موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الثلاثاء، ١٦ أغسطس / آب ٢٠٢٢
دور الكنيسة في العالم وما هي الأسباب التي أجبرتها على إعلان الحرب الصليبيّة
المقال الرابع من سلسلة مقالات يكتبها الأب منويل بدر بعنوان: هل هناك حروب مقدّسة؟

الأب منويل بدر :

 

نقول ونؤكّد أنّ مهمّة الكنيسة مزدوِجة تجاه العالم الّذي تعيش فيه. فهي كمؤسّسة دينية، لها الحق في الدّفاع عن حقّها، لحماية الحرّية الدينية، لها ولجميع المنتمين إليها، إذ هو حق موهوب من الله لكل إنسان. المهمّة الثّانية هي أنَّ لها الحق في الدّفاع عن الحقوق البشريّة المهضومة وعن حرّية الضمير والتعبير. هذه كلُّها حقوق أساسيّة مُعطاة فلا يجوز التّلاعب بها، وهي كما اعتدنا سماعه، من الخطوط الحمراء الّتي لا يجوز التّعدي عليها.

 

كلّ تاريخ، سواء الدّيني أو السّياسي، مرّ في مراحل استعمل فيها الحرب والقوّة، مرّة له ومرّة عليه. فللحكم على هذه الحروب، يجب علينا استعراض وأسباب نشوئها والمكوِّنات أي الأسباب الّتي أدّت إلى نشوبها، ثم الحكم عليها لا بحسب قوانينا وعقليتنا اليوم، إنما بقوانين وعقلية الزّمان الّذي حدثت فيه. وهذا البحث قد يطول. لذا أريد وأكتفي هنا بالإهتمام بالحروب الصّليبية، الّتي يظنُّ البعض أنّها خزيٌ وعار للكنيسة إلى أبد الآبدين. وآخرون يقولون هي فخر للكنيسة. فما هو الحكم الصائب والغير مغرض؟ هل يحق لنا تبريرَ الأسباب والنتائج التي وصلت إليها؟ "في فلسطين، وبالذّات في أراضي الحكم الذّاتي، توصّل مسيحيّون وطنيّون إلى إقناع زملائهم المسلمين من أهل التّربية والتّعليم أنّ "حملات الفرنجة ما أتت إلاّ لأهداف استعماريّة استيطانيّة لا علاقة فيها للديانة المسيحيّة" (الأب بيتر مدروس في أبونا 17/06/2017)

 

والسؤال المهم: هل كانت الحروب الصليبية إرهابًا مسيحيًا؟

 

الرئيس جورج بوش الإبن هو الذي أثار هذه البلبلة من جديد يوم 11 سبتمبر 2011 عندما شبّه فظائع الإرهابيين الّذين باغتوا أمريكا وضربوا برجيها التّاريخيّين المشهورين في نيويورك بالحروب الصليبية مجدّدًا، والتي سيرد عليها بقبضة من حديد، ملمِّحًا إلى أن المجازر الراهنة هي ردّ دفاعي على أسلوب اعتداء بدأه المسيحيون بالحروب الصّليبيّة.

 

إنّه تشبيه مغلوط وغير مقبول من رئيس أكبر دولة في العالم، بل غير دقيق، كما أكّد له المؤرِّخون، لأن الحملات الصليبية كانت أوّلاً دفاعيّة لا هجوميّة. هم يُقرِّون أنّه من جرّاء الحملات الصليبية قد اُرتُكبت فظائع من الطرفين. ولكن، عندما يتم التشهير بالصليبيين ويُصنَّف المسلمون كضحايا الاعتداء المسيحي، يُعتبر ذلك أسطورة تُستخدم لتبرير العنف الفظيع. وهذا ليس دقيقًا على الإطلاق.

 

للوهلة الأولى قد لا نجد فَرْقًا بل تشابها كبيرًا بين مبادئ الحرب المقدّسة في الكنيسة والجهاد في الإسلام، إذ كلاهما هدفه إهفاء الآخر باسم الدّين. وبالرّغم من ذلك التّشابه نجد فرقًا ليس بسيطًا بل كبيرًا بين الإثنين. فأوّلاً الحروب الصّليبيّة، الّتي نتحاشى أن نسميها مقدّسة، ولكن الّتي دار رحاها بأمر من البابا، من أجل تحرير الأرض المقدّسة، لا ذكرى لها في الكتاب المقدّس كما الجهاد في القرآن. فهذا يعني أنّها جرت لا لاستنادها على أقوال الكتاب المقدّس أو أي نصٍّ جاء على لسان يسوع، بل هي عواقب التاريخ البشري. ثمّ إنّها كانت لحقبة وفترة مؤقّتة في التاريخ، لا دائمة مثل الجهاد، تُكوِّن ركنًا أساسيًّا من أركان الدّين، ولا شاملة أي المقصود منها محاربة فئة مُعيّنة اقترفت إجحافًا بحق الأرض المقدّسة وأهلها.

 

ثانيًا الحروب الصليبية قامت على أثر قضيّة واقعيّة وهي إنهاء إحتلال واضطهاد صارخ ولا هوادة فيه ضدّ المسيحيّين، مع تدميرِ وإحراق مقدّساتهم، وآخر الكلّ أنّ النتيجة الّتي وصلت إليها هذه الحروب كانت أفضل ممّا لو بقي الوضع الرّاهن على ما هو. فلولاها، وعلى سيّآتها وعواقبها، لما نجت لا الأرض المقدّسة ولا المسيحيّة في الشرق من الدّمار والفناء. وكتّاب التّاريخ يؤكِّدون أنّه لولا هذه الحرب لما بقي من مسيحيٍّ واحد هناك حتى يومنا هذا. لذا نقول في هذا الصّدد مقولة الشّيوعيّة: الهدف يبرِّر الوسيلة. نقدر أن نسميها حربًا للدفاع عن النفس لأنها وصلت إلى نتيجة أفضل مما لو بقي الوضع على حاله.

 

وفيما يلي نرتكز على أقوال ومحاضرات بعض المؤرخين والمطلعين بالتاريخ، كيف يشهدون، لا ليبرّروا، بل ليصفوا قساوة المستعمر الُمّرة بعد احتلالهم للأرض المقدّسة وما قاموا به من تنكيل ضد أهلها: "وإذا ردّ قوم أنّ "الكنيسة في العصور الوسطى حاربت وقتلت وأحرقت وغزت..."، فهذا تاريخ لا فلسفة، وهذا شيء "ماض" أو "ماضويّ" ما توقّفنا عنده بل وقف عنده وتحجّر أعداء الكنيسة متخلّفين متأخّرين أحد عشر قرنًا من الزّمان أو أقلّ. ولنفرض جدلاً بل لنقرّ أنّ العنف والحروب والاعتداءات تمّت، فقد كانت مخالفة للإنجيل، لذا تمّ إصلاحها وذهبت إلى غير عودة...".

 

تتعلّم الكنيسة من الماضي الّذي منه الكتب المقدسة حاليّة المغزى (حسب إيماننا) والتقليد الشّريف وخبرتها مدّة نحو ألفَي سنة"، والتّاريخ معلّم الحياة. وتحاول الكنيسة أن تخدم الإنسان اليوم ولا تتردد الكثلكة، من منبرها في الفاتيكان وفي كلّ أبرشيّاتنا، أن "يكون لها في كلّ عرس قرص"، حتّى في الأمم المتّحدة، ولها دوماً كلمتها، شاءت البشريّة أن تسمعها أم لم تشأ. "لا نريد تبرير الحروب هذه الّتي يسمّونها الحروب الصّليبيّة، بل نبرّر الهدف المقصود منها. من يستطيع تكذيب التّاريخ؟ وكلّنا يعرف كم من الظّلم ارتكب المستعمر بحق الأرض وساكنيها، وكم من القوّة استعمل بحق المسيحيين ومقدّساتهم. فليس خفيًّا علينا وعلى تاريخنا، أنّه حين فتح القدس ما كان في نيّته إدخال ثقافة أو تبشير سلمي بل فرض الإسلام دينًا وتوسيع ممالكه الّتي ما لها دين غير الإسلام "إذ دين الله هو الإسلام"، كما هو النص المعتمد في التبشير. فبعد فتوحاته الداميّة من منشأه حتى وصل القدس عام 632 نهج السّياسة المعروفة بشروطها الثّلاثة المعروفة على البلاد وأهلها:

 

للمقال تتمّة