موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
وجّه البابا فرنسيس، الاثنين، رسالة إلى كهنة أبرشيته كتب فيها:
أرغب في أن أبلغكم بفكر مرافقة وصداقة، آمل أن يعضدكم بينما تمضون قدمًا في خدمتكم، بما تحمله من أفراحٍ ومصاعبٍ وآمالٍ وخيباتٍ. نحن بحاجة إلى أن نتبادل نظرات مليئة بالعناية والرحمة، وأن نتعلم من يسوع الذي كان ينظر إلى الرسل بهذه الطريقة، دون أن يطالبهم بجدول زمني يمليه معيار الكفاءة، بل مقدماً لهم الاهتمام والراحة. وهكذا، لما عاد الرسل من رسالتهم متحمسين ولكن متعبين، قال لهم المعلّم: "تعالوا أنتم إلى مكان قفر تعتزلون فيه، واستريحوا قليلاً".
أفكر فيكم في هذه اللحظة التي يمكن أن تكون فيها، بالإضافة إلى النشاطات الصيفية، القليل من الراحة بعد التعب الرعوي للأشهر الماضية. وأود قبل كل شيء أن أجدد شكري لكم: "أشكركم على شهادتكم، أشكركم على خدمتكم. شكرًا لكم على الخير الخفي الكثير الذي تقومون به، شكرًا لكم على المغفرة والعزاء الذي تقدمونه باسم الله [...]؛ شكرًا لكم على خدمتكم، التي غالبًا ما تقومون بها وسط الكثير من الجهد وسوء الفهم وقليل من الثناء". من ناحية أخرى، إنَّ خدمتنا الكهنوتية لا تُقاس بالنجاحات الرعوية (لقد كان لدى الرب أيضًا البعض منها ولكنها كانت تصبح أقل مع مرور الوقت!). في صميم حياتنا لا يوجد حتى جنون النشاطات، وإنما الثبات في الرب لكي نثمر. إنه راحتنا. والحنان الذي يعزينا ينبع من رحمته، من قبول فائض نعمته، التي تسمح لنا أن نمضي قدمًا في العمل الرسولي، وأن نتحمل الإخفاقات والفشل، ونبتهج ببساطة قلب، وأن نكون ودعاء وصبورين، وأن ننطلق ونبدأ من جديد على الدوام، وأن نمُدَّ يدنا للآخرين. في الواقع، إنَّ "لحظات إعادة الشحن" الضرورية لنا لا تحدث عندما نرتاح جسديًا أو روحيًا فقط، وإنما أيضًا عندما ننفتح على اللقاءات الأخوية بين بعضنا البعض: إن الأخوّة تعزّي، وتوفر فسحات للحرية الداخلية ولا تجعلنا نشعر بالوحدة إزاء تحديات الخدمة.
بهذه الروح أكتب إليكم. أشعر أنني أسير معكم وأود أن أجعلكم تشعرون بأنني قريب منكم في أفراحكم وفي آلامكم وفي مشاريعكم وجهودكم وفي مراراتكم وتعزياتكم الرعوية. لكنني أريد بشكل خاص أن أشارككم الرغبة في الشركة، العاطفية والفعالة، بينما أقدّم صلاتي اليومية لكي تُعزز كنيستنا الأم في روما، المدعوّة لكي ترأُس بالمحبة، عطية الشركة الثمينة في نفسها أولاً، وتجعلها تنمو وتنبت في مختلف الحقائق والحساسيات التي تكوِّنها. على كنيسة روما أن تكون نموذجًا للشفقة والرجاء للجميع، مع رعاتها الجاهزين والمستعدين على الدوام لكي يمنحوا غفران الله، مثل قنوات رحمة تروي عطش إنسان اليوم.
والآن، أيها الإخوة الأعزاء، أسأل نفسي: ماذا يطلب الرب منا في عصرنا هذا، إلى أين يوجهنا الروح القدس الذي مسحنا وأرسلنا كرسل للإنجيل؟ في الصلاة يعود هذا الى ذهني: أن الله يطلب منا أن نذهب إلى العمق في الكفاح ضد الدنيوية الروحيّة. لقد عرّف الأب هنري دي لوباك، في بعض صفحات نصٍّ أدعوكم لقراءته، الدنيوية الروحيّة على أنها "الخطر الأكبر للكنيسة - لنا نحن الكنيسة - وأكثر التجارب غدرًا، تلك التي تولد مجدّدًا على الدوام، بشكل ماكر، فيما يتمُّ التغلُّب على التجارب الأخرى". وأضاف كلمات يبدو لي أنها تصيب المعنى: "إذا كانت هذه الدنيوية الروحيّة ستغزو الكنيسة وتعمل على إفسادها من خلال تقويض مبدأها، فسيكون ذلك أكثر كارثية من أي دنيويّة أخلاقية".
إنها الأشياء قد ذكرتها في مناسبات أخرى، لكنني سأسمح لنفسي في أن أعيد التأكيد عليها، معتبرًا إياها من الأولويات: إنَّ الدنيوية الروحية، في الواقع، خطيرة لأنها أسلوب حياة يختزل الروحانية إلى مجرّد مظاهر: تقودنا لكي نكون "أُجراءً للروح"، أشخاصًا تغمرهم أشكال مقدسة لكنّهم يواصلون في الواقع التفكير والتصرف وفقًا لنزعات العالم. يحدث هذا عندما نسمح بأن تفتننا إغراءات الزائل، والضحالة والروتين، وتجارب السلطة والتأثير الاجتماعي. وبأن يفتننا المجد الباطل والنرجسية، والتشدُّد العقائدي والجماليات الليتورجية، الأشكال والأساليب التي تختبئ فيها روح العالم وراء مظاهر التدين والحب للكنيسة، ولكنها في الواقع تقوم على البحث عن المجد البشري والرفاهية الشخصية بدلاً من مجد الله". كيف يمكننا ألا نرى في هذا كله النسخة المحدثة لتلك الشكلية المنافقة التي كان يسوع يراها في بعض السلطات الدينية في ذلك الوقت والتي جعلته خلال حياته العامة يعاني ربما أكثر من أي شيء آخر؟
الدنيوية الروحية هي تجربة "لطيفة" ولهذا السبب هي أكثر مكرًا. فهي في الواقع تنسل وتختبئ خلف المظاهر الجيدة، لا بل حتى خلف الدوافع "الدينية". وحتى لو تعرّفنا عليها وأبعدناها عنا، فستعود، عاجلاً أم آجلاً، بشكل مقنع بطريقة ما أو بأخرى. كما يقول يسوع في الإنجيل: "إن الروح النجس، إذا خرج من الإنسان، هام في القفار يطلب الراحة فلا يجدها فيقول: أرجع إلى بيتي الذي منه خرجت. فيأتي فيجده مكنوسًا مزيَّنًا. فيذهب ويستصحب سبعة أرواح أخبث منه، فيدخلون ويقيمون فيه، فتكون حالة ذلك الإنسان الأخيرة أسوأ من حالته الأولى". نحن بحاجة إلى يقظة داخلية، لكي نحرس العقل والقلب، ونغذّي فينا نار الروح المطهرة، لأن الإغراءات الدنيوية تعود و"تقرع بابنا" بطريقة مهذبة، "إنهم "الشياطين المهذبون": يدخلون بأدب، بدون أن أتنبّه لذلك".
ولكن أريد أن أتوقّف عند جانب من جوانب روح العالم هذه. عندما تدخل في قلوب الرعاة، تأخذ شكلاً خاصًا، شكل الإكليروسية. سامحوني إذا كنت أعيد التأكيد على ذلك، ولكن ككهنة أعتقد أنكم تفهمونني، لأنكم أيضًا تشاركون ما تؤمنون به بطريقة صادقة، وفقًا لتلك السمة النموذجية الجميلة لأهل روما حيث يأتي صدق الشفاه من القلب، وله طعم القلب! وأنا، كمسنّ ومن القلب، أشعر أنّه عليَّ أن أقول لكم إنني أشعر بالقلق عندما نسقط في أشكال الإكليروسيّة؛ عندما، وربما دون أن نتنبّه، نعطي الناس انطباعًا بأننا متفوقون، ومتميزون، ومرتفعون، وبالتالي منفصلون عن باقي شعب الله المقدس. وكما كتب لي أحد الكهنة، "الإكليروسية هي أحد أعراض الحياة الكهنوتية والعلمانية التي تميل إلى العيش بالدور وليس في الرابط الحقيقي مع الله والإخوة". باختصار، هو يشير إلى مرض يفقدنا ذكرى المعمودية التي نلناها، ويترك في الخلفية انتمائنا إلى الشعب المقدس عينه ويقودنا لكي نعيش السلطة في أشكال مختلفة من النفوذ، بدون أن نتنبّه للازدواجية، وبدون تواضع. وإنما مع مواقف منفصلة ومتغطرسة.
لكي يهزّنا من هذه التجربة، سيفيدنا أن نصغي إلى ما يقوله النبي حزقيال للرعاة: "إنكم تأكلون الألبان وتلبسون الصوف وتذبحون السمين، لكنكم لا ترعون الخراف. الضعاف لم تقووها والمريضة لم تداووها والمكسورة لم تجبروها والشاردة لم تردوها والضالة لم تبحثوا عنها، وإنما تسلطتم عليها بقسوة وقهر". يتحدّث عن "الألبان" و"الصوف"، ما يغذي ويدفئ؛ لذلك فإن الخطر الذي تضعه الكلمة أمامنا هو تغذية أنفسنا ومصالحنا، وعيش حياة مريحة وهنيئة. بالتأكيد - كما يؤكد القديس أوغسطينوس - على الراعي أن يعيش أيضًا بفضل الدعم الذي يقدمه لبن قطيعه؛ ولكن يعلّق أسقف هيبون قائلاً: "ليأخذوا أيضًا اللبن من الخراف وليعيشوا هناك في بؤسهم. ولكن، لا ينبغي لهم أن يهملوا ضعف الخراف، أي لا يجب أن يسعوا في نشاطهم، إذا جاز التعبير، إلى تحقيق منفعتهم الخاصة ويعطوا الانطباع بأنهم يعلنون الإنجيل لكي يدبّروا أمورهم بشكل شخصي، وإنما عليهم أن يوزّعوا للآخرين نور كلام الحق الذي ينيرهم". وبالطريقة عينها، يتحدث أوغسطينوس عن الصوف الذي يربطه بالشرف: فهو، الذي يغطي الخراف، يمكنه أن يجعلنا نفكر في كل ما يمكننا أن نزين به أنفسنا من الخارج، من خلال البحث عن مدح البشر، والهيبة، والشهرة، والغنى. يكتب الأب اللاتيني العظيم: "إنَّ الذي يقدم الصوف يكرم. هذان هما المكسبان اللذان يبحث عنهما في الناس الرعاة الذين يرعون أنفسهم وليس الخراف: الموارد لكي يلبّوا احتياجاتهم الخاصة والاعتبارات الخاصة التي تقوم على الإكرام والتسبيح". عندما نهتم بالألبان فقط، نحن نفكر في مصالحنا الشخصية؛ وعندما نبحث بقلق شديد عن الصوف، نحن نفكر في العناية بصورتنا وزيادة نجاحنا. وهكذا تضيع الروح الكهنوتية، والغيرة للخدمة، والتوق إلى العناية بالشعب، وينتهي بنا الأمر بالتفكير وفقًا للحماقة الدنيوية: "ماذا يهمني؟ ليفعل كلُّ واحد ما يحلو له، إنَّ رزقي مضمون، وكذلك شرفي. لدي ما يكفي من الألبان والصوف. ليذهب كل واحد حيث يشاء".
يتركز الاهتمام إذن على الـ"أنا": على الرزق والاحتياجات الخاصة، والثناء الذي نناله لأنفسنا وليس لمجد الله. وهذا يحدث في حياة الذين ينزلقون في الإكليروسيّة: يفقدون روح التسبيح لأنهم فقدوا معنى النعمة، والدهشة للمجانيّة التي يحبهم الله بها، وبساطة القلب الواثقة التي تجعلهم يمدّون أيديهم إلى الرب، وينتظرون منه الطعام في الوقت المناسب، مُدركين أننا بدونه لا يمكننا أن نفعل شيئًا. عندما نعيش في هذه المجانية فقط يمكننا أن نعيش الخدمة والعلاقات الراعوية بروح الخدمة، وفقًا لكلمات يسوع: "أخذتم مجانا فمجانا أعطوا". نحن بحاجة إلى أن ننظر إلى يسوع، إلى الشفقة التي يرى بها بشريتنا الجريحة، وإلى المجانيّة التي قدم بها حياته من أجلنا على الصليب. هذا هو الترياق اليومي لروح العالم والإكليروسيّة: علينا أن ننظر إلى يسوع المصلوب، ونثبِّت أعيننا يوميًّا على الذي أخلى ذاته وتواضع من أجلنا حتى الموت. لقد قبل الإذلال لكي ينهضنا من سقوطاتنا ويحررنا من سلطة الشر. وهكذا، بالنظر إلى جراح يسوع، والنظر إليه مذللًا، نتعلم أننا مدعوون لكي نقدم أنفسنا، ونجعل منها خبزًا مكسورًا للجياع، ونشارك المسيرة مع المتعبين والمضطهدين. هذا هو الروح الكهنوتي: أن نجعل أنفسنا خدامًا لشعب الله لا أسيادًا، ونغسل أقدام إخوتنا ولا نسحقهم تحت أقدامنا.
لنبقى إذن متيقظين إزاء الإكليروسية؛ وليساعدنا على الابتعاد عنها، القديس بطرس الرسول الذي، كما يذكرنا التقليد، تواضع حتى في لحظة الموت واضعًا نفسه رأساً على عقب لكي لا يُساوى بربه. وليحفظنا منها القديس بولس الرسول، الذين من أجل المسيح، أعدَّ نفاية كل مكاسب الحياة والعالم. إنَّ الإكليروسية، كما نعلم، يمكنها أن تطال الجميع، حتى العلمانيين والعاملين الرعويين: في الواقع، يمكننا أن نأخذ "روحًا كهنوتية" في المضي قدمًا في الخدمات والمواهب، ونعيش دعوة بطريقة نخبوية، وننغلق في مجموعتنا الخاصة ونقيم الجدران نحو الخارج، ونطوِّر روابط تملك تجاه الأدوار في الجماعة، ونعزز مواقف الغرور والتعجرف تجاه الآخرين. والأعراض بالتحديد هي فقدان روح الثناء والمجانية الفرحة، بينما يتسلل الشيطان، ويؤجج الشكاوى، والسلبية، وعدم الرضا المزمن للأمور التي لا تسير كما يجب، ويصبح التهكّم سخرية. ولكننا بهذه الطريقة ننغمس في جو من الانتقاد والغضب السائد، بدلًا من أن نكون أولئك الذين، وببساطة ووداعة إنجيلية، وبلطف واحترام، يساعدون الإخوة والأخوات على الخروج من رمال التعصب المتحركة.
في هذا كلّه، في ضعفنا ونواقصنا، وكذلك في أزمة الإيمان التي نعيشها، لا نشعرنَّ بالإحباط! ويختتم دو لوباك بالقول إن الكنيسة "اليوم أيضًا، على الرغم من جميع عتماتنا [...] هي، مثل العذراء مريم، سر يسوع المسيح. لا يمكن لأي من خيانتنا أن تمنعها من أن تكون "كنيسة الله" و"أمة الرب". أيها الإخوة، هذا هو الرجاء الذي يعضد خطواتنا، ويخفف من أعبائنا، ويعطي زخماً جديداً لخدمتنا. لنشمر عن سواعدنا ونثني ركبنا (أنت الذين يمكنكم أن تفعلوا ذلك!) ولنصلِّ إلى الروح القدس من أجل بعضنا البعض، ونطلب منه أن يساعدنا لكي لا نسقط، في الحياة الشخصية كما في العمل الرعوي، في ذلك المظهر الديني المليء بأشياء كثيرة ولكنه فارغ من الله، لكي لا نكون موظفين للمقدسات، وإنما مبشرين شغوفين بالإنجيل، ولا "إكليروس دولة"، بل رعاة للشعب. نحن بحاجة إلى ارتداد شخصي ورعوي. وكما أكد الأب كونغار، فإن الأمر لا يتعلّق بعيش اتباع صالح للوصايا أو بالقيام بإصلاح الاحتفالات الخارجية، وإنما بالعودة إلى المصادر الإنجيلية، واكتشاف طاقات نضرة من أجل التغلب على العادات، وإدخال روح جديدة في المؤسسات الكنسية القديمة، لكي لا نكون كنيسة "غنية بسلطتها وضماناتها، ولكنها رديئة على الصعيد الرسولي والإنجيلي".
شكرًا لكم على الاستقبال الذي ستحفظونه لكلماتي هذه، من خلال التأمل فيها في الصلاة وأمام يسوع في العبادة اليومية؛ يمكنني أن أقول لكم إنها تأتي من القلب ومن المودة التي أحملها لكم. لنسر قدمًا بحماس وشجاعة: لنعمل معًا، بين الكهنة ومع الإخوة والأخوات العلمانيين، من خلال إطلاق أشكال ومسارات سينودسيّة تساعدنا لكي نتجرّد من ضماناتنا الدنيوية و"الإكليروسيّة" لكي نبحث بتواضع عن دروب رعوية مستوحات من الروح القدس، لكي تصل تعزية الرب حقًا إلى الجميع. أمام صورة العذراء مريم Salus Populi Romani صليت من أجلكم. وطلبت من العذراء مريم أن تحفظكم وتحميكم، وتجفف دموعكم السرية، وأن تحيي فيكم مجدّدًا فرح الخدمة وتجعلكم كلَّ يوم رعاة شغوفين بيسوع، مستعدين لكي تقدّموا حياتكم بدون مقياس محبّةً به. شكرًا لكم على ما تقومون به وعلى ما أنتم عليه. أبارككم وأرافقكم في الصلاة. وأنتم من فضلكم لا تنسوا أن تصلّوا من أجلي.