موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢٦ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٤
الأب رفعت بدر يقدّم مداخلة حول المنظور المسيحي لفيروس نقص المناعة البشريّة
خلال أعمال "المؤتمر الوطني الثاني للاستجابة لفيروس نقص المناعة البشري والصحة الإنجابيّة والجنسيّة"

أبونا :

 

انطلقت اليوم الثلاثاء، أعمال "المؤتمر الوطني الثاني للاستجابة لفيروس نقص المناعة البشري والصحة الإنجابيّة والجنسيّة"، والذي افتتحه رئيس لجنة الصحة والبيئة والسكان في مجلس الأعيان، الدكتور ياسين الحسبان، مندوبًا عن رئيس مجلس الأعيان فيصل الفايز.

 

وتقام خلال المؤتمر جلسات علمية مُتخصصة على مدار يومين، يُشارك فيها خبراء دوليين ومحليين يناقشون عدد من القضايا المُتعلقة بالصحة الإنجابية، وفيروس نقص المناعة، والمنهجيات الحديثة في الوقاية والعلاج، بهدف تعزيز التعاون بين الشركاء لتحقيق تقدم في الوقاية والعلاج، وزيادة الوعي والتثقيف حول الصحة الإنجابيّة والجنسيّة، وتحسين الخدمات وتقليل التمييز والوصمة.

 

توعية بالمرض.. ودعم للمصابين

 

وخلال الجلسة الأولى التي حملت عنوان: "التماشي مع الأديان والحقوق"، قدّم الأب د. رفعت بدر، مدير المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام، مداخلة تمحورت حول "المنظور المسيحي لفيروس نقص المناعة البشريّة: توعيّة بالمرض ودعم المصابين".

 

وأوضح الأب بدر أنّ الكنيسة تتخذ من الكتاب المقدّس وتعاليمها الأخلاقيّة، كنقطة انطلاق في تعاملها مع فيروس نقص المناعة البشرية أو الإيدز. إلا أن هذا لا يعني أن الأشخاص المصابين به يمكن "إدانتهم" أو التمييز ضدهم أو إطلاق وصمة اجتماعية في حقهم. فدعوة الكنيسة وتعاليمها الأخلاقيّة لمؤمنيها لكي يعيشوا حياة أخلاقيّة، فإنها من جانب آخر تدعو إلى المغفرة وتبشّر بالمحبة والرحمة، لا بل تعمل أيضًا على دعم الأشخاص الذين يتعايشون مع فيروس نقص المناعة البشريّة.

 

وأكد الأب بدر أنّ الوصم يتعارض مع جوهر الحياة المسيحيّة المتمثلة في وصيّة المحبّة: "أحبب الرب إلهك بكل قلبك، وكل نفسك، وكل قوتك، وكل ذهنك وأحبب قريبك حبك لنفسك" (لوقا 10: 27).. فالسيد المسيح تعاطف مع المهمشين والمنبوذين في مجتمعه، مثل المصابين بالجذام والفقراء والمرضى والعشارين... وبشّر بالمحبة للجياع والسجناء والمرضى كطريقة عملية لمحبة الله تعالى.

الكنيسة في الجبهة الأماميّة

 

ولفت مدير المركز الكاثوليكيّ للدراسات والإعلام إلى أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة كانت في الجبهة الأماميّة أمام هذا المرض "كمستشفى ميداني"، وبحسب ما يدعو إليه دائمًا قداسة البابا فرنسيس، فالإحصاءات تشير إلى أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة هي أكبر مقدّم رعاية خاص لمرضى الإيدز، حيث تقوم المنظمات الكاثوليكيّة المتعدّدة بتوفير أكثر من ربع العلاج المقدّم عالميًّا لهؤلاء المرضى.

 

كما أشار إلى أنّ الفاتيكان قام بإنشاء العديد من المؤسّسات لتقديم الخدمة الرعوية للعاملين في المجال الصحي، وذلك لإظهار اهتمام الكنيسة بالمرضى ولنشر التعاليم الروحيّة والأخلاقيّة للمرض ومفهوم المعاناة البشريّة. كما أعلنت الكنيسة الكاثوليكيّة القديس لويس غونزاغا ليكون شفيعًا للمصابين بالإيدز ومقدمي الرعاية لهم، وهذا مرّده بأنّه حتى لو لم نتفق مع اختيار أسلوب حياة شخص ما، دينيًّا أو فكريًّا أو اجتماعيًّا، فهذا لا يعفينا من ممارسة الرحمة والشفقة، وأن نكون أداة لمحبّة الله.

مبادرات ملموسة

 

وهنا استذكر الأب بدر ببعض الأمثلة العمليّة، لاسيما لقاء البابا يوحنا بولس الثاني مع المصابين بالإيدز خلال زيارته الرسوليّة إلى مدينة سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة في أيلول 1987، حيث قال في خطابه في البازيليك المكرسة للعذراء أم الأحزان: "الله يحبكم! الله يحبكم جميعًا، بلا تمييز، بلا حدود... إنه يحب المرضى منكم، الذين يعانون من الإيدز ومن العقدة المرتبطة بالإيدز. إنه يحب أقارب وأصدقاء المرضى وأولئك الذين يعتنون بهم. إنه يحبنا جميعًا بحب غير مشروط ودائم".

 

وأشار أيضًا إلى أنّ الأم تريزا، وفي نفس الفترة تقريبًا، بدأت في فتح المستشفيات لرعاية مرضى الإيدز، وفي تقديم خدمة لم يرغب في القيام بها إلا عدد قليل من الأشخاص في ذلك الوقت. كما قام البابا فرنسيس، عندما كان رئيس أساقفة بوينس آيرس بالأرجنتين، بغسل أقدام 12 مصابًا بالإيدز يوم خميس الأسرار عام 2001. وعلى هامش ترؤسه أيام الشبيبة العالميّة في بنما عام 2019، التقى قداسته مع المصابين بهذا المرض، وأكد في خطابه على دور الكنيسة كـ"علامة على رحمة الله وحنانه الملموس"، منتقدًا "اللامبالاة التي تقتل"، وخوف الآخر من أخيه بسبب "التنجيس، أو الازدراء أو الاشمئزاز الاجتماعي".

ماذا تقول الكنيسة؟

 

ولفت الأب بدر إلى أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة تنظر إلى فيروس نقص المناعة البشريّة كمرض يجب أن يستجيب المجتمع له بطريقة تتفق مع أفضل المعلومات الطبيّة والعلميّة المتاحة، كما عليه مسؤوليّة في التضامن مع أولئك المعرّضين لهذا المرض أو الذين يعانون منه والتواصل معهم بعطف، وتقديم الرعاية الروحيّة والخدمات الطبيّة والاجتماعيّة والدعم لأسرهم وأصدقائهم.

 

لكن مع جهة ثانيّة، أكد الأب بدر أنّ الكنيسة ملزمة بتقديم عرض واضح للتعاليم الأخلاقيّة فيما يتعلّق بالجنس. وبينما هي توضح بأنّ التمييز أو العنف الموجه ضد الأشخاص المصابين بالإيدز هو أمر عادل وغير أخلاقي، فإنّها تدعو إلى تطوير برامج تعليميّة لمنع انتشار المرض، وتتضمن فهمًا أصيلاً للعلاقة الحميمة بين البشر. كما أنّها تنتظر من أولئك الذين تعرّضوا للفيروس، سواء تم اكتسابه من خلال نقل دم ملوث، أو ممارسة الجنس، أو تعاطي المخدرات، بألا يسببوا الأذى للآخرين.

ست رسائل

 

وخلص الأب بدر مداخلته بتقديم ست رسائل: الأولى كانت إلى المصابين، وهنا تم التشديد على مسؤوليّة الفرد تجاه نفسه وتجاه مجتمعه. أما الرسالة الثانيّة فكانت موجهة إلى المجتمعات المسيحيّة لكي يُعزّز فهم المنظور المسيحي لسر الزواج المقدّس القائم على المحبّة والإخلاص والإيمان، ولكي تبذل الجهود الرعوية لتعزيز استقرار العائلة وتربية الأطفال على فهم صحيح للسلوك الجنسي باعتباره "هبة من الله"، وعلامة حيّة على العطاء الذاتي داخل إطار مؤسّسة الزواج. ومن ناحيّة ثانيّة، لكي تبقى الكنيسة حاضنة للمصابين ومرّحبة بهم باعتبارها صورة للسيد المسيح العطوف والرحوم.

 

الرسالة الثالث كانت إلى الحكومات لكي تتمكّن من تعزيز الصحة العامة لشعوبها على أسس المسؤوليّة والتضامن والعدالة، ولكي تستمر الجهود لمنع انتشار الفيروس. أما الصناعات الدوائيّة، فوجه الأب بدر رسالته الرابعة، لكي تتمكّن من تسهيل الوصول إلى الأدوية حيث لا يزال في بعض الأحيان مكلفًا وحصريًّا لفئة من الناس. والرسالة الخامسة كانت إلى العلماء والعاملين في مجال الرعاية الصحيّة، لكي يتمكنوا من تجديد سعيهم من أجل الوصول إلى أدوية قادرة على وقف هذا المرض.

 

أما الرسالة السادسة والأخيرة التي وجهها مدير المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام، فكانت إلى وسائل الإعلام، لكي تزوّد الجمهور بمعلومات شفافة وصريحة وصادقة حول هذه الآفة، وطرق الوقاية منها، ولكي تعمل على محاربة أشكال الوصم الاجتماعي من خلال تثقيف العامة، فينظر إلى هذا المرض كمشكلة اجتماعيّة يمكن التعامل معه عندما يغيّر الناس تحيّزاتهم ومواقفهم وأنماط حياتهم ومخاوفهم.