موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأب فارس سرياني، خوري اللاتين في مدينة الكرك، الأردن
ضَجَّت المواقع الإخبارية وغصّت صفحات التّواصل الاجتماعي، بتصريحات قيل فيها أنّ قداسة الحبر الأعظم فرنسيس، يوافق ويدعو إلى الارتباط المدني لمثليي الجنس، أي السّماح "بزواجهم". ونحن نعلم أنّ هذه افتراءات كاذبة لا تهدف الا الى تشويه صورة الكنيسة والحبر الأعظم، وتسويق سلعة فاسدة مسمومة. فهل ما نُقِلَ عن قداستِه صحيح؟ هذا ما لا بدَّ لنا من توضيحه، من خلال هذا التّقصي، في بعض أجهزة الإعلام ومروجي الأخبار، المصابين بجائحة (الّلادِقّة والكذب في نقل الخبر).
أوّلًا: إنّ تعليم الكنيسة الكاثوليكية بخصوص المثليّة الجنسيّة لا يزال كما هو، ولم يخضع لتبديل أو تعديل. حتّى لو اشتهى البعضُ تحريفه وإخراجه عن مساره الأصيل. فإذا ما رَجعنا إلى كتاب التّعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية وهو دستور من دساتيرها، الأرقام (2357-2359) نجد أن الكنيسة تعلّم بمنتهى الوضوح، إلى أنَّ المثليّة واقتران الأشخاص من الجنس ذاته هو بمثابة فساد خطير، وإلى أنّ هذه الأفعال منحرفة في حدِّ ذاتِها، كونها تتعارض مع الشّريعة الطّبيعية أي مع إرادة الله. ولا يمكن الموافقة عليها في أي حالٍ من الأحوال.
ثانيًا: إنّ الكنيسة في تعليمها وسلوكها تأخذ من المسيح قدوةً ومثالًا. ففي تعامله مع الخطأة (المرأة السامرية/ يوحنا 4، المرأة الزّانية/ يوحنا 8، زكّا العشار/ لوقا 19)، أَعطانا درسًا في كيفيّة معاملة الخاطئ بالرّحمة، والنّظر إليه بقلب الشّفقة. فالمسيح، الّذي ما جاء ليدعو الأبرار بل الخاطئين (مرقس 17:2ب) من مبدأ أن: "ليس الأصحّاء بمحتاجين إلى طبيب بل المرضى" (مرقس 17:2أ)، لم ينبذ الخطأة إنّما نبذَ خطيئتهم، وَحَثَّهم على العدول عن شرّهم، والتّوبة عن معصيتهم، إذ قال للخاطئة: "إذهبي ولا تعودي بعد الآن إلى الخطيئة". (يوحنّا 11:8).
ثالِثًا: من هنا يجب أن نُميّز أَنّ قبولَ الخاطئ، انطلاقًا من مثال السّيد المسيح، في تعامله مع الخاطئ، لا يعني قبولًا بخطيئة، وتشريعًا لما يأتيه من أفعال وسلوكيّات. فهناك بون شاسع بين قبول الخاطئ من جهة، وبين شَجبِ سلوكه السّيء من جهة أخرى. فالمسيح بارك الخاطئ ولم يُبارِك خطيئته، بل أوصاه ألّا يعود إلى الخطيئة، رفضًا منه للخطيئة لا لشخص الخاطئ.
رابعًا: وإن كان المسيح لم يمسك حجرًا كغيرِه من اليهود، ليرمي به زانية مع أنّها أُخذِت في الزّنى المشهود، فلماذا، نحن الّذين بالإثمِ وُلِدنا، وفي الخطيئة حَبِلَت بنا أمهاتنا (مزمور 7:51)، لا نكف عن مسك الحجارة والصّخور والمنجنيقات لندكَّ ولنرميَ ولنرجم بها بعضنا بعضا. أين هي الرحمة في نظرتنا لبعضنا البعض؟! ألا يكفي العالم ما فيه من قسوة، حتّى نكون نحن أيضًا، كمؤمنين وكأتباع للمسيح، قساة القلوب غلاظ الرّقاب؟!
خامسًا: الفاتيكان دولة صغيرة جغرافيًّا، إلا أنه يشرّع قوانين أخلاقية ودينية لما يناهز 1.33 مليار كاثوليكي. وهو قوّة الاقناع الأوسع على مستوى العالم. والكنيسة الكاثوليكية كنيسة عريقة ذات تنظيم احترافي عالي تتعلم منه سائر دول العالم ومؤسّساتها. فلا أعتقد أن الفاتيكان والكنيسة الكاثوليكية، قد بلغ بها الغباء والّلاوعي حتى تُصدِرَ، من خلال شخص قداسة البابا، هكذا تصريحات غير مسؤولة، تنسف العقيدة، وتحطّم التّعليم، وتثير البَلبَلة، وتزرع الانقسام، وتحثّ على الفساد، والأهم من ذلك تُدمّر منظومة العائلة.
سادسًا: لذلك قبل اصدار الأحكام جُزافًا، لا بدّ من قراءة متعمّقة متأنّية، ليسَ فقط لأجزاءٍ مقتبسة ومقاطع مقصوصة وُضِعت في هذا الفيلم الوثائقي، إنّما لمجمل تعاليم البابا فرنسيس. أمّا هذا الفيلم والّذي جاء بعنوان (فرانشيسكو)، فقد نُشِرَ يوم الأربعاء 21 تشرين أوّل 2020، بمناسبة عيد ميلاد مخرجِه، الصحفي يفغيني أفينيفسكي، وهو صحفي من أصل روسي.
سابعًا: قداسةُ الحبر الأعظم لم يُغيّر مضمون العقيدة، المتّفق عليها بوحي من الرّوح القدس. فالعقيدة الكاثوليكية هي هي لم تتغيّر. وهنا أرجع إلى ما قالَه آنذاك الكردينال جوزيف راتسنغر/ البابا الفخري بندكتوس السّادس عشر، في العام 2003، يوم كان رئيس مجمع العقيدة والإيمان، إذ عبّر في وثيقة صادرة عن المجمع، عن تعليم الكنيسة الرّاسخ، في هذا الشّأن، قائِلًا: (احترام المثليين جنسيًا، لا يمكن أن يؤدّيَ بأيّ شكل من الأشكال، إلى الموافقة على السّلوك المثلي، أو إلى الاعتراف القانوني بالارتباط بين مثيلي الجنس).
والاحترام، لا يعني القبول أو الموافقة، بقدر ما هو مبدأ إنساني بديهي، وأبجدية من أبجديات التّعامل البشري، خصوصًا احترام مَن يخالفني الرّأي، دون أن أقبلَ أو أن أوافقَ على ما يأتيه. وهي أبجدية لا يزال كثيرون يجهلون نُطقَهَا! كون الاحترام في مجتمعاتنا العربية يعني التّبعية العمياء، دون القبول بأدنى شكل من النّقاش أو المعارضة.
ثامِنًا: في العام 2010 كانت الأرجنتين تخوض نقاشًا شعبيًّا حول قانون يجيز زواج المثليين وَتَبنّيهم للأطفال. حينها، كان الكاردينال بيرغوليو (فرنسيس) رئيسًا لأساقفة بيونس أيرس، وأعرب علانية وبكلِّ وضوح عن رفضِه وتوجّسه من إجازةِ هذا القانون، إذا رأى فيه تهديدًا جسيمًا يؤذي المنظومة الأسرية الطّبيعية، وهي منظومة إنسانية قائمة منذ البدء، لا تتكوّن إلّا مِن ارتباط رجل وامرأة، في الزّواج. كما ويحرم الأطفال من نموٍّ طبيعي في كنف أسرة طبيعية، لا تكتمل إلا بعنصري الأبوّة والأمومة. وخلاف ذلك، فهو تعدٍّ خطير، لا يُقبل بأي شكل من الأشكال.
تاسعًا: في المقطع المقتبس في الفيلم الوثائقي، قال البابا: "الأشخاص مثلِيّو الجنس لهم الحق في أن يَكونوا في عائِلة. هُم أبناء الله". نعم هم كغيرهم أبناء الله، هم مدعون للخلاص أيضًا، فالمسيح مخلّص جميع البشر دون استثناء. وهذا التّصريح لا يخالف العقيدة المسيحية ولا تعليم الكنيسة الأخلاقي. فَمن الّذي أَفتى بأنَّ أبناء الله هم مواطنو مدينة فاضلة، أو مجتمع ملائكي من الأبرار والقدّيسين الأطهار؟! نحن على كثرتنا مجبولون بالخطأ، متسربلون بالضّعف، فكلُّ بني آدم خَطَّاء.
وإن كان انحرافُ البعض في ميلهم الجنسي، وهو أحيانًا كثيرة انحراف غير مقصود ولا ذنب لهم فيه، إذ ينجم عن ظروف فسيولوجية وهرمونية وعقلية ونفسية ومجتمعية، وغيرها من أسباب لم تُفهَم بعد، يُعدُّ خطيئة في نظر المجتمعات، فماذا إذًا نقول في الخطايا الصّادرة عن سبق إصرارٍ وترصّد، من كبرياء وتجديف وزّنى وخيانات بالجملة، وطمع وسرقة ونصب واحتيال، وغش وكذب ونفاق وظلم ووحشية...إلخ
عاشرًا: في أثناء رحلة العودة من إيرلندا إلى روما عام 2018، أدلى البابا بتصريح أمام الصّحفيين قال فيه بأن على العائلات الكاثوليكية الاعتناء بأبنائهم المثليّين، وتجنّب نبذهم واحتقارهم من العائلة. هم بحاجة إلى عناية واهتمام فائقين. وهذا أمر طبيعي لا خلاف فيه. فمن منّا إذا كان عنده ولد أو بنت، فيه عيب أو إعاقة، يرميه في الشّارع؟! طبعًا هنا لن أخوض في قضايا الأهل، الّذين مع كل أسف، يبادرون إلى ارتكاب جرائم مروّعة، في حقّ بناتهم بالخصوص، رميا بالرّصاص أو سحقًا للجماجم. تحت مسمّيات مُتداعية أشد جُرمًا من الفِعل نفسه.
حادي عشر: قَداسَتُه لم يَقُل أنّ للمثليين الحق في الزّواج بالمعنى المسيحي الكنسي للكلمة، أو أن يكون لهم أولاد كأي زواج عادي. قداسة البابا في مقابلة أجريت في عام 2019، وتمَّ بثّها في الفيلم قبل أيام معدودة، تحدّث عن الاتّحاد المدني الّذي يجري بين المثليّين، وهو بالمناسبة اتّحاد منتشر ومشرّع مدنيًّا في عشرات الدّول. وعن ضرورة إيجاد قانون (مدني) يضمن حقوق هؤلاء الأشخاص، وليس عن تشريع زواجهم. قداسته استخدمَ كلمة (اتّحاد/ Union)، ولَم يستخدم كلمة (زواج/ Marriage). فالبابا في مقابلته لم يُشرّع زواج المثليين، كون الزّواج يعني فقط ارتباط رجل وامرأة.
أمّا عن المثليين فقد أَسماه اتحادا مدنيا في المجتمعات الّتي تقبل بهذا الأمر. البابا قال أنّ من واجب تلك المجتمعات، وضع تشريع يضمن حقوق هؤلاء كمواطنين ضمن الدولة. فالمثلي يبقى مواطنا له حقوق، ولا يجب نبذه واحتقاره لمجرد أنه مثلي. ومن ناحية كنسية هو ابن الله أي مدعو للخلاص. لذلك هو موضع محبة الله ورحمته.
ثاني عشر: هذا الكلام من طرف البابا، لا يجب تفسيره، على أنّه تمهيد لتغيير نظرة الكنيسة الكاثوليكية لهذا الأمر، أو قبول من طرف البابا لميول المثليين ووضعهم. بقدر ما هو نظرة رحيمة من طرف الكنيسة لجميع الأشخاص، وسعيا منها لإيجاد حلول تُنهي، ولو جزءًا مِن معاناتهم، دون المس أو التّنازل عن التّعليم والعقيدة.
وهذا ما عبّر عنه عميد مجمع دعاوي القديسين، المطران مارتشيلو سيميرارو، إذ صرّح بأنّ قداسة الحبر الأعظم: (لا ينفتح بأي حال من الأحوال على الزواج بين مثليي الجنس. فالبابا يعلم جيدًا أنه لا يمكن أن يكون هناك خلط بين الأسرة التي يريدها الله، وهي الاتحاد بين الرجل والمرأة، وأي نوع آخر من الاتحاد).
ثالث عشر: من أشكال عبقرية الكنيسة والمسيحية المثاقفة (Enculturation). فقد استطاعت أن تنخرط في ثقافات الشّعوب ولغاتِهم وعاداتِهم، مهذّبة ما يجب تهذيبه، ودون أن تغير في جوهر وحقيقة الإيمان. فالمسيحية بشكل عام، والكنيسة الكاثوليكية بشكل خاص هي كنيسة متحرّكة غير متحجّرة ولا أحفورية. وتعمل على وضع الإيمان بصورة تناسب الواقع والمجتمع مُحاوِلَةً تهذيبَهُ، دون المس بجوهر التّعليم الملهَم أو التّنازل عن العقيدة الموحى بها، ودون القبول بالواقع المجتمعي وما فيه من أخطاء. ولذلك هي تجتهد أن تتحدّث بلغة، من جهة لا تخالف حقائق الإيمان والأخلاق، ومن جهة أخرى تحترم الجميع وتحاول أن تجد مخارج للمعضلاتِ الشّائكة.
الكنيسة تدعو إلى معاملة جميع الناس، بالرغم من اختلافاتهم، بكرامة واحترام. ولم يكن الاحترام يومًا تنازلا عن عقيدة أو تخلٍّ عن تعليم. فالله وإن كره الخطيئة، إلا أنه يبقى أبًا محبًّا رحيما، ينتظر عودة ابنه الخاطئ. ومِن هنا أيضًا، الكنيسة كعائلة عليها أن تفتح ذراعيها للتّرحيب بأعضائها جميعًا حتّى من المثليّين، فهم أبناء وبنات الكنيسة بالرغم من وضعهم غير المقبول، وعليها تضمّهم إلى حضنها. وهذا يظلّ أفضل من نبذهم ورميهم وطردهم خارج البيت. ولطالما كان القبول والاهتمام عنصر شفاء، لكثير من العُقَدِ والمشكلات الإنسانية.
في النهاية يجب أن نُقرّ ونعترف أنّ المثلية صارت ظاهرة منتشرة بِنِسَبٍ متفاوتة، ضِمنَ مجتمعاتنا وبُلدانِنا العربية الشّرقية. وإن ظلت مقموعةً من قبل المجتمعات، وترفض بشكل عنيف، إلّا أنها موجودة. ولكنَّ الحديث عنها يعتبر في عداد المحرّمات. ومع ذلك، هناك مثليون يعيشون حياة بطولة، يرفضون هذه الميول، ويحاولون جاهدين أن يعيشوا عيشة تلاءم الشريعة الطّبيعية الّتي يطلبها الله من كل إنسان. لذلك أذكر نفسي وأذكركم بهذا الحدث الإنجيلي:
وفي ذلِكَ الوَقتِ حَضَرَ أُناسٌ وأَخبَروهُ خَبَرَ الجَليليِّينَ الَّذينَ خَلَطَ بيلاطُسُ دِماءَهم بِدِماءِ ذَبائِحِهِم. فأَجابَهُم: ((أَتظُنُّونَ هؤلاءِ الجَليليِّينَ أَكبَرَ خَطيَئةً مِن سائِرِ الجَليليِّينَ حتّى أُصيبوا بِذلك؟ أَقولُ لَكم: لا، ولكِن إِن لم تَتوبوا، تَهلِكوا بِأَجمَعِكُم مِثلَهم. وأُولئِكَ الثَّمانِيَةَ عَشَرَ الَّذينَ سَقَطَ عَليهِمِ البُرجُ في سِلْوامَ وقَتَلَهم، أَتَظُنُّونَهم أَكبرَ ذَنْباً مِن سائِرِ أَهلِ أُورَشَليم؟ أَقولُ لكم: لا. ولكِن إِن لم تَتوبوا، تَهِلكوا بِأَجمَعِكُم كذلِكَ)) (لوقا 1:13-5).
والله من وراء القصد