موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٥ ابريل / نيسان ٢٠٢١
الحج الكاثوليكي إلى الأرض المقدسة في القرن التاسع عشر.. كتاب للأب د. يعقوب رفيدي

أبونا :

 

أصدر الأب د. يعقوب رفيدي، من كهنة البطريركية اللاتينية ورئيس المعهد الإكليريكي البطريركي اللاتيني في بيت جالا، كتابًا جديدًا، بطبعته الأولى، يحمل عنوان: "الحج المسيحي إلى الأرض المقدسة في القرن التاسع عشر"، وتحديدًا خلال الفترة مابين 1799-1914.

 

والإصدار الجديد هو بحث ناقشه الكاتب كأطروحة للدكتوراة بعد نهاية دراساته في تاريخ الكنيسة في الجامعة الغريغورية الحبرية في روما. وهو من منشورات المعهد الإكليريكي التابع للبطريركية اللاتينية، وقد راجع نصه ودقّق لغته العربيّة غبطة البطريرك ميشيل صبّاح، وطُبع في مطبعة البطريركية اللاتينية، بتمويل وتوزيع مكتبة يسوع الملك في بيت لحم.

 

ويقدّم الأب رفيدي كتابه الجديد، "إلى عائلتي التي منحتني القيم الإنسانيّة وولدتني في الإيمان، وإلى كنيستي الأم، كنيسة القدس، التي عمّقت فيّ الإيمان والرجاء والمحبة وزرعت في ذاكرتي محبة الأرض المقدسة والانتماء إلى ترابها الطاهر، وإلى كل مؤمنة ومؤمن يسير في حجه الروحي والجسدي إلى الأرض المقدسة على خطى المسيح"، بحسب ما جاء في نصّ الإهداء.

 

 

أقسام الكتاب

 

يتكّون الكتاب من ثلاثة أقسام رئيسة.

 

يأتي القسم الأول تحت عنوان: "الحج المسيحي إلى الأرض المقدسة"، وفيه يتناول الكاتب في ثلاثة فصول مواضيع: "مسيرة نحو البحث الروحي"، و"الإطار التاريخي: من القرن الأول إلى القرن الثامن عشر"، و"الإطار السياسي والديني في فلسطين (1799-1914)".

 

أما القسم الثاني فيقع تحت عنوان: "الحج الكاثوليكي إلى الأرض المقدسة: من الانبعاث إلى الازدهار"، ويتضمّن أيضًا ثلاثة فصول: "الشرق ينفتح مجددًا على الغرب (1799-1846)"، و"قوة جديدة في الحضور المسيحي في فلسطين (1847-1881)"، و"العصر الذهبي: القدس تمتلىء بالحجاج (1882-1914)".

 

أما القسم الثالث والأخير فيأتي تحت عنوان: "الحج المسيحي والكنيسة المحلية: تفاعل متبادل"، ويقع تحت فصلين. الأول يحمل عنوان "أماكن، أشخاص، واكتشافات في أرض المسيح"، والفصل الثاني "الكنيسة المحلية ترحّب بالحجاج وتستقبلهم". ويتضمن الكتاب خاتمة، وجدول للتسلسل التاريخي، وخرائط جغرافية وصور أرشيفية، وإحصائيات الحج إلى الأرض المقدسة، إضافة إلى قائمة المصادر والمراجع.

 

 

تقديم غبطة البطريرك ميشيل صباح

 

هذا كتاب عن الحج المسيحي في القرن التاسع عشر، في الفترة بين 1799-1914، كتبه الأب يعقوب رفيدي من كهنة البطريركية اللاتينية وناقشه كأطروحة للدكتوراة بعد نهاية دراساته في تاريخ الكنيسة في الجامعة الغريغورية الحبرية في روما. بدأ فبيَّن أولاً معنى الحج المسيحي وهدفه، أنه صلاة، ولكنه نوع خاص من الصلاة فهو توبة ومسيرة وسفر من بلد إلى بلد، من البلد الأصلي إلى فلسطين الأرض المقدسة، بلد يسوع المسيح التي ما زالت تحمل عبر القرون آثار سر كلمة الله الأزلي، ودخوله في تاريخ البشرية. وهدف الحج هو، مع الاقتراب من كلمة الله في تاريخنا وظهوره في مكاننا وزماننا، تنقية الذات بهذا القرب المكاني من سر الله. وتكلم على أنواع الحجاج. كثيرون حجوا فجاوروا وأقاموا مجاورين للمكان المقدس، وبعضهم نسكوا، فجعلوا حياة الرهبنة حجًّا مدى الحياة. فامتلأت صحاري فلسطين بالألوف من الرهبان، مدة القرون الأولى للمسيحية.

 

اختار المؤلف الفترة بين 1799م وحتى 1914م. كلا السنتين لها دلالتها في التاريخ العام وفي تاريخ بلادنا. في سنة 1799م كانت غزوة نابليون لمصر والشرق، كانت غزوة لا شيء فيها من مفهوم الحاج ولا تمت إلى الحج بصلة. كانت حربًا فقط، وغزوًا عسكريًا. ولكنها تركت في تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب أثرًا حاسمًا. جاء نابليون إلى الشرق وعاد مهزومًا. لكنه ترك في مصر والشرق بذار الحداثة والانتقال إلى زمن جديد في الصناعة وفي الحضارة وفي الحياة بصورة عامة. ففي هذه السنة بدأت مرحلة تكوَّن فيها القرن التاسع عشر في بلادنا.

 

وسنة 1914م هي سنة بداية الحرب العالمية الأولى التي غيّرت وجه الشرق، فزالت الإمبراطورية العثمانية ووُلِد، أو ولَّدَ الغربُ المنتصرُ الشرقَ الأوسط الذي نعيش فيه اليوم، ولو أنهم ولَّدوه على غير ما نريد. فالسنة 1914م نهاية لمرحلة تاريخية وبداية لمرحلة تاريخية جديدة.

 

بدأ الكاتب فتكلم على جميع الفترات التاريخية التي كوَّنَت الإطار التاريخي للحج المسيحي في هذه البلاد. بدا موجِزًا منذ البداية: الفترة المسيحية الأولى بين القرن الرابع وأواسط القرن السابع التي انتهت مع الفتوحات الإسلامية. ظلت المسيحية في فلسطين والشرق الأوسط مسيحية، ولكن الحكم فيها لم يعد مسيحيًا. وبعض الناس صار على دين حكامهم. فبعض المسيحيين أسلم وبعضهم بقي مسيحيًا. شعب واحد أصبح يدين بديانتين، وظل هذا الواقع إلى اليوم.

 

وبذلك دخلت فلسطين كلها في مسيرة القدس ومنطقها المسيحي، أي إنها المدينة الذي شهدت موت يسوع المسيح، الإله الإنسان. والتي ستبقى شاهدة لهذا الحدث أمام الشعوب المؤمنة وغير المؤمنة على السواء. ولهذا ظلت القدس مدينة المأساة الكبرى في الإنسانية. ظلت مدينة صغيرة من حيث التنظيمات البشرية والكنسية، وظلت مع ذلك مدينة صراعات بين الشعوب. ظلت مدينة الجلجلة، ولو أعقبتها القيامة. وهي حتى اليوم مدينة موت وصراع مع الموت والحياة.

 

ثم ذكر الكاتب الفترة المسيحية الثانية، الفترة المسيحية الأولى كانت طبيعية، امتدادا لما سبقها من تطور وحكام كانوا وثنيين ثم آمنوا بالمسيحية. أما هذه الفترة الثانية فكانت طارئة. وهي الفترة الصليبية. ولدت في مفهوم الحج والصلاة، ولكنها لم تبقَ حجًّا وصلاة. بل صارت حربًا، عكس ما ترمز إليه أماكن الخلاص، ولهذا لم تبقَ.

 

ثم عادت العصور الإسلامية حتى نهاية العصر العثماني.

 

بعد المقدمة التاريخية تكلم الكاتب على أنواع الحج، ومنه حج التوبة الذي رافقه بصورة خاصة آباء الانتقال أي الرهبان المعروفون اليوم باسم، Assompitonnistes وهم الذين بنوا النوتردام، لإيواء الحجاج التائبين المصلين، - وهو اليوم فندق من أهم فنادق القدس، للحجاج وغيرهم. أصبح الحج جماعيًا، وبدأ بحج "الألف" الذي تلته رحلات حج أخرى كثيرة. ساهم في تنظيم هذا الحج أيضًا جمعية مار منصور الخيرية، وهي التي أسست جمعية مار منصور الخيرية القائمة حتى الآن في القدس.

 

وذكر حراسة الأرض المقدسة أي الرهبان الفرنسيسكان واستقبالهم ومرافقتهم للحجاج. رحلت جيوش الفرنجة أما الرهبان الحجاج، المصلون والمناجون بالسلام والمحبة فبقوا. وبالرغم من سوء الفهم وعدم القبول الذي واجهوه، فقد ظلوا مدة ثمانية قرون وحتى اليوم حضور صلاة ومحبة إلى جانب المسيحيين المحليين في القدس وكل الأماكن المقدسة ومن حولها. وقاموا بخدمات المحبة فبنوا بيوت الضيافة (الكازانوفا)، وبنوا الرعايا والمدارس للمسيحيين المحليين ولغيرهم. تعود أقدم مدرسة لهم إلى القرن الخامس عشر، يوم لم يكن في فلسطين مدرسة. ثم جاء ذكر البطريركية اللاتينية التي أعيد تأسيسها عام 1847، والتي ساهمت في استقبال الحجاج وتشجيعهم لزيارة الأماكن المقدسة.

 

وذكر الكاتب الحج الأرثوذكسي الكبير، اليوناني ومن كل البلدان الأرثوذكسية، ولاسيما الحج الروسي وجموعهم الغفيرة وتقواهم، ومساهمة الدولة الروسية في اقتناء ممتلكات لخدمة الحجاج ولخدمة المسيحيين المحليين. أهمها المسكوبية الجديدة في القدس، ودير راهبات بالقرب من الجسمانية وغيرها، ومؤسسات ثقافية في الناصرة وبيت لحم، وأملاك أخرى في الخليل وأريحا.

 

وتحدث طبعًا عن وضع الكنائس البطريركيات والحراسة، والعلاقات بينها ونزاعاتها وصلواتها في الوقت نفسه. في هذا المجال نقول إنّ التاريخ عاشه صانعوه مرة واحدة، وبقي لنا ذكرى وعبرة. الماضي مدرسة وليس مقبرة للحاضر، ولاسيما عندما ننظر إلى مكوناته السلبية والنزاعات، والمكاسب والمخاسر التي حصلت فيه. يبقى الأساس المسيحي أن الكل يؤمنون بيسوع المسيح الواحد، الذي جعل أرضنا مقدسة، وإليها تتوافد وبه تؤمن جماهير الحجاج في كل العصور، وكل الكنائس المتنوعة أو المختلفة في ما بينها. فالكل مدعو، مع الحج إلى الأماكن التي تحوي سر الله، اكتشاف سر الإنسان صورة الله، وموضوع محبة الله، ومن ثم موضوع محبتنا، مهما اقتربنا بعضنا من بعض أو اختلفنا وابتعدنا، اليوم أو في الأمس.

 

كتاب جديد. موضوعه: الحج إلى الأراضي المقدسة. يعود بنا إلى فترة من تاريخنا وتاريخ إيماننا المسيحي في هذه الأرض المقدسة. قراءته مفيدة وممتعة. نشكر للأب يعقوب رفيدي الجهد الذي بذله ليقدّم لنا معارف جديدة تثري بها معارفنا، في أرض نريدها أن تكون أرض صلاة، وأرض محبة وعدل وسلام.

 

 

مقدمة الأب يعقوب رفيدي

 

نقرأ في سفر الخروج قصة شعب في طريقه إلى هدف طال انتظاره. الهدف هو اللقاء مع الله على الجبل المقدس. هناك وصل موسى بعد رحلة طويلة، استمرت عدة أشهر، عاش خلالها فترة تنقية، كانت ضرورية قبل دخوله أرض الميعاد. كان في الواقع يسير للقاء الرب.

 

وفي ملحمة الإلياذة في الأدب الإغريقي القديم نجد وجها يبرز، هو أوليسس. وهو شخصية من الأساطير الإغريقية أُبعد بالقوة عن وطنه، وظل يتوق إلى العودة إلى الديار ويحن للعيش في وطن الأجداد.

 

في كلا الواقعين عامل مشترك يجمع بينهما: التجوال، والمسير، والحج والعودة إلى الأصول، والذهاب إلى اللقاء مع الله. وفي العهد الجديد، نقلت إلينا إحدى أولى العظات القديمة هذه الدعوة إلى التجوال والسير: «فلنخرج إليه إذًا خارج المخيم حاملين عاره. لأنه ليس لدينا مدينة باقية، وإنما نسعى إلى مدينة المستقبل» (عبر 13: 13-14).

 

منذ أقدم العصور، وعلى الرغم من الصعاب الكثيرة بدأ الناس بالترحال سواء للعثور على أماكن لا يعرفونها يقيمون فيها أماكن سكن جديدة، أم للتكفير عن الخطايا والذنوب. ولدى المصريين القدماء كان مفهوم السفر إلى «العالم الآخر» مقدسا للموتى، وللأحياء، كان هدفه تحقيق الرفاهية والانسجام بين الناس. وفي القرون الوسطى المسيحية، في الكوميديا ​​الإلهية التي كتبها دانتي أليغييري، تأخذ فيها الرحلة دورًا مهمًا جدًا إلى جانب بعدها الديني. بدأها بالأبيات التالية: «في منتصف مسيرة حياتنا وجدت نفسي في غابة مظلمة. لأن الطريق المستقيم قد ضاع». إنها رحلة ميتافيزيقية متأثرة بالميثولوجيا القديمة.

 

السفر جزء من الثقافة. نجد، في الأدب القديم، الأبطال الذين اضطُرّوا إلى القيام بعدة رحلات لإظهار فضائلهم وقوتهم. ولم تنفَّذْ تلك الرحلات طواعية، لكن بإرادة الآلهة.

 

من وجهة نظر دينية، يمكن أن تمثل الرحلة شكلاً من أشكال التوبة أو التطهير. قد تكون نشأت بالفعل في تاريخ خلق العالم منذ طرد آدم وحواء من جنة عدن. في العصور الوسطى أصبح هذا الانتقال من مكان إلى آخر يسمى الحج، وهو رحلة توبة وتكفير به يطهر المسيحي نفسه من الخطايا والذنوب.

 

عند قراءة سفر أعمال الرسل يدهشنا تمسك التلاميذ الأولين بالهيكل وبمركزيته في حياتهم: «وكان بطرس ويوحنا صاعدين إلى الهيكل لصلاة الساعة الثالثة بعد الظهر» (اع 3: 1). یبدأ إنجيل لوقا وينهي البشرى السارة مع ذكر الهيكل. (اع 1: 5-25 وأيضا 24: 52-53.). هذه آخر آيتين في إنجيل لوقا، كاتب "وداعة المسيح" والروح القدس، ومريم العذراء، ومن ثم الكنيسة كلها: «فسجد التلاميذ له، ثم رجعوا إلى أورشليم وهم في فرح عظيم. وكانوا يلازمون الهيكل وهم يباركون الله».

 

«الصعود سيرا على الأقدام» إلى الهيكل يرمز إلى صعود الروح إلى الحقائق السماوية السامية. بالنسبة للمسيحيين الأوائل من أصل يهودي، كان الحج إلى الهيكل عندهم يمثل الانسجام بين العهدين.  لم تكن المشاعر تتوقف في القلوب، ولا الدموع في العيون، خاصة في الأعياد الكبرى، بل كانت تعيد ذكرى "البيت" بيت الله أي الهيكل. وكما هو معروف، كان لهذه الأعياد والاحتفالات الأثر الكبير في مراحل حياة يسوع ورسالته كما هو مبين في إنجيل يوحنا. فكانت ذكريات التلاميذ مزدوجة، ولها قدسية مزدوجة: كانت تشمل العهد القديم والجديد. بدءًا بذكريات يسوع في الهيكل وهو طفل لما كان عمره أربعين يوما، ثم شابًّا صغيرا لتسلم الشريعة (بار ميتسفاه)، ثم واعظًا كبيرًا موضع خلاف ومعارضة، وطاردًا بقوة للتجار، ومعلمًا بليغًا لا يُهزم في الجدال ... الخ.

 

هكذا ولد الحج اليهودي المسيحي، ليتطور بعد ذلك فيصبح مسيحيًا، بدون انفصام بين العهدين، القديم والجديد، اللذين تمت وحدتهما في المسيح والعذراء مريم والقديس يوسف والرسل، والتلاميذ الأولين والبشارة والإيمان الرسولي. كان «الصعود» يشير إلى تاريخ أحداث الخلاص، ولم يكن مجرد ذكرى، بل إعادة إحياء للأحداث. إلى كل التراث الخلاصي من العهد القديم، أضيف عفويا التراث الكرستولوجي والمريمي والكنسي، في سياق شهادة وحنين التلاميذ الأولين الذين لخص يوحنا الرسول قولهم وموقفهم في رسالته الأولى: «ذاك الذي كان منذ البدء، ذاك الذي سمعناه، ذاك الذي رأيناه بعينينا، ذاك الذي تأملناه ولمسته يدانا، من كلمة الحياة [...] نبشركم به أنتم أيضا لتكون لكم أيضا مشاركة معنا» (1 يو 1: 1-3).

 

منذ أكثر من ألفي سنة ومن جميع بقاع العالم، يأتي المسيحيون حجاجًا إلى الأرض المقدسة، لإكرام الأماكن المقدسة في العهدين، القديم والجديد على حد سواء، على مثال قول الإنجيل: «لذلك كل كاتب تتلمذ لملكوت السماوات يشبه رب بيت يخرج من كنزه كل جديد وقديم» (مت 13: 52).

 

ثلاثة هي الحوافز التي دفعتني إلى الخوض في معالجة موضوع الحج المسيحي إلى الأرض المقدسة ما بين (1799-1914م). أولا، إن اختيار الموضوع له قبل كل شيء دافع شخصي، فحضور الحجاج المسيحيين إلى وطني طبع في ذاكرتي أجمل الصور، لاسيما عندما كنت أرى شجاعتهم ورباطة جأشهم في مواجهة التعب بهمة عالية، مسلحين بالإيمان، وعازمين على الدخول في خبرة مميزة، ألا وهي الالتقاء بالله في المكان المقدس. الحافز الثاني هو كنسي، فكنيسة القدس تتميز بخصائص فريدة، حياتها في الواقع تغتني من خلال اللقاء الخصب بين الحجاج والأماكن المقدسة. وثالثًا هناك سبب ذو طابع تاريخي، فالحقبة التاريخية التي أعالج فيها موضوع الحج المسيحي تعتبر فترة مهمة تم خلالها إعادة تكوين كنائس الأرض المقدسة. ففي هذه الفترة يمكننا تتبع مراحل إعادة تأسيس كنيسة القدس الحالية، كما يمكننا إدراك ملامح تكوينها الذي ارتبط ارتباطا وثيقا بتطور الحج المسيحي وازدهاره في الأرض المقدسة.

 

نشأ الحج المسيحي منذ الأيام الأولى للمسيحية، انطلاقا من الرغبة العميقة لاختبار تجربة أصيلة مع الله. فيه ولدت حاجة المؤمنين لزيارة وتكريم الأماكن المقدسة من خلال الشروع في مسيرة جسدية واتصال مباشر مع المقدس. فبات الحج المسيحي تعبيرا أساسيا عن التقوى الشعبية والدينية التي تتدفق من الحب وتغذي الإيمان.

 

لذا كانت الأرض المقدسة مقصدا لأعداد لا تحصى من الحجاج على مر العصور الذين أتوا لهذا الغرض، على الرغم من عدم الأمان، وطول الطريق وصعوبتها. كان يدفعهم إيمان قوي وشغف كبير لزيارة وطن يسوع من أجل الحصول على نعمة خاصة من الله، والعودة إلى أوطانهم مجددين بالروح. لذا نجد أن تاريخ الحج إلى فلسطين يحتوي على الكثير من شهادات الحجاج. فالحاج يعتزم السير على خطى الرب، ولمس الأماكن التي عاش فيها هو وأمه والرسل والشهداء. لأن هذه الأرض تقدست وتباركت بميلادهم وعيشهم فيها، من أجل الرجوع إلى الينبوع الحي، أصل إيمانهم؛ لذلك عملت كنيسة القدس دائمًا على استقبال الحجاج وقدمت لهم خدمات الضيافة والليتورجية.

 

يعتبر المؤرخون القرن التاسع عشر الفترة الزمنية التي تم فيها إعادة اكتشاف فلسطين. تبدأ قصتنا عام 1799م، وهو عام غزو نابليون لفلسطين، كما ويعتبر بداية العصر الحديث في البلاد وفي الشرق الأوسط بأكمله. في هذا الإطار نشأ أيضا الحج الكاثوليكي وهو الموضوع الرئيس لدراستنا.

 

الهدف الأول من هذه الدراسة هو تتبع تاريخ الحج الكاثوليكي إلى الأرض المقدسة في مراحله الأساسية الثلاث، مبينًا نموه وتطوره من خلال تحليل الجوانب السياسية والاقتصادية والدينية التي لعبت دورا هاما في ازدهاره. والهدف الثاني هو إبراز التأثير المتبادل بين الحج الكاثوليكي والكنيسة الأم، وبين الحجاج والمسيحيين المحليين. هذه العلاقة المميزة التي نسيها الكثير من المؤرخين، أُخذت بعين الاعتبار وعولجت بتوسع انطلاقا من دراسة وتحليل الكثير من الشهادات الفردية والجماعية لحجاج الأرض المقدسة، الذين وصفوا كنيسة القدس بقلب الأم الذي يرحب ويستضيف ويستقبل ويحتضن. فمن هذا اللقاء الغني يولد الإثراء المتبادل.

 

يلمح المتتبع لتاريخ الحج المسيحي إلى فلسطين أن بداية القرن التاسع عشر سجلت تدفقا تدريجيا للحجاج اليونانيين والأرمن. بينما شهد النصف الثاني من القرن نفسه اقبالا متزايدا للحج الروسي. ومع إعادة تأسيس البطريركية اللاتينية في القدس على يد البابا بيوس التاسع عام 1847م، وصلت العديد من الجمعيات الرهبانية التي ساهمت بشكل كبير في نمو وتعزيز الحج الكاثوليكي. بعبارة أخرى، يمثل هذا القرن نقطة تحول حاسمة ساهمت في إبراز الواقع الحالي لكنيسة القدس. لذا فإن إعادة تكوُّن الكنائس في الأرض المقدسة في القرن التاسع عشر أثر بشكل كبير في تطوير الحج المسيحي إلى فلسطين، بينما أسهم الحجاج، في المقابل، إسهاما كبيرا في تعزيز وتطوير كنيسة القدس أم الكنائس.

 

كان النظام السياسي الحاكم في تلك الفترة (1799-1914م) هو النظام العثماني، تخلله فترة قصيرة من الحكم المصري (1831-1840م). وقد تميزت هذه الحقبة التاريخية بضعف الإمبراطورية العثمانية وترهلها، ومن نتائجها أن عاشت فلسطين حالة من الفوضى وانعدام الأمن. ومنذ بداية الستينيات، خاصة بفضل الإصلاحات التي أدخلت عام 1856م وعرفت باسم «التنظيمات»، فرضت رقابة عسكرية شديدة شملت مناطق حكم الامبراطورية العثمانية كافة، وتحقق بالتالي تحسن ملحوظ في الوضع السياسي في فلسطين الذي ضمن ظروفا أكثر أمانا في حياة الافراد وفي تنقلاتهم.

 

أما بالنسبة للوضع الديني، فإن «المسألة الشرقية» أصبحت أيضا دولية خاصة في ما يتعلق بالأماكن المقدسة في فلسطين، قد لعبت القوى الأوروبية آنذاك دورا هاما في حماية المسيحيين في الشرق، بالإضافة إلى حماية الحجاج المسيحيين الذين أخذوا يأتون إلى الأرض المقدسة وبازدياد مستمر من جميع أنحاء العالم ومن جميع الكنائس المسيحية. ومن السمات الرئيسة للوضع الديني في فلسطين هو احتدام الصراع بين المسيحيين أنفسهم من أجل الحصول على الحقوق والامتيازات في الأماكن المقدسة. استمر هذا التوتر حتى تم إعلان الفرمان العثماني عام 1852م والمعروف باسم «ستاتسكو»؛ أي الإبقاء على الوضع الراهن، علما بأن هذا الصراع لم يتوقف حتى الآن.

 

وأخيرا، هناك عنصران أساسيان ميزا هذه الفترة، هما: الحداثة والانفتاح على العالم. فقد بدأت بالظهور ملامح ازدهار اقتصادي بفضل تطور الزراعة، وازدهار فنون الحرف اليدوية، والهدايا التذكارية، والانتاج الفني من الرسومات واللوحات التي تخص الأماكن المقدسة. كما أن المنافسة الشديدة للدول الأوروبية من خلال وجود رعاياها في الأرض المقدسة ساهمت بدرجة كبيرة في نمو غير اعتيادي في تطوير مساحات البناء. ويمكننا أن نعدد عناصر أخرى ساهمت هي أيضا في مثل هذا التطور والحداثة كالزيادة في شركات الشحن، والخدمات البريدية الأوروبية، والطرق، ووسائل النقل. كل هذا لعب دورا حاسما في تحفيز الحج والسياحة العالمية الى القدس ونموهما.

 

لننتقل الآن إلى معالجة بعض الملاحظات ذات الطابع المنهجي. من وجهة نظر موضوع البحث والدراسات المتعلقة به ونتائجها يمكننا التركيز على ثلاث قضايا أساسية: الأولى تخص الوضع السياسي والديني لفلسطين في القرن التاسع عشر، وهو موضوع عولج ودرس بطريقة مستفيضة. أما القضية الثانية فتخص الحج المسيحي إلى الأرض المقدسة، وهذا الجزء تم توثيقه أيضا تاريخيا بطريقة وافية. أما بالنسبة للقضية الثالثة ألا وهي الحج الكاثوليكي إلى الأرض المقدسة (1799-1914م)، فتشكل نواة هذا العمل. اجريت دراسات قليلة حول هذا الموضوع اتسمت بأنها دراسات قليلة العمق وهي ذات طبيعة عامة ولا تتناول على وجه التحديد الفترة الزمنية للبحث (1799-1914م). يميز معظم هذه الدراسات الطابع الوطني خاصة الفرنسي، علما بأنها لا تعالج بعمق موضوع الحج الكاثوليكي في الأرض المقدسة أو الكنيسة المحلية. ومع أن هناك العديد من سير الحجاج الغنية والتي تحمل تقارير معبرة وفيها الكثير من الجوانب التاريخية لهذه الفترة، لكننا نجد فقط دراسة واحدة كاملة وشاملة تعالج الحج الفرنسي في سياق المسيحية الوطنية الفرنسية، وهي أطروحة الدكتوراه للفرنسي برترون لامور، دافع عنها في جامعة النور في ليون عام 2006م، وتحمل عنوان «الحج الكاثوليكي الفرنسي إلى الأرض المقدسة في القرن التاسع عشر»،

 

أما النسبة للبحث الحالي فقد تم استخدام أربعة أنواع من المستندات والوثائق التاريخية هي:

1. الدراسات السابقة.

2. سير الحجاج.

3. المجلات والدوريات.

4. الأرشيفات الكنسية العديدة في القدس وروما.

 

لقد قدّم لي المصدر الأخير رؤية واضحة لهذه الظاهرة ومعرفة مفصّلة بها.

 

كما هو الحال في أي بحث تاريخي، فقد واجهت بعض الصعوبات بدءًا من تلك التي تتعلق بالحدود الشخصية، فالصعوبة اللغوية كان أولها وذلك بسبب عدم معرفتي بلغات جميع الحجاج الكاثوليك الذين وصلوا إلى الأرض المقدسة خلال الفترة الزمنية التي تمت فيها الدراسة. ثانيًا، عدم القدرة على الوصول إلى بعض الأرشيفات مثل تلك الموجودة في فرنسا على سبيل المثال، بسبب ضيق الوقت. وأخيرًا عدم إمكانية الوصول إلى اثنين من الارشيفات الهامة في الأرض المقدسة، على الرغم من المحاولات الفاشلة للحصول على إذن للوصول إليها. لكن وعلى الرغم من تلك الصعوبات فإني أعتقد أن النتائج التي تم التوصل اليها كافية لإظهار أهمية الحج الكاثوليكي إلى الأرض المقدسة في القرن التاسع عشر. كما آمل أن تشرع هذه الدراسة أبوابًا واسعة للباحثين والمؤرخين، وتكون حافزًا لدراسة هذا الموضوع بطريقة أكثر شمولية ودقة في المستقبل.

 

تتألف هذه الأطروحة من ثلاثة أقسام أساسيّة، تمثل المحاور الرئيسة لهذه الدراسة. يندرج القسم الأول تحت عنوان «الحج المسيحي إلى الأرض المقدسة»، حيث يركز بشكل عام على العناصر المكونة للحج المسيحي. القسم الثاني بعنوان «الحج الكاثوليكي إلى الأرض المقدسة، من البداية إلى الازدهار 1799-1914م»، وهو دراسة تاريخية تحليلية معمقة اعتمدت على التسلسل الزمني. فقد سجلت هذه الفترة تطورًا ونموًا للحج الكاثوليكي، انطلاقًا من تحليل الجوانب السياسية والاقتصادية والدينية التي ساهمت في ذلك. أما القسم الثالث فهو بعنوان «الحج والكنيسة المحلية والتأثيرات المتبادلة». يوضح هذا الجزء اللقاء الخصب والمثمر بين الحجاج والمسيحيين المحليين والذي ساهم في إنشاء علاقة إثراء متبادل.