موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر الخميس، ٦ يناير / كانون الثاني ٢٠٢٢
الأب الياس كرم يكتب: جردة حساب بشرية

الأب الياس كرم :

 

ورد في سفر المزامير: "أَنَّ أَلْفَ سَنَةٍ فِي عَيْنَيْكَ مِثْلُ يَوْمِ أَمْسِ بَعْدَ مَا عَبَرَ، وَكَهَزِيعٍ مِنَ اللَّيْلِ"(مز 90: 4). إن كان شعب الله يعيش ألف سنة في الخطيئة، فالله يطيل أناته عليه، وعندما يتوب شعبه يفرح به، بل يعتبر الألف سنة كيوم واحد. الله ليس كالبشر. الإنسان يميل إلى نسيان كلّ حسنات أخيه ويتذكّر آخر خطأ لأخيه. أمّا الله فهو ينسى كلّ خطايا الإنسان ويرى آخر توبة. فمهما آثمنا وخطئنا الله فاتحٌ لنا باب الرحمة والمغفرة والعتق من الخطايا اذا سلكنا طريق التوبة، لأنه واهب الحياة، ولذلك السنوات لا تعد في الحسبان في عيني الله.

 

مع بداية كل عام يستعرض معظمنا شريط الأحداث التي خبرها خلال السنة الفائته في دقائق، في حين أن مجرد التفكير بالغد ووضع مشاريع مستقبلية، نشعر بالرهبة والدقائق نحسبها أيام.

 

ومع كتابة هذه السطور أخذني المشهد إلى المؤسسات التي تقوم بجردة عند انتهاء كل عام، فهل نحذو حذوهم على الصعيد الشخصي، لكي نعرف ما جنيناه وخسرناه، ليس فقط ماديًا إنما معنويًا وروحيًا.

 

قلّة من الناس تحاسب نفسها عن أي عملٍ صالح لم يبادروا إليه، وكم من مبادرة إنسانية تجنبوها، وكم من إحسانٍ لم يفعلوه. معظمنا لا يُقدم على سؤال نفسه ما اذا كان الله راضيًا عنه؟ فالطبيعة البشرية تستقبل عام وتودّع عام، وكأن الله خارج الحسابات، وتتعامل معه "غبّ الطلب".

 

معظمنا يسعى لأن يستقبل العام الجديد ببهجة وفرح، سواء بالحفلات الموسيقية الصاخبة او المآدب الفاخرة، وعلى الرغم من كل الأوضاع الإقتصادية السيئة، الناس بادرت إلى استقبال العام الجديد بما اعتادت عليه في السنوات السابقة، متخطّين مخاطر الكورونا وارتفاع الأسعار، بغية أن تكون سنتهم الجديدة على غرار استقبالها، ناسين أن الفرح ليس بالماديات إنما بالسلام المسكوب عليهم من العلاء.

 

هلّ فكّر أحدٌ منّا أن يكون الله هو أوَّل مَن نتحدَّث إليه في العام الجديد، أفرادًا أو مجتمعًا. هل فكّر أحدنا أن الأهم في العام الجديد، أن يكون جديدًا في أسلوب حياتنا، وليس في مُجرَّد التقويم بأن نستخدم رقم ٢٠٢٢ بدلًا من ٢٠٢١... بحيث نشعر فيه أن حياتنا قد تغيَّرت إلى الأفضل، سواء الظاهر منها في معاملاتنا، أو ما يخص قلوبنا وأفكارنا.. فهل تشعر فعلًا أيها القارئ العزيز بهذه الجدة في حياتك، وأنك من بداية العام الجديد قد قُمت بتصحيح بعض نقاط في تصرفاتك، كان يلزمها أن تتغيَّر... أم أنت كما أنت؟!.

 

من أولى واجباتنا في العام الجديد أن نشكر الله على كل شيئ، متذكرين أن "كل عطية صالحة وكل موهبة كاملة هي منحدرة من العلو، من لدن أبي الأنوار". فلنبادر مع بداية العام لشكر الله على إحساناته الكثيرة معنا أو مع مَن نحب، وننحني إجلالًا لوجهه، في حين أن وجوه معظمنا إختفت خلف قناع، فرضه وباء خبيث. وهذا تمرينٌ إلى أن وجوهنا إلى التراب والنسيان، أما وجه الله فيبقى إلى الأبد.

 

مع بداية كل عام نحن مدعوون أن نجرّد أنفسنا ونعرف ما اقترفناه من أخطاء بحقّها وبحق الآخرين. وأن لا نجامل أنفسنا ونتغنى بإنجازاتنا، بل نفحص أنفسنا على ضوء ما سمعناه من ملاحظات وانتقادات طالتنا، ونرى كيف نسير وإلى أين المصير؟.

 

فلنطرح على أنفسنا مع بداية هذا العام جملة أسئلة، حول ضعفاتنا وملامة الناس لنا، ونقاوة أفكارنا ومشاعرنا وطهارة قلوبنا؟ وهل تصرفاتنا كانت بلا عيب؟.

 

هل طرحنا على أنفسنا سؤالًا حول متانة علاقتنا بالله؟ وعمّا إذا كانت علاقة شكلية ظاهرية روتينية نهتم فيها بالمظهر فقط، أي نعبد اللَّه بشفتينا أمَّا قلبنا فمُبتعد عنه بعيدًا؟ هل عندنا الجرأة مع بداية هذا العام أن نسأل أنفسنا عن مدى التزامنا بالصلوات والأصوام والأعمال الحسنة؟ هل بحثنا في حياتنا عن الفضائل التي اكتسبناها السنة المنصرمة؟ وعن سعينا لتثبيتها! لا سيما نقاوة القلب والفكر والوداعة والهدوء والتواضع، وفضيلة العطاء والعفة والنزاهة والصدق والآمانة في العمل والحياة. هل طرحنا على أنفسنا إن كانت سيرتنا مستقيمة وغير ملتوية؟.

 

نحن مدعوون قبل كل شيئ أن نحكم على أنفسنا قبل أن يحكم الغير علينا. على أن كشف النفس ولوم النفس، ينبغي أن يصحبهما أيضًا تقويم لها، أي إصلاحها. فاحيانًا كثيرة لا نقبل توبيخ الآخرين لنا، لذا فلنبادر إلى توبيخ أنفسنا مع مطلع هذا العام حتى تكون لنا أيامًا أفضل وأحسن، وهكذا لا نُحرَج، ونقبل عندها التوجيه من ضمائرنا قبل أن نسمعها بألسنة الناس.

 

مع بداية العام اسأل الله أن يحملنا إلى درب التوبة الصادقة والنابعة من القلب والعقل معًا، وعندها فقط تصير السنوات مكلّلة بالمجد السماوي لا بالمجد الأرضي الزائل. وفي المناسبة أستعير من الليتورجيا الأرثوذكسية بعضًا مما تتّلوه من دعاء في بداية السنة الكنسيّة، لأسكبه على السنة المدنية، علّنا نرددّه في مسار هذه السنة: "بارك بنعمتك الإلهية هذه السنة، واجعلها سنة خير باعتدال الفصول، ووفرة غلال الأرض، وانتظام الرياح. وأعطنا أن نجوز السنة المقبلة بسلام ووئام، متزينين بإكليل الفضائل، وسالكين بنور وصاياك كأبناء للنهار. واحفظ كنيستك المقدّسة بسلام، واعضد بقدرتك حكامنا وهبهم سلاماً وطيداً لا ينتزع. هذّب الأحداث، شدّد الشيوخ، إجمع المتفرقين...". ونصلّي أيضاً من أجل نجاتنا من كل وباء وضيق وغضب وخطر وشدة، ومن الحروب والكوارث وأن يرسل سلامه إلى وطننا لبنان والعالم أجمع. فلنطرح عنّا كل إهتمام دنيوي، لكي إذا ما وافتنا المنية، نكون على إستعداد لملاقات وجه الله.

 

على هذا الرجاء والدعاء، استودعكم الله وكلمته، في مطلع هذا العام، علّنا نتّعظ ونسير في بركاته، وعندها سنصمد ونواجه ونتحدى كل الأعداء المنظورين وغير المنظورين، آمين.

 

(النشرة اللبنانية)