موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الأربعاء، ٢٨ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٢
هل الحروب ما بعد الحرب العالمية الثانية تعدّ حروبًا مقدّسة؟
هل الحروب ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي عديدة، أضف إليها حروب أيّامنا، تعدُّ أيضا حروبًا مقدسة؟

هل الحروب ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي عديدة، أضف إليها حروب أيّامنا، تعدُّ أيضا حروبًا مقدسة؟

الأب منويل بدر :

 

تتالت الحروب المحلّية والإقليمية والمناوشات المسلّحة بعد 1945 بلا توقّف: حرب أمريكا على فيتنام واليابان، الهجوم الإنكليزي الفرنسي على قناة السويس، الحرب السريعة من إسرائيل على جيرانها العرب عام 1967، الحرب الأهلية في لبنان وإيرلندا ويوغسلافيا، الحرب بين العراق وإيران، حرب الخليج الأمريكي على العراق على فترتين: 1990 و2001، ثم حرب إسرائيل على لبنان، ثمّ العدوان الإسرائيلي على غزّة، ثم حرب باكستان، وانتقالاً إلى الدول العربية بما أسموه "حروب الرّبيع العربي" (الكاذب) الذي ابتدأ سنة 2010 بشراسة لا توصف، أعدّوها حربًا مقدّسة، كل حزب على حكومته، لكنه كما عشناه ونعيشه حتى اليوم، لم يأت بنتيجة إيجابية غير التدمير والتهجير وإفقار النّاس وتشريدهم، بالإضافة إلى تخريب البُنى التحتيّة في البلاد والتي من الصعب إرجاعها على ما كانت عليه لأجيال وأجيال وبالتالي تأسيس ما يُسمّى بداعش، أي الحرب باسم الله لإقامة دولة الله الإسلامية المحضة، لذا فهي حرب مقدّسة. هذا والحبل على الجرّار، إذ التنبؤات والدلائل كافية، أنه بسبب الخلافات القائمة بين روسيا وأمريكا، وحاليًا بين روسيا وأوكرانيا (نقدر أن نقول بقيادة أمريكا والاتحاد الأوروبي) كل لصالحه ولمصالحه، قد تنشب بسببها في الوضع الراهن حرب عالمية ثالثة.

 

إننا لا نقول أنّ كلّ هذه الحروب والنّزاعات الجديدة كانت في بدايتها دينيّة، لكنّها بسبب خلافات ومعارضات داخليّة، ما كان ممكنا حلها سياسيًا فقد راحت كلُّها تتحوّل أوّلا بأوّل إلى نزاعات دينية وذلك بسبب انضمام متطرِّفين إلى صفوف المقاتلين وتمويلهم من الدّول العظمى لخدمة مصالحها في المنطقة وأهمها الإستيلاء على أبيار ومخازن النفط، ممّا حوّلها إلى حروب دينية تقليديّة لا حدود لها ولا مكان للسّلام فيها، فصارت أكثر الدّيانات المعروفة تسير من جديد على مبدأ "العين بالعين، والسّنّ بالسّن"، وبالتّالي" بالكيل الّذي به تكيلون يكال لكم ويُزاد" (متى 2:7). قال أحد المطارنة الألمان مؤخّرًا: "وضع الديانة في أيدي سياسيين متطرفين وفي مجتمع غير مثقّف، هو أخطر على العالم من القنبلة الذرّية".

 

إنّ التاريخ ينظر إلى حروب الماضي بعين غير عيننا وبحكم غير حكمنا، إذ قوانين إعلان الحروب في ذلك الزّمان كانت غير ما نفهمه نحن اليوم. كانت تسير تحت شعار "غيرة ديانتك أكلتني" (يو 17:2).

 

 

تعليم اللّاهوت والحكم على الحروب من النّاحية الدّينيّة

 

اهتمَّ الّلاهوت منذ البداية بدراسة موضوع الحروب متسائلا بدقّة إنْ كان هناك مِن ذِكْر في الكتب المقدّسة لحروب مقدّسة يُصرَّح بها ويحق اللّجؤ إليها؟ فكانت النّتيجة لا. نعم لا يوجد ذكر لها ولقدسيّتها. فيسوع نفسه اسمه رسول السّلام –لا رسول الحرب– وقد بشّر الملائكة بالسّلام على الأرض يوم مولده، كما قال الشاعر المصري أحمد شوقي: وُلِد السّلام يومَ مولد عيسى! وفي بداية تبشيره طمأن السّامعين بقوله: طوبى لفاعليّ السّلام فهم أبناء الله يدعون (متى 9:5). وقبل اللّجوء إلى الحرب أمر بالّلجوء إلى التّفاوض: "أيُّ ملك إن ذهب لمقاتلة ملك آخر في حرب لا يجلس أوّلا ويتشاور...."(لو 31:14).

 

كثيرون من العلماء واللاهوتيّين اهتمّوا بوجود أسباب لإعلان حرب ما. منهم الأسقف القدّيس أغسطينوس (354- 430) أسقف قرطاجة، الجزائر اليوم، فقد وضع شروطًا لإعلان حرب ونجد عنده ولأوّل مرّة في التّاريخ ذكرًا لما يسمّيه "حربًا عادلة". هذا ومنذ ذلك الحين لعبت تلك الكلمة دورا مهمًّا في كل العصور اللاحقة حتى الحرب العالميّة الثانية، التي راح ضحيّتها ما يزيد على الـ55 مليون شخص.

 

السّؤال الآن: ما هي المراجع التي ارتكز عليها أغسطينوس ليُصدر هذه التّسمية ويبرّر استعمال الحرب وإعلانها بأنها حرب عادلة؟ قالها استنادًا للتعبير اللاتيني "إنْ أردّتَ السّلام فاستعدّ للحرب" الذي كان مستعملا في الممالك الرومانية.

 

Si vis Pacem para Bellum

 

ما يجلب الإنتباه إليه أنَّ كلمة "إعلن الحرب" (بالأمر) لا ذكر لها في الكتب المُقدّسة بل المعنى هو الإستعداد. ويُكمِّل أغسطينوس شرحه قائلا: هدف الحرب هو استعادة بل واستقرار السّلام المفقود، إذ لا يجوز إعلان الحرب عشوائيّا. قد تكون أوتوماتيكيًّا ناجحة في تدمير العدوّ، لكن كم من الخراب والدّمار تكون قد خلّفت وراءها؟ هذا ولا ننسى أنّ أغسطينوس قبل أن يقول كلمته هذه، كان قد أوضح أنَّ اللّجوء إلى الحرب له ثلاثة شروط، وهي: أن تكون كلُّ الوسائل السّلمية التي تسبق الحرب مثل المحادثات والوِساطة قد اسْتُعْمِلَت واسْتُنْزِفَت واسْتُنْفِذَت، دون جدوى.

 

هذا ما عشناه عام 2013 حيث أنّ البابا فرنسيس سلك هذا الأسلوب وتدخّل مناشدًا كلّ الأطراف المعنيّة في النّزاع في سوريا، بالعدول عن استعمال الحرب والهجوم الكاسح بجميع أنواع الأسلحة الفتاكة، الذي كانت أمريكا قد خططت له، لأنّ النتيجة ما كانت واضحة بل الخسارات في الأرواح والأموال كادت ستكون فادحة.

 

لا، إنَّ إعلان الحرب ليس وسيلة مُقنِعة للإعتراف بأنَّ مُعلنَها هو على حق، بل هي إن دلّت على شيء فعلى ضيق عقليّة من يختارها كوسيلة للوصول إلى أهداف لا شرعيّة ولا حق له فيها باستعمال البطش والتّخريب ليُدعى بالتّالي بطلاً. وأيُّ بطلٍ يرضى بهذا الجنون! ألا يعود إلى ذاكرتنا هنا ما قام به جورج بوش الإبن بحيث ابتدأ عصر ولايته وأنهاه بالحروب ليبرهن للعالم أنه قائد جيش أكبر دولة في العالم. هذا وقد حلل اللجوء إلى الحرب بنفسه دون أن يلجأ إلى قرار هيئة الأمم التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية لهذا الغرض: إعلان الحرب أو منع حدوثها، سواء من الأعضاء الرسميين أو الدول التي لم تدخل فيها كعضو رسمي. لكنه تعدى على الحقوق كلها بل داسها برجله بالإتفاق مع توني بلير رئيس المملكة المتجدة في ذلك الوقت. فجالوا وصالوا حتى يخضعوا شعوبًا غنية بمصادرها الطبيعية ويتقاسموها معهم. العقل السليم لا يقبل بأي عذر وتحليل الحرب لمصالح شخصية.

 

كما أسلفنا، بقي العالم يستعمل كلمة "حربًا عادلة" حتّى رأى نتيجة الدّمار في الحرب العالميّة الثّانية، حيث سقط فيها ما يزيد على 55 مليون قتيل وتدمير ما يقارب من 80% من بيوت وعمارات حضارية وآثار تاريخية وكامل البُنى التّحتية في أوروبا. هنا إنقلبت المعايير وعاد الشّك في قبول وصحّة هذه التسمية، إذ شروط الحرب هي إصلاح نظام أو التّخلّص من مبدإ فاسد خاطئ لا لتدمير المعمورة.

 

عام 1948 أَعلَن مؤتمرُ مجلس الحوار بين الّديانات والشّعوب المُصغّر في سويسرا أنَّ الحرب غير ضرورة، ولا هي وسيلة موثوق بها من أجل زرع الأمل في القلوب اليائسة وإحلال السّلام بين الشّعوب. للأسف بقي ذلك القول حبرًا على ورق، على الرّغم من كلِّ الإدانات للحرب العالميّة الثّانية الّتي خلّفت من ورائها ويلات لا تُحصى، كما ذكرنا. وما أن استعاد النّاس أنفاسهم وهدأت روعتهم حتى لحقت فترة كلُّها خوف وقلق، فدخلت الحرب الباردة الّتي دامت لأكثر من 70 سنة، ما عرف الإنسان فيها لا هدوءا ولا راحة بال، بل زاد الخوف من نشوب حرب نوويّة أشدُّ فتكًا من سابقاتها، فتُدمّر ما حاول الإنسان من بنائه في هذه الفترة.

 

لكن للنّصيب حدثت أعجوبة سماويّة لا مرتقبة ولا متوقعة، وهي انتهاء الحرب التهديديّة الباردة في أوروبا بانهيار الشّيوعية عام 1989. خبر سارٌّ أفرح أساقفة الدّول الأوروبية، فكتب أكثرهم منشورًا راعويًّا لأبرشيّاتهم بعنوان "السّلام الحقيقي"، بدل المناشير المُغرِضة السّابقة الّتي كانت تحمل عنوان "تبرير الحرب"، إذ لا تبرير لأيِّ حرب، مهما كانت!

 

الحرب هي دائمًا تعدِّي فاضح على حقوق الآخرين وممتلكاتهم، فلا يجوز استعمالها لحلّ المشاكل. ومن الواضح أصلا أنّ الحرب لا تحلّ المشاكل بل تُعقِّدها. لذا فقبل اتّخاذ القرار بالّلجوء إليها، يجب أن تكون كلُّ الوسائل، الّتي كان بوسعها التّهدئة وإحقاق الحق، أنْ تكون قد اسْتُنْزِفَت. وهذا نادرا ما يحدث. لذا فلا تنتهي حرب في منطقة إلاّ وتبدأ أُخرى. لقد أصبح العالم مسرحًا دائمًا للحروب العشوائيّة. فللأسف ما عاد فيه مكان لا للسّلام ولا للعدالة ولا للتّسامح. لقد أصبح مستحيلاً! علينا ضبط الأسباب الّتي تدفع إلى إشتعال الحرب، فهي مختلفة باختلاف المواقع والبلاد التي تبدأ فيها.

 

في الستّ سنوات الآخيرة إزدادت الحرب ضراوة. ولا يزال هناك مَنْ يقول هي لإحلال السّلام (الكاذب)، كأنّهم غير مقتنعين بأنَّ لا حرب تجلب السّلام. فمن ينكر أنَّ أسبابها الواقعيّة والملموسة اليوم هي فقط لخدمة مصالح الدّول الكبرى الخاصة لا غير، سياسيًّا وجغرافيًّا واقتصاديًّا، باستخدام عنصر الدين المتطرّف فيها كي تجذب لها مرتزقة متطرِّفة متعصّبة، لا تفهم إلاّ استعمال القوة والسلاح لتدمير ما يمكن تدميره أو ما يعاكس المسيرة. هذا وكثيرًا من الحروب التي حمتها الدّول الكبرى، كانت لأسباب كاذبة والمقصود منها تجربة أسلحة تكنولوجيّة جديدة استعملوها للتأكد من مفعولها ومداها ضدّ االبشر والحجر، ثم بيعها لدول تساندها في أرباح طائلة، لا أكثر ولا أقل.

 

في لقائه الأسبوعي مع الجماهير شجب البابا فرنسيس يوم الأربعاء 21/09/2016 تبرير الحروب الدائرة قائلا: أنا لا أتحدّث عن حرب دينية: "إنها حرب مصالح وحرب من أجل المال والموارد الطبيعية والسيطرة على الناس. هذه هي حروب اليوم".

 

للمقال تكملة...