موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
نحتفل اليوم بعيد قلب يسوع الأقدس، الذي حُدّد يوم الجمعة الذي يلي الأحد الثاني بعد العنصرة (أحد جسد المسيح). وفي هذه السنة طعم خاص لهذا العيد، فهو ذكرى مرور 350 سنة على ظهورات السيّد المسيح مع قلبه الأقدس، مع البابا لاون الذي اتخذ اسم البابا الذي عام 1899 كرس العالم كله لقلب يسوع .
ولمن يظن أن عبادة قلب يسوع الأقدس هي تقوى شعبية حديثة، سيتفاجأ أنّها ذات جذورٍ تاريخيةٍ عميقةٍ في المسيحيّة. إذ علينا التمييز بين تاريخ إدراج العيد كاحتفال كنسي في التقويم (الرزنامة) الروماني العام للكنيسة منذ سنة 1856 وبين أصل العبادة وتطورها ونضوجها على مدى القرون.
في الحقيقة، وجدت عبادة قلب يسوع الأقدس أصلها مع ابتداء الكنيسة المقدّسة عينها، ونشأت عند أقدام الصليب. وكانت مريم العذراء هي أول من سجدَ لهذا القلب المطعون لأجلنا. ثم إن يسوع المسيح من بعد قيامته ظهرَ لتلاميذه المجتمعين وأراهم جرح جنبهِ، وأمر توما بأن يضع فيهِ أصبعه.
ومن ثُمَ راح آباء الكنيسة وقديسو العصور الأولى وما بعدها يتعمّقون في بحر هذه العبادة، فرأوا في قلب يسوع المطعون لأجلنا رمزاً لمحبة الله. ومن بين هؤلاء نذكر أوريجانوس والقديس أمبروزيوس، والقديس إيرونيموس، والقديس أغسطينوس، والقديس هيبوليتوس الروماني، والقديس إيريناوس، والقديس يوستينوس النابلسي الشهيد، والقديس كبريانوس.
وفي القرن الحادي عشر، وجدت هذه العبادة تجدّدًا في كتابات الأديرة النسكية البيندكتية والسسترسية مع القديس برناردس وهيرمان جوزيف الذي يعتقد أنه كتب أول ترنيمة معروفة لقلب يسوع الأقدس، "Summi Regis Cor Aveto"، "أُحييك أيها القلب الملكي الأسمى".
وفي القرن الثالث عشر، نجد هناك انتشارًا فرديًا وجماعيًا لهذه العبادة وبخاصة بين الرهبنات الجديدة (الفرنسيسكانية والدومينكانية). وكان بطل هذه العبادة القديس الفرنسيسكاني بونافنتورا. ففي كتابه "Vitis Mystica" (الكرمة الصوفية)، نقرأ: "من ذا الذي لا يحب هذا القلب الجريح؟ من ذا الذي لا يحب بالمقابل من يحبه حبًا جمًا؟". وفي تأمله لفرض قرءاءت العيد "معك ينبوع الحياة" يُشير إلى قلب يسوع باعتباره الينبوع الذي لا ينضب ومنه ينسكب حب الله على العالم.
وفي نهاية القرن الثالث عشر، رأت القديسة جيرترود، في عيد القديس يوحنا الإنجيلي، رؤيا سُمح لها فيها بإراحة رأسها قرب جرح جنب المخلص. سمعت دقات القلب الإلهي، وسألت يوحنا إن كان قد شعر هو أيضًا بدقات القلب هذه ليلة العشاء الأخير، فلماذا لم يُخبرنا بذلك؟ أجاب يوحنا أن هذا الكشف بقي محفوظاً للعصور اللاحقة عندما يبرد العالم، فيحتاج إلى إعادة إشعال محبته.
في القرنين السادس والسابع عشر، تجدّدت هذه العبادة واعتُمدت في أماكن جديدة، وخاصةً بعد الظهورات للقديسة مارغريت ماري ألاكوك الي تلقّت عدة رؤى خاصة عن القلب الأقدس، عرّفها يسوع خلالها على أسرار قلبه الأقدس وحبّه الإلهي اللامحدود للبشرية وشكى لها عدم تقدير البشر لمحبة قلبه لهم. فطلب منها أن تقوم بأمرين تجاه قلبه الإلهي: التناول كل أوّل جمعة من الشهر، وتخصيص ساعة سجود كل خميس مساء، في ذكرى عذاباته في الجسمانية.
ثم طلب يسوع من مارغريت ألاكوك تعيين عيد لقلبه الأقدس، وقد نشره البابا بيوس التاسع في جميع أنحاء الكنيسة الكاثوليكية عام 1856. وكان الهدف من هذا العيد هو التعويض عن الاعتداءات المرتكبة ضد القربان المقدس والقلب الأقدس. وعد يسوع بالكثير من النعم السماوية لمن سيلتزم بتكريم قلبه وبالعبادة أيام الخميس وأوّل جمعة من الشهر. وقد شجع اليسوعيون والفرنسيسكان هذا التعبد الذي نشر تيارًا قويًا من التقوى بين المؤمنين.
في أواخر القرن التاسع عشر، تلقت الراهبة الألمانية الأخت مريم للقلب الإلهي رسالة من السيد المسيح، رفعتها لقداسة البابا لاون الثالث عشر التي قادته إلى إصدار الرسالة العامة "اليوم المقدس" عام 1899، ودعا فيها إلى "تكريس البشرية جمعاء لقلب يسوع الأقدس" في 11 حزيران 1899. ووصف البابا لاون لاحقًا ذاك التكريس الإحتفالي بأنه "أعظم عمل في حبريتي".
في ذكرى المئوية الأولى لعيد قلب يسوع الأقدس 1856-1956، أصدر البابا بيوس الثاني عشر رسالة عامة مميزة بعنوان"Haurietis aquas" : "تستقون المياه"؛ وهي استشهاد بآية أشعياء 12:3، التي تُشير إلى وفرة النعم الخارقة للطبيعة التي تتدفق من قلب المسيح. ودعت الرسالة الكنيسة جمعاء إلى الاعتراف بقلب يسوع الأقدس كبُعد مهم من أبعاد الروحانية المسيحية.
وفي الذكرى الـ150 لعيد قلب يسوع وجّه البابا بندكتس السادس عشر رسالة بتاريخ 15 أيار 2006، يقول فيها: "بتشجيعنا على العبادة لقلب يسوع، نحثّ المؤمنين على الانفتاح على سرّ الله ومحبته، وأن يسمحوا لأنفسهم بالتغيير. لا يزال من واجب المسيحيين مواصلة تعميق علاقتهم بقلب يسوع، بطريقة تُحيي إيمانهم بمحبة الله الخلاصية، ويرحبون به في حياتهم بشكل أفضل".
وقال مستشهدًا بالبابا يوحنا بولس الثاني: "في قلب المسيح، يتعلم قلب الإنسان أن يعرف المعنى الحقيقي والفريد لحياته ومصيره، وأن يفهم قيمة الحياة المسيحية الأصيلة، وأن يحفظ نفسه من بعض انحرافات القلب البشري، وأن يجمع بين حب الله الأبوي وحب القريب". وكذلك كتب في الرسالة العامة "الله محبة": "من قلب يسوع، تنبع المعرفة الحقيقية ليسوع المسيح، وتجربة أعمق لمحبته".
وبمناسبة الاحتفالات بالذكرى الـ350 لظهور قلب يسوع الأقدس للقديسة مارغريت ماري ألاكوك، والتي ستُختتم في 27 حزيران 2025، كان البابا الراحل فرنسيس قد نشر رسالة بابوية بعنوان Dilexit nos: (لقد أحبنا). تستعيد الرسالة تقليد وآنيّة الفكر "حول الحب البشري والحب الإلهي لقلب يسوع المسيح".
وتدعونا الرسالة لكي نجدّد عبادته الأصيلة لكي لا ننسى حنان الإيمان وفرح وضع ذواتنا في الخدمة وحماس الرسالة: لأن قلب يسوع يدفعنا لكي نحب ويرسلنا إلى الإخوة... إنّ "محبّة الرّب التي يمكنها أن تنير مسيرة التجديد الكنسي، يمكنها أيضًا أن تقول شيئًا مهمًّا لعالم يبدو أنه قد فَقَد قلبه".
وأرغب أخيرًا أن أتوقّف عند عبادة قلب يسوع والرحمة الإلهيّة. فقد ذكّر البابا فرنسيس بأن خبرة القديسة فاوستينا كوفالسكا أعادت طرح عبادة قلب يسوع "من خلال التركيز بشكل كبير على حياة الرب القائم المجيدة ورحمته الإلهية"؛ وبدافع من هذه التأملات، ربط القديس يوحنا بولس الثاني أيضًا "بشكل وثيق تأملاته في الرحمة الإلهية بالتعبّد لقلب يسوع الذي جذبه منذ شبابه".
وردًا على من يستهينون بتقوى وعبادة المؤمنين لقلب الرب، يكتب البابا فرنسيس بشجاعة "أطلب ألّا يستخفّ أحدٌ من عبارات الحرارة في إيمان شعب الله المقدّس والأمين، الذي يسعى في تقواه الشّعبيّة إلى أن يعزّي المسيح. وأدعو كلّ واحد إلى أن يسأل نفسه أليس في هذه العبادة الشّعبيّة عقلانيّة، وحقيقة، وحكمة أكثر من بعض مظاهر هذا الحبّ الذي يسعى إلى أن يعزّي الرّبّ يسوع بأعمال فيها برود وبُعدٌ وحسابات بشريّة، نقوم بها نحن الذين نزعم أنّ لنا إيمانًا فيه عقلانيّة وعمق ونضج أكثر. (160). ولنتذكر كلمات بولس الرسول بأنّ الله يعزّينا "لِنَستَطيعَ، بما نَتَلقَّى نَحنُ مِن عَزاءٍ مِنَ الله، أَن نُعَزِّيَ الَّذينَ هُم في أَيَّةِ شِدَّةٍ كانَت" (2 قو1، 4)، (162.
أذكّر بأن يوم عيد قلب يسوع هو أيضًا اليوم العالمي للصلاة من أجل تقديس الكهنة. فصلوا لأجل الكهنة لكي يخدموا بمحبة على مثال قلب يسوع الذي أحبنا وبذل نفسه لأجلنا.
يا يسوع الوديع والمتواضع القلب، إجعل قلبنا مثل قلبك