موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
إن عدم تجانس والتنوع هما من الخصائص الأساسية للمجتمع الحديث الذي لم يعد المجتمع الإثني أو الديني البحت.
لقد انقضى زمن المجتمع المغلق المتجانس وحل مكانه المجتمع المتعدد الجنسيات والأعراق والثقافات واللغات. انه مجتمع متنوع في كل ابعاده، صاغته الغزوات، والهجرات، والعولمة، وحاجات الاستثمارات للشركات المتعددة الجنسيات، وفروقات مستويات الحياة، وطموحات الشعوب، والتحولات بين الاجيال. انه نتيجة حراك ذو دينامية هائلة بدأ مع الثورة الصناعية وما زال متفاعلاً ليومنا هذا وبزخم يزداد بوتيرة متصاعدة بالتوازي مع التقدم التكنولوجي والعلوم الحديثة.
في خضم هذه التحولات، يلعب التواصل والاعلام الدور الأساسي ويعتبر اللاعب الأقوى لقدرته على التأثير على العقول، اكان على المستوى الفردي او المستوى الجماعي، وهو يثبت خطورته يوما بعد يوم مع التنوع والابداع والابتكار الذين يتحلى بهم هذا القطاع.
من جهة أخرى، تميل الطبيعة البشرية نحو التشابه، حسب مقولة "ان الطيور على اشكالها تقع"، وينزع الناس إلى التجمع على أساس الصلات او الصفات المشتركة، ويفضلون التجانس على الاختلاف، ويتجمعون بشكل عفوي لان ذلك أسهل وأكثر مباشرة، وليس ادل على ذلك من نمط تجمع الناس في اللقاءات العامة.
التشابه والتجانس يسهلان خلق روح العمل الجماعي وتقوية الروابط ويجعلان الانتساب القائم بشكل أساسي على العناصر المشتركة عفويا وسهلا. كل ذلك يؤدي الى العصب بين افراد الجماعات الذي يقوم الى التلاحم والتعاضد.
على ضوء هذا الواقع من البديهي ان يسري منطق التنميط بين مختلف الجماعات التي تكون المجتمع، وان تنتشر النمطية بشكل واسع.
ان النمطية ليست شأنا مستجدا في الثقافة الإنسانية، ولا في ثقافتنا، اذ نجدها في القصص وكتب الادب، والتراث الشعبي اللبناني يزخر بالصور النمطية مثل تلك المتواجدة بين القرى وبين الجماعات الدينية والجماعات المهنية والطبقات الاجتماعية.
التنميط هو عبارة عن فكرة، رأي جاهز، مقبول دون تفكير ومتكرر دون أن يخضع لفحص نقدي، من قبل شخص أو مجموعة، ويحدد، بدرجات متفاوتة طرق الانسان في التفكير والشعور والتصرف عبر اعطاءه صورا مسبقة عن جماعة ما او امر ما.
التنميط يختلف عن التصنيف العلمي بمعنى انه ليس مبنيا على دراسة علمية او إحصائية او مراقبة ميدانية، بل على املاءات تأتي من الجماعة حول جماعة ما او امر ما، وهو أقوى من التجربة الشخصية التي نحورها أحيانا من اجل جعلها مطابقة للأفكار النمطية.
اما أخطر مجالات التنميط فتكمن في العنصرية، حيث تحتوي الصورة النمطية اولاً، على بعد الاقتصاد في التفكير او تجنب التفكير، أي قبول الأفكار النمطية كما هي من دون مراجعة او نقد، وثانياً، التبرير، كأن أحكم على بعض الجماعات بصفات معينة، لأنني، على النقيض من ذلك، أعرّف نفسي بأنني اتمتع بعكسها.
التنميط يتعلق بكل أبعاد الحياة وهو الأقوى والأكثر خطورة وفتكاً على الصعيدين الإثني والديني نظرا للنتائج الكارثية التي يمكن ان يجلبها للمجتمع.
ويتلازم التنميط مع فعل الحكم المسبق الذي يشير إلى تقييم غير مبني على التفكير، وهو موقف يتضمن بُعدًا تقييميًا يتعلق بفئة اجتماعية معينة من قبل فئة أخرى. يمكن للأفكار – او الاحكام - المسبقة أن تكون، مثل القوالب النمطية، سلبية أو إيجابية.
يشكل الجهل عنصر الخطورة هنا لان الشخص المتحيز يحكم على الاخر حتى لو لم يعرفه او يراه، اذ بدلاً من استخدام التجربة الشخصية أو المعلومات الموضوعية والتي دُرست بعمق، يستخدم الانسان الصور النمطية لتكوين رأي دون التشكيك فيها وذلك لسهولتها. نتيجة لذلك، تتغذى الأفكار المسبقة على القوالب النمطية وهنا تكمن الخطورة الكبرى.
وقد تشكل النمطية والأفكار المسبقة سببا لنشر التعصب بين الفئات التي تكون المشهد المجتمعي.
التعصب هو نوع من الشغف يتمتع به الشخص الذي يدافع بشكل مفرط عن معتقداته وآرائه وذلك في جوانب مختلفة من الحياة.
التعصب هو دعم غير مشروط لفكرة ما او لقضية ما، وتكمن المشكلة في ان العماية الناتجة عن هذا الشغف قد تقود المتعصب أحيانًا إلى التصرف بطريقة عنيفة، غير عقلانية والغائية احياناً، وذلك بقناعة منه بأن فكرته هي الأفضل والوحيدة المنطقية، لذلك هو يستخف بآراء الآخرين. وقد يعتبر وجودهم غير ذو منفعة، لا بل مضر لما يؤمن به او يصبو اليه.
ويظهر التعصب في المجال الديني والعرقي والعقائدي، حيث يجد الناس أن هويتهم او معتقداتهم هي الوحيدة الصالحة ويلاحقون ويعاقبون أولئك الذين ليسوا من هويتهم ولا يؤمنون بنفس الطريقة.
قد يتجاوز التعصب احتياجات تأمين مصالح الجماعة العصبية العادية والمباشرة الى حاجة السيطرة على المحيط بما فيه باقي الجماعات، مما قد يكون سببا في النزعة الالغائية التي قد تسيطر على الجماعات المتعصبة المتسلحة بالنمطية والأفكار المسبقة التي تشكل القاعدة او تخلق هوية جماعية متصلبة، لها قيمها وثقافتها ومعاييرها.
اما عندما يشتد التعصب، فانه قد يخلق دينامياته الخاصة، ويعمي بصيرة الجماعة، ويتجاهل مصالحها ويقودها الى التهلكة مما ينعكس سلبا على المجتمع برمته وتتحول الازمة من ازمة جماعة الى ازمة مجتمع، خصوصا انه في الكثير من الحالات، تصبح الهوية الاثنية او العرقية او الدينية أقوى من الهوية الوطنية، فتدمرها وهذا يمثل خطرًا حقيقيًا على السلام الاجتماعي والسياسي.
لا بد لنا في هذه المرحلة من التحليل التوقف امام الأصوليات والتطرف الذي قد ينتج عنها.
الأصولية هي منطق يدعو إلى الاحترام الكامل لعقيدة ما، بكل مندرجاتها، والتطرف هو السلوك المنحرف عن السلوك الاجتماعي العادي، وهو مقاربة راديكالية في رؤية العالم وخطة لتغييره.
كلاهما، في معظم الحالات، منبع للعنف وقد يؤديان الى الأعمال الإرهابية. انهما يشكلان أيضا تهديدا للسلم الاهلي والاستقرار الاجتماعي.
تصوروا امام مشهد الوقود هذا الذي عرضناه أعلاه، ما يمكن ان يعمل الاعلام إذا تحول نارا!
الاعلام، أداة المعرفة والتوعية الفضلى، يمكن ان تتحول بين ايدي أناس فاقدي الحكمة او الاخلاق، الى أداة للتفجير الاجتماعي.
تصوروا كم ان الاعلام قادر على بناء الصور النمطية والاحكام المسبقة واثارة النعرات التعصبية والتطرف والاصولية وعدم القبول بالتنوع والفروقات بين الناس. تصوروا كم ان مهمتكم صعبة وخطيرة أيها الاعلاميون ان توصلوا الفكرة او المعلومة وان تكونوا رسل سلم اهلي يحتاجه كل مجتمع من اجل نموه وتقدمه.
الخطورة تكمن ليس فقط فيما يقال، بل فيما لا يقال والذي من الممكن ان يدخل اللاوعي الجماعي ويؤثر على عقول ونفوس العامة.
لحسن الحظ، وبحكم التطور أيضا، انه، إذا كان في الاعلام شرعة مكتوبة، فان هناك شرعاً عديدة غير مكتوبة، بل محفورة في قيم واخلاق الإعلاميين، توجه تصرفاتهم وترفع سوية احترافهم وتعطي لرسالتهم المعرفية قدسيتها تجاه المجتمع والتاريخ.
قليلون هم جدا من دخلوا اللعبة الخطرة، لعبة الدس واللعب على النمطيات والعصبيات والمشاعر الهدامة، وهم قلة قد لفظتهم وتلفظهم كل يوم الأكثرية الساحقة من رسل المعرفة الذين نسميهم، ويسمون أنفسهم بكل فخر، الاعلاميون.