موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأعياد الكبيرة في الكنيسة والتي تدعى سيّديّة نسبة إلى الربّ يسوع المسيح، هي كلّها واحدة، لأنّها خَلاصيّة. عددها ثلاثة عشر عيدًا، وهي مترابطة في جوهرها ولاهوتها ومدلولها وعقيدتها وكتاباتها وصلواتها وتراتيلها. حتَّى الأعياد الوالديَّة الأربعة (ميلاد العذراء، دخولها إلى الهيكل، بشارتها، رقادها) تدعى سيِّديَّة لأنَّ السيِّد الربَّ هو الأساس والأوَّل، وهي طبعًا من ضمن الأعياد الثلاثة عشر.
نشاهد في اللوحة المرفقة مشهدين: القسم العلويُّ يمثِّل البشارة، والقسم السفليُّ الميلاد. هي لوحة عاجيَّة تعود إلى العام 1000-1050م محفوظة في متحف لندن مصدرها المرجّح بلجيكا. النقش على العاج مزدهر في تاريخ الكنيسة ككل، وهناك لوحات كثيرة تُظهر مشاهد تتعلَّق بالميلاد، وأحداثًا تدور حول القيامة، وأحداثًا خلاصيَّة أخرى، من القرن الميلاديِّ الثامن.
لاهوتيًّا، العيدان متكاملان ويسترسل لوقا الإنجيليُّ بذكرهما. وجيِّد أن نتأمَّل بالحوار الَّذي دار بين الملاك جبرائيل ومريم العذراء الَّتي ستصبح والدة الإله عند قبولها بملء حرِّيَّتها طلب تجسُّد الربِّ الإله يسوع المسيح منها. الحبل الإلهيُّ وطبيعة المولود الإلهيِّ كانا واضحَين في كلام الملاك: «الروح القدس يحلُّ عليكِ، وقوَّة العليِّ تظلِّلكِ، فلذلك أيضًا القدُّوس المولود منكِ يدعى ابن الله» (لوقا 1: 35).
والجميل في بشارة جبرائيل تأكيده أنَّ ولادة ابن الله لم تكن مفاجأة، فقد قال: «ويُعطيه الربُّ الإله كرسيَّ داود أبيه» (لوقا 1: 32).
عبارة «ابن داود» لها أهمِّيَّة كبرى، إذ كان اليهود ينتظرون مجيء المسيح من نسل داود. لهذا نرى الشعب ينادي المسيح: "يا ابن داود".
كما كان هناك نبوءة أعطيت لداود: «متى كملت أيَّامُكَ واضطجعتَ مع آبائك أقيم بعدك نسلَكَ الَّذي يخرج من أحشائك وأثبِّت مملكته» (2 صم 7: 12). وأيضًا هناك نبوءة هي أنَّ المسيح سيأتي من بيت لحم، وهذا ما قاله كهنة اليهود وكتَبَتُهم لهيرودس عندما سألهم: "«أين يولد المسيح؟»، فأجابوه: «في بيت لحم، بحسب نبوءة ميخا: «وأنتِ يا بيت لحم، أرض يهوذا، لست الصغرى بين رؤساء يهوذا، لأن منك يخرج مدبِّرٌ يرعى شعبي إسرائيل» (متَّى 2: 5-6).
يضاف إلى ذلك آية تتعلَّق بداود بطريقة غير مباشرة، فهي كناية عن نبوءة لإشعياء النبيِّ يذكر فيها يَسَّى والد داود: «ويخرج قضيب من جذع يسَّى، وينبُتُ غصن من أصوله» (إشعياء 11: 1). وهناك أيقونة تصوِّر هذه الآية.
كما أنَّ هناك صفات قد تكون مشتركة بعض الشيء بين داود والمسيح، فالأوَّل كان راعيًا للغنم وبعدها أصبح ملكًا في عمر الثلاثين عامًا ووحَّد المملكة، ويسوع هو الراعي وملك الملوك ودعا الجميع إلى الخلاص.
ولا ننسى أنَّ داود الملك هو من نسل ابراهيم الَّذي قال له الربُّ بأنَّ منه «تتبارك فيك جميع قبائل الأرض» (تك 12: 1)، وحكمًا داود من سبط يهوذا ابن يعقوب حفيد ابراهيم الَّذي سيأتي منه المسيح بحسب نبوءة يعقوب: «لا يزول قضيبٌ من يهوذا ومشترعٌ من بين رجليه حتَّى يأتي شِيلُونُ وله يكون خضوعُ شُعوبٍ» (تكوين 49: 10).
وكان داود ينوي أن يبني هيكل الرّبّ في أورشليم، بينما الرّبّ يسوع هو الهيكل الحقيقيُّ الَّذي يدعونا إلى أورشليم السماويَّة. وهناك حوار مهمٌّ جدًّا دار بين يسوع والفرِّيسيِّين حول المسيح وداود، ويعطينا المعنى العميق للبنوَّة الآتية من نسل داود، وذلك عندما سأل الربُّ الفرِّيسيِّين: «ماذا تظنُّون في المسيح؟ ابنُ مَن هو؟» قالوا له: «ابنُ داود». قال لهم: «فكيف يدعوه داود بالروح ربًّا قائلًا: قال الربُّ لربِّي: اجلِسْ عن يميني حتَّى أضع أعداءك موطئًا لقدمَيْكَ؟ فإنْ كان داود يدعوه ربًّا، فكيف يكون ابنَه؟». فلم يستطع أحد أن يُجيبه بكلمة (متَّى 22: 41-45).
ولا بدّ لنا أن نذكّر بأن الفترة الَّتي وُلِدَ فيها المسيح كانت فترة ضياع وانتظار لليهود الّذين كانوا يرجون مجيء المسيح، وكانوا يشعرون أن السماء قد تخلّت عنهم لأن كانت النبوءات قد توقَّفت منذ زمن. بالمقابل إدّعى كثيرون في ذلك الوقت بأنَّهم المسيح ودخلوا أورشليم منادين بالخلاص.
جوابًا وختامًا لما طرحه يسوع كسؤال عن داود والمسيح نقول: الرّب يسوع المسيح كان موجودًا قبل أن يتجسّد لانه إلإله قبل كل الدهور، وطبعًا بقي إلهًا بعد صيرورته إنسانًا. لهذا قال الربُّ لليهود: «الحقَّ الحقَّ أقول لكم: قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن» (يوحنَّا 8: 58).
أما النبوءات حول أن المسيح هو ابن داود فهي نبوءات عن دخول يسوع النسل البشريّ ومجيئه إلينا.
هذه هي بشارتنا، وهذا هو المولود الإلهيُّ في الميلاد.
إلى الربِّ نطلب.