكَكاَ ورماحهم مناجل. ولن ترفع أمّة على أُمّة سيفا ولا يتعلّمون الحرب فيما بعد"(أشع 4:2). في هذه الحقبة سيأتيهم مخلِّص يقودهم إلى شاطئ السّلام. أشعيا يقول بالتّالي:"الرّبُّ نفسه يعطيكم آية... الشعب السّالك في الظلمة يرى نورا عظيما... لأنَّ كلّ سلاح المُتسلِّح في الوغى وكلّ رداءٍ مدحرج في الدّماء يكون للحريق مأكلا وللنار.. لأنّه يولد لنا ولد.اسمه عجيب هو رئيس السّلام" (أشع. 7,14f; 9,1–6; 11,1–9).

 

لا ننكر أنّ في هذه الكتابات تحريضات عدَّة على خوض الحرب، إن لم تكن متساوية فهي أكثر ممّا في القرآن، الّذي ما عرف زمانا بلا حروب أو سفك دماء على مدى التّاريخ. في التوراة نجد أوّلا العبارة المشهورة "العين بالعين والسّنُّ بالسّن"(اللاويين 24: 17-20). في العهد الجديد ألغى يسوع هذا القانون: قيل لكم... أما أنا فأقول لكم: أحبّوا أعداءكم(متى 33:5). أمّا الإسلام، الذي أخذ كثيرا من العهد القديم فلقد اقتبس هذه الوصيّة وحوّلها فيما بعد إلى كلمته المشهورة "الجهاد"، الذي لا يعرف وقتا ولا حدودا، بل هو عمل وواجب دائم، لا يحق لإنسان التنصل عنه.

 

إنَّ نشوب حرب لهو دليل على ما في قلب الإنسان وما هي طبيعته. من هذه الحروب ما هو للدفاع عن النفس، إذا ما هاجمها عدوّ، ومنها ما هو للإنتقام باستعمال القوة للسيطرة على العدوّ المزعوم أو لإهانته، كما هي الحال في حرب داعش الضّروس اليوم. فهي تعتبر أمريكا والغرب كاملا عدوّها الأوّل والأكبر. من هنا الهجمات، أوّلا الإنتقامية على المسيحيين والكنائس في بلاد الإسلام، التي تخصصت لها منظمة بوحرام، على اعتبارها إمتداداً ليد أمريكا والغرب، ثم الأعمال التخريبية والإرهابية المتواصلة في العالم الغربي: مثل الهجوم على محطات القطارات مثل في اسباني وانجلترا، او الأسواق الكبيرة، كما حدث في بزار عيد الميلاد في برلين يوم 19 ديسمبر/ كانون الأول 2016 باستخدام شاحنة عملاقة قتل المهاجم الإسلاموي أنيس العمري 12 شخصاً.

 

لا بدّ من الإشارة إلى أنّ لكلِّ ديانة ليس فقط تعليمُها بل وأيضا تاريخها. فحتى لا يختلط الحابل بالنّابل، فيلاقي المُعترض ممسكا على الدّيانة القديمة ويحكم عليها بمفهوم وقوانين اليوم، لا بدّ من الرّجوع بالفكر، إلى تلك الحقبة من التاريخ، التي بدأت فيها تلك الديانة، لفهم عقليّة ذاك الزّمان أوّلا، ثمّ لفهم أوامر تلك الدّيانة وتعاليمها ووصاياها والأسباب التي دفعتها إلى هذا أو ذاك التّصرّف بعقليّة ذلك الزمان، وبالتّالي ماذا كانت مصلحتها من الحرب؟

 

إنّ الدّيانة اليهوديّة حالة خاصة إذ كيف نفهم أنّ الله يأمر العبرانيّين بحمل السّيف وإهفاء الكنعانيين عن بكرة ابيهم؟ وجوابنا على ذلك هو فهم وليس تبرير لتلك الحروب. التّبرير هو أنّه لا يجوز فهم التّوراة بأنّها مُنزلة حرفيا بلغتها وبمحتواها، كما يعتقد أهل القرآن. هنا يجب التّمييز. فتعليم التّوراة (أي محتوى ومضمون التعليم فيها) هو وحي من الله. وهنا نقول الله نفسه يُعرّف عن نفسه وما هي أهدافه. هذا المُحتوى وضعه أناس بشر خطّيا بلغتهم وبعقليتهم. فحيثما كان أمر الله بنشر التّعليم عن ذاته، وبالتّعريف على ديانته، كان أولئك الكتّاب، ولو كانوا متديّنين، يفهمون أن انتشار مُلْك أرضيّ لا يتم إلاّ بالقتال والحروب، وبعقليتهم أيضا افتكروا أنّ ملكوت الله لا ينتشر إلاّ بهذا الأسلوب. فلإقناع الشّعب للإشتراك بالحرب وتبرير شنِّها على أعدائهم، عزّز رؤساء الكهنة استعمال عبارات القتل والحرب كأنها من فم الله، وكأنّه هو الّذي يريد هذه الحروب وإفناء أعداء شعبه. هذه عقليّة كلِّ مؤمنٍ جاهل بسيط يتّكل على ربّه في كلِّ شيء، كما يقول المثل الجاري: "إنَّ ربَّك على كلِّ شيءٍ قدير". الله لا يريد الحرب ولا القتل. الله هو ربُّ الحياة وهو القائل لا تقتل (خروج 12:20). ومن ينسى أنّه بعد نهايته خلق العالم، الّذي وجده جميلا، أقام عليه الإنسان لحراسته وعنايته لا لتخريبه (تكو 15:2). فكم وكم حذّر أنبياء الله ومرسلوه من استعمال القوّة، فكم بالحري من اللّجؤ الى الحرب كوسيلة للوصول إلى الحق؟.

 

إذن ليس بالصّحيح أن نقول هو الله الّذي أمر بتبرير الحروب ولا يجوز أن نتَّهمه كأنّه الرّائد الأول لتلك الحروب، تماما كما لا يجوز أن نتّهم شرطي السّير مثلا عندما يكون واقفا على منصّته ينظّم السير فيحدث حادث اصطدام أمام عينيه، فنقول: الشرطي هو المسؤول عن الحادث. وليس هذا فقط، بل ننسب إليه كل الحوادث التي تجري في ذلك اليوم. هنا لنا مثل بسيط: نحن نعلم أنّ الله هو ملك السّلام لكن عندما وصل الشعب إلى أبواب أرض الميعاد، يضع الكتّاب على فمه أنه يأمر بالحرب ضد كل المدن والشّعوب في كل أرض كنعان، لأنّ تلك الأرض تدرُّ لبنا وعسلا فلا بدّ من الإستيلاء عليها، وهذا يعني تحليل الحرب منه تعالى  (يشوع 11, 8-15). كان كلُّ همّ ملوك إسرائيل أن يظهروا أنفسهم أقوياء في مقاومة ومحاربة الشّعوب التي راحت تحاول إسترجاع الأرض الموعودة لأصحابها ومنهم الفلستيون (ومنهم أخذت البلاد إسمها فلسطين حتى اليوم). وقوّة الملوك كانت تُعتبر كأن الله هو قوّة شعبه. هذا وإنّ أوّل ملك في إسرائيل لم يُرضِ الله في هذا المجال، هو شاوول الّذي حكم الشعب ما بين 1030-1010قبل المسيح لكنّه يبدو أنّه لم يُرض الله لأنّه لم يكن حازما في محاربة شعب الأماليكيين حيث نجا ملكهم وبعض الحيوانات من قبضته، فنبذه يهوى عن عرشه وأقام داؤد مكانه..

 

وفي الختام لا بدّ من الإشارة إلى أنّه بعدما عاد إسرائيل من المنفى الطّويل في بابل واستقرّ من جديد في أرضه وصارت له مدينته وهيكله، ظهر على الشّاشة عدّة مرسلين يبشّرون بالسّلام وباقتراب ملكوت الله، حثّوا الشعوب للتّهيءُ لاستقباله. لكنّ احتلال بلادهم من الرّومان أشعل نار حبَّ الحرب من جديد ، الّتي كانت قد حطّت رحالها واختفت من القلوب بل نسوا ضرورتها تقريبا. لكن كأنهم فجأة صحوا من غفوة واختاروا اللّجؤ إليها للسّبب أن المخلَّص المنتظر، لمّا جاء، خيّب أملهم، فهم كانوا ينتظرون قائدا سياسيّاً لمحاربة الرّومان وتحرير الأرض من الإستعمار. لكنّ هذا المخلّص لم يقف إلى جانبهم رافضاً استعمال السّيف "لأنّ من بالسّيف يَقتل يُقتل هو بالسيف". فصار لهم عدوّان، تخلّصوا من الأوّل بصلبه وموته. أما العدوّ الثاني فأقاموا عليه ثورة داخلية أدّت بحياة الكثيرين منهم وطرد الباقين نهائيا عام 70 من تلك الأرض. هذه كانت آخر وأكبر وأطول حرب أعلنوها باسم الله. لكنّهم بسببها ذاقوا أكبر خسارة في تاريخهم، إذ قتل الرّومان منهم من قتلوا وأمّا من نجا فطُرِد من تلك الأرض لنحو ألفي سنة، حتّى عادوا إليها من جديد بحرب خدعة بعد حوادث الهولوكست، أثناء الحرب الثّانية، دعمتهم فيها أمريكا وإنكلترا عام 1946، حيث كان شيرشل رئيس الوزراء وسكرتيرته اليهودية الجنسية والديانة، فأصدرت آلاف آلاف الفيز لآلاف آلاف اليهود تحت جنسية انجليزية وعادوا إلى فلسطين حيث ابتدأوا بالإحتلال لها الذي وصل ذروته التي نعيشها اليوم. وهنا بدأت قصّة حروبهم المقدّسة من جديد، بحجّة أنهم لا يزالون ينتظرون المخلّص، فإن تمّ لهم النّصر الكامل على الشعوب الأخرى حواليهم، فسيأتي ذاك المخلِّص الّذي رفضوه بوجه جديد. كلّ هذه حيل وسياسة إستراتيجية محضة، يسخّرونها لمصلحتهم السياسية، ويبرّرونها بأنّها تَتِمّ بأمر من الله، خاصة المتدينون المتطرِّفون والحاخاميّون منهم. وكما قلنا سابقا، الله منها براء. الله يريد الحياة. الله يريد السّلام. وأين هم أبناء السلام بين كل الشعب اليهودي؟ هل عملية طرد أهل البلاد وتهديم بيوتهم، وخاصة ضبط سكان أهل غزة في أكبر سجن من أظلم سجون العالم اليوم، هو علامات تحضير سلمي لمجيء ملك السلام، الذي مجدّدا هو منهم براء!

 

نقول باختصار: لا يوجد حروب مقدّسة حتّى وإن أعلن قادتها أنها تَتِمُّ بأمر الله. علما بأن 60% من اليهود العائشين في أرض الميعاد هم لادينيون وملحدون، وإن قاموا بحروب فما المقصود منها تهيأة الطريق لمجيء المخلّص، وإنما فقط لإذلال البشر وفرض سلطتهم. ثم لا يجوز أن ننسى أنّ حروب العهد القديم وإن نُسِبتْ لله، فهي قد وُضِعت على فمه للتّبرير فقط، أمّا هو فمنها براء. وهي كانت فقط لحقبة تاريخ وبقعة مٌعيّنة. أمّا فعاليّتها ووقتها فقد انتهت ولا يجوز أن نبقى نعيد الموّال ونقول: إلهكم إله حرب. إلهكم أمر بالحرب! فهذه سخافة لا يقبلها العقل المتنوِّر ولا المنظق السّليم. فمن يقيم حربا اليوم فهو المسؤول عنها بسلاحه الماضي، وليس الله. هذه الحروب لم يأمر بها الله وما هي بقانون مؤبّدٍ يحقّ اللّجؤ إليه في كلِّ مُضايقة يقع شعبه فيها، إذ لا يجد سبيلا للتخلّص من هذا المأزق إلاّ بإعلان الحرب بأمر منه.

 

الله لا يحتاج الحروب، وهو القائل: لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدّامي يجاهدون لكي لا أُسْلَم" (يو 18: 36). الدّيانة اليهوديّة استغلّت نفوذ موسى النّبي على شعبه وأجبرته على الدّخول في حروب كان لها بداية لكن لا نهاية. كلُّ ذلك بقرارٍ من رؤوساء الكهنة، أن الله نفسه يريد تلك الحروب ليُظْهر قوّته أمام الشّعوب الأخرى، كأنّه ليس على كلِّ شيء قدير ويحتاج إلى فزعة. يا للسّخافة! متى يُزيل اليهود فكرة وجود حرب مقدسة من عقولهم ومد يد المصالحة لجيرانهم؟

 

للمقال تكملة...