موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

الرئيسية /
روح وحياة
نشر السبت، ٣٠ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٣
هل حقّا شرّع قداسة البابا ومجمع عقيدة الإيمان زواج المثليّين؟

الأب مجدي هاشول :

 

مقدّمة:

 

صحف ومواقع كثيرة في إيطاليا والعالم نشرت عن إعلان لقداسة البابا فرنسيس بما يخصّ العلاقات المثليّة، ومنهما من نَسبَ له أو لمجمع عقيدة الإيمان تشريع العلاقات المثليّة في الكنيسة أو مباركتها كنسيًّا أو مدنيًّا. فما مدى صحّة هذا؟ وماذا حقًّا قال قداسته والمجمع المقدّس لعقيدة الإيمان بهذا الخصوص؟

 

 

نبذة مختصرة:

 

تناول الإعلان موقف الكنيسة من المثليّين الّذين يطلبون منها البركة ليتقرّبوا من الله ويعيشوا وفق إرادته وقيم الإنجيل. من الجانب الأوّل. إنّ الكنيسة هي أُمّ تستقبل بمراحم الله غير المحدودة كل إنسان وترافقه على طريق الكمال، وهي أداة في سبيل خلاص كلّ إنسان، أيّ إنسان، ومن جانب آخر الكنيسة هي مُعلّمة وليس من صلاحيّتها أن تنقض تعليم الكتاب المقدّس والتّقليد الكنسي بما يخصّ ممارسة المثليّة، فهي لا تُشرّع زواج المثليّين كنسيًّا ولا تقبل بمباركته لا بإطار كنسي ولا بإطار عقد مدني أو ما يليه من احتفالات، ولكنّها تسمح بإعطاء بركة "عفويّة"، "غير ليتورجيّة"، و"غير اعتياديّة" لأشخاص مثليّين لتعينهم على السّير صوب عيش أعمق لإرادة الله لحياتهم، وليتحرّروا من أي قيد يحول دون ذلك. الكنيسة لا تُعطي "بركة اتّحاد" أو ما يشرّع ذلك. يُعطي الاعلان المكوّن من 45 فقرة شرحًا وافيًا للموضوع ويُبيّن مفهوم البركات، العامّة واللّيتورجيّة، والبركات الصّاعدة، النّازلة والممتدّة، ويشرح عن البركات المشروطة وغير المشروطة، وعن هدف البركة الالهية، ومن ثمّ يبت بطريقة التّعامل الرّعويّة المطلوبة تجاه المثليّين، والمبادئ الإنجيليّة الموجّهة لها.

 

 

"إعلان" مجمع عقيدة الإيمان بعد موافقة الأب الأقدس:

 

صدر في تاريخ 18 كانون الأوّل 2023، إعلان عن مجمع عقيدة الإيمان، بعنوان "طلب الثّقة" ("Fiducia supplicans") حول المعنى الرّعوي ل "البركات" في الكنيسة وتطرّق بشكل خاص لموضوع المثليّين. حصل هذا بعد طلب قد قُدِّم لقداسة البابا فرنسيس ولمجمع عقيدة الإيمان عن موضوع المثليّين الّذين يطلبون نوال سرّ الزّواج في إطار الكنيسة، أو يطلبون بركة زواج، وكيف ينبغي التّعامل مع هذه الظّاهرة كنسيًّا. ويأتي هذا في ظلّ ما نشهده من تزايد لظاهرة المثليّة في بلدان كثيرة والحديث عنها في العديد من وسائل التّواصل الاجتماعي وفي المؤسّسات التربويّة والتّعليميّة على أنواعها.

 

 

من الجذور وحتّى إعلان "Fiducia supplicans":

 

إنّ كتاب التّعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة (تع.) يُعطي تعليمًا واضحًا عن موضوع المثليّة الجنسيّة، بناءً على ما يرد في الكتاب المُقدّس في عهده القديم (مثلًا تك 19، 1 - 29) أو في العهد الجديد (مثلًا في رو 1، 24 – 27; 1 كور 6، 9 - 10; 1 تيم 1، 10) وكما يرد تباعًا في التّقليد الكنسي. فمن جانب توصي الكنيسة بالتّعامل مع الأشخاص المثليّين بتقبّل، باحترام ولطف، وبعدم التّمييز الظّالم ضدّهم (تع. بند 2358) وتُعلن بأنّ الله يدعوهم هم أيضًا إلى القداسة والنّمو بالفضيلة بمعونة النّعمة الإلهيّة والاسراريّة (تع. بند 2359)، ومن جانب آخر هي تعلن بتماشٍ مع الكتاب المقدّس والتّقليد المقدّس بأنّ الممارسة المثليّة بذاتها هي بمثابة فساد خطير (تع. بند 2357). ولقد تطرّق مجمع عقيدة الإيمان لمسألة المثليّين ومفهوم "مباركتهم" في جواب (Responsum) قدّمه في تاريخ 22 شباط 2021 (عنوانه بالإيطاليّة: Congregatio pro Doctrina Fidei, «Responsum» ad «dubium» de benedictione unionem personarum eiusdem sexus et Nota esplicativa.). مع ذلك ظهرت الحاجة إلى إعلان (Dichiarazione) رسمي، دقيق وشامل عنه. من هنا كرّس المجمع جهدًا ووقتًا ليدرس الموضوع مليًّا، وبعد حوارات عميقة وتشاورات مع الأب الأقدس، وبانسجام مع الكتاب المقدّس وعقيدة الكنيسة الثّابتة، أتى هذا الإعلان في مدخل و45 بندًا، لا ليُشرّع مباركة زواج المثليّين كنسيًّا أو مدنيًّا بل ليتكلّم عن البركة غير اللّيتورجيّة القادرة أن تقود من يطلبها بروح تواضع وتوبة إلى المزيد من القرب من الله والعمل بمشيئته.

 

 

رسالة الكنيسة – أريد رحمة لا ذبيحة:

 

الكنيسة ترى ذاتها مؤتمنة على تعليم المسيح وانجيله، خادمة لكلمة الله وليست فوقها، تصغي لها وتستقي من الوديعة الإيمانيّة وما هو من وحي الله لتعرضه بأمانة (تع. بند 86) والإنجيل يعلّمنا أنّ الله محبّة، وأنّه الرّاعي الصّالح الّذي يبحث عن الخروف الضّال وهو الأب الرّحيم الّذي يرحم الخطأة  وهو يدعونا إلى التّعامل مع المختلف بمحبّة وغفران وقبول وانفتاح، خصوصًا وأنّ الله أحبّنا ونحن ما زلنا في خطايانا (روما 5، 8)، وأنّ رحمته الإلهيّة أعظم من أيّ استحقاق بشريّ ممكن وهذه الرّحمة المجّانيّة وغير المحدودة هي أكبر بلا قياس من أي خطيئة ممكن أن تصدر عن إنسان محدود. من جانب آخر يكلّمنا الانجيل عن الخطيئة وقدرتها المدمّرة للنّفس والقادرة على زجّ الانسان في الظّلام وجعله عبدًا لها (يو 8، 34) ومنعه من تحقيق ملء الحياة، وهو يُعدّد هذه الخطايا ومنها الممارسة المثليّة. الكنيسة تؤمن أيضًا أنّها مُرسلة من المسيح لتكون أداة خلاص لكُل إنسان (تع. بند 776 وما يتبع ) وأنّها أمّ ومعلّمة، ويقع عليها العمل على خلاص كلّ إنسان، ومرافقة القريب والبعيد في مسيرة التّلمذة، كما فعل الرّب يسوع مع تلميذي عمواس (لوقا 24)، ليَبلغ كلّ إنسان إلى معرفة الحقّ وإلى غاية خلاصه، أيّ الاتّحاد بالله مُحب البشر. الكنيسة لا تُقتصر على الكاملين والقدّيسين، بل في حضنها نجد القدّيس والخاطئ، وهي تتقوّى بالمسيح ونعمته لتبلغ به القداسة، في روح المحبّة.

 

 

القسم الأوّل – البركات، أنواعها أبعادها، شروطها وهدفها

 

1. شرح مفهوم البركات العامّة (غير اللّيتورجيّة): شَرَح الإعلان أنّ "البركات" تتوجّه لحياة الناس في أبعاد كثيرة: بركات في العبادة; بركات عبر الأيقونات; بركات لأماكن الحياة ولأماكن العمل; بركات عند المرض والمعاناة; وبركات لثمار الأرض وسواها، والانسان بدوره يبارك الله ويحمده على عطاياه. والبركة تهدف قبل كل شيء إلى تمجيد الله على عطاياه، وطلب نعمه وعون منه، وهزيمة قوة الشرير في العالم. البركات لا تتطلّب من الإنسان أن يكون كاملًا لينالها، وهي تقودنا إلى فهم حضور الله في جميع أحداث حياتنا وتذكرنا أنّنا مدعوّون إلى البحث عن الله ومحبته وخدمته بأمانة (راجع بنود الاعلان 8 - 9). البركات العامّة هي بركات "بسيطة" تكون خارج إطار اللّيتورجيّة الكنسيّة.

 

2. شرح مفهوم البركات اللّيتورجيّة: شرح الإعلان مفهوم البركة اللّيتورجيّة (بركة خاصّة في إطار طقسي)، وهي بخلاف البركة العامّة البسيطة، تتمّ في الطّقوس اللّيتورجيّة وعليها أن تتوافق مع إرادة الله المعبّر عنها في تعاليم الكنيسة، ولا تستطيع الكنيسة أن تبارك مقصدًا أو مسعى يخالف عقيدتها، بل تهدف البركة إلى دفع المؤمنين إلى تكثيف استعداداتهم لعيش الانجيل، والسماح لأنفسهم بأن يقودهم هذا الإيمان، الذي به كل شيء ممكن، إلى حالة أكمل وإلى تنمية الثقة في "تلك المحبة التي تدفعنا إلى حفظ وصايا الله"، والكنيسة قد اعتبرت دائمَا أنّ العلاقات الجنسية المشروعة أخلاقيًا هي التي تتم فقط في إطار الزواج بين رجل وامرأة (راجع بنود 9 - 11).

 

3. "شروط" تلقّي بركة غير ليتورجيّة: يتابع الإعلان أنّ علينا أن نتجنّب خطر اختزال معنى البركات، الّذي قد يجعلنا نطالب مقابل بركة عامّة بسيطة (غير ليتورجيّة)، بنفس الشروط الأخلاقية المطلوبة لتلقي الأسرار، وهذه المتطلّبات الأخلاقيّة قد تكون بدعوى السّيطرة، وبشكل يطغي على قوّة محبّة الله غير المشروطة التي يقوم عليها عمل البركة. لذلك يحثّ البابا فرنسيس "ألا نفقد المحبة الرعوية التي يجب أن تتخلل جميع قراراتنا ومواقفنا" و "ألّا نكون قضاة ينكرون ويرفضون ويستبعدون" الآخرين، بل أن نتحلّى بفهم واسع للبركات والّتي نراها منتشرة في طيّ الكتاب.

 

4. أبعاد البركات:

 

البركة الكهنوتيّة - النّازلة: نقرأ في الكتاب المقدّس، في سفر العدد «يباركك الرّب ويحفظك، يضئ الرّب بوجهه عليك ويترأف بك، يحوّل الرب وجهه عليك ويمنحك السلام" (عد 6، 24 - 26)، وهي نموذج للبركة الكهنوتيّة الّتي لها طابع "تنازلي" فهي تمثل استدعاء البركة النازلة من الله على الإنسان، ونجد المسيح في حياته على الأرض يبارك الأطفال: «وأخذهم على ذراعيه وباركهم ووضع يديه عليهم» (مر 10، 16) وثمّ يبارك الرّسل الأحد عشر «ورفع يديه وباركهم. وفيما هو يباركهم، انفصل عنهم، وأصعد إلى السماء" (لو 24، 50-51).

 

البركة الصّاعدة: نقرأ في الكتاب المقدّس، عن البركة الّتي "ترتفع" من الأرض إلى السماء نحو الله، مثل التّسبيح والشّكر لله على رحمته وأمانته وعجائبه وعظائمه، كما نقرأ "باركي يا نفسي الرب، وليبارك كل ما فيّ اسمه القدوس" (مز 103، 1)، كما ونستجيب بالبركة على الله الّذي يباركنا، فنجد زكريا، بعد أن استعاد القدرة على الكلام، بارك الرب على أعماله العجيبة (لوقا 1، 64) وسمعان الشيخ، وهو يحمل المولود الجديد يسوع بين ذراعيه، يبارك الله لأنه منحه نعمة رؤية المسيح المخلص، وبالتالي يبارك الوالدين مريم ويوسف (راجع لوقا 2، 34).

 

البركة الممتدّة - الأفقيّة: نجد في الكتاب المقدّس البركة الأفقيّة، الممتدّة لبعضنا البعض، فملكي صادق ملك ساليم، يبارك إبراهيم (راجع تك 14، 19)؛ رفقة تُبارَك قبل عرسها من اسحق (تك 24، 60) وهي تبارك بدورها ابنها يعقوب (27، 27) ويعقوب يبارك فرعون (تك 47، 10)، ونجد بركات عديد من أرباب العائلات لأبنائهم في الأعراس وليس فقط من الكهنة، وبركات قبل الانطلاق لسفر وعند اقتراب الموت (راجع سفر طوبيا)، وهي بركات غير مشروطة، بل هبة غزيرة من الله معطيها، وتعبر من شخص إلى آخر.

من هنا نجد في الكتاب المقدّس ثلاثة أنواع: 1. العطية الإلهية التي "تنزل"; 2. شكر الإنسان الذي "يصعد"، و 3. البركة التي يمنحها الإنسان الذي "يمتد" نحو إخوته البشر.

 

5. هدف البركة: يتابع الإعلان أنّ الله المُحب ينقل لكنيسته من خلال المسيح، قوة البركة، وهذه البركة تأخذ طابع الشّمول والتّضامن والتّهدئة، وهي ذات رسالة ايجابيّة لبثّ الرّاحة والرّعاية والتّشجيع، فهي تعبّر عن حضن الله الرحيم وأمومة الكنيسة التي تدعو المؤمنين إلى أن يكون لديهم نفس مشاعر الله تجاه إخوتهم وأخواتهم. من الجدير ذكره أنّ آخر صورة ليسوع الحبيب على الأرض هي رفع يديه في فعل إعطاء البركة (راجع بنود 18 - 20).

 

6. كتاب البركات – شموليّة ومجّانيّة: يُقدّم "كتاب البركات" الرّسمي للكنيسة، طقوسًا عديدةً لمباركة النّاس، بما في ذلك كبار السّن والمرضى والحجّاج، والمسافرين، والمجموعات والجمعيّات التطوعيّة، وموضوع البركة هو الشّخص ذاته، بها نشكر الله على ما قدّمه الشّخص أو ناله من خير. وهنا مهم النّظر أنّ كلّ شخص، مهما كان يعيش في مواقف لا تتوافق مع خطة الخالق، لكنّه يمتلك عناصر إيجابيّة يمكننا أن نحمد الرّب عليها، والإنسان ولو كان في حالة خطيئة ثقيلة وفي مواقف خاطئة، لكن هذا لا يمنعه من أن يقدّم لله صلاة شكر أو تسبحه أو امتنان.

 

 

القسم الثّاني: المثليّون

 

1. المثليّون الّذين يطلبون البركة: من يطلب البركة من الله، يعترف من جانب أنّه بحاجة إلى حضور الله الخلاصي في تاريخه، ومن يطلب البركة من الكنيسة فهو يعترف بأنها أداة الخلاص الذي يقدّمه الله للإنسان، وبركتها تهدف لتُقَوّه ليمضِ قِدَمًا ويحيا بشكل أفضل ويستجيب أكثر لإرادة الرّب. هذا الطّلب هو نداء مساعدة واثقة بعمل الله عبر الكنيسة، ويجب بأي حال من الأحوال، تقدير هذا الطلب ومرافقته واستقباله بامتنان. من يأت عفويًّا ليطلب البركة يُظهر بذلك انفتاحه الصّادق على السّمو الإلهي، وثقته بالله وحاجته إليه، وعلى عدم انغلاقه على قوّته الذّاتيّة وقيوده بل على رغبته بالالتجاء لمراحم الله (راجع 20 – 22). تقول القدّيسة تريزا الطّفل يسوع عن الثّقة بالله أنّه «ليس هناك طريق آخر يجب اتباعه للانقياد إلى المحبة التي تعطي كل شيء. بالثقة، يفيض مصدر النعمة إلى حياتنا.. إن الموقف الأنسب هو أن نضع ثقة القلب خارج أنفسنا: في الرحمة اللامتناهية لله الذي يحب بلا حدود [...]. إن خطيئة العالم هائلة، لكنها ليست لا نهائية. بل إن محبّة الفادي الرّحيمة، نعم، لامتناهية” ومن هنا يدعو الإعلان للمزيد من الحّرّيّة والعفويّة في الأطر الخارجة عن اللّيتورجيّة، بشكل يقدّر، بصحّة وحكمة، ثروات التّقوى الشّعبيّة الكثيرة وامكاناتها، ببساطتها وأسلوبها ولغتها ولهجتها وإيقاعها (راجع بنود 20 - 22).

 

2. تطبيق رعوي سخيّ وفطن: يوجّه الإعلان الكنيسة إلى المزيد من السّخاء الرّعوي، الّذي لا يذهب ليقوم بتحليل أخلاقي شامل للآخر كشرط لمنح بركة غير ليتورجيّة، مع الحرص على عدم خلق مفهوم خاطئ للزّواج المسيحي، بل سخاء رعوي كفيل بتهيئة قلب الإنسان ليسمح لله بأن يغيّره. نحن أهم عند الآب من كل الخطايا التي يمكن أن نرتكبها، فهو الحُب النّقي، هو الأب والأم والحنون والعطوف، ويريد أن يصل لكلّ إنسان، في السّجون وفي مؤسّسات إعادة التّأهيل، وللأشخاص العالقين في الخطايا الثّقيلة، ومن يعتبرون أنّهم غير قادرين على الشّفاء. علينا أن ندع محبّة الله تنسكب على قلوبهم، وأن يعلموا يقينًا أنّ الله يريد لهم الخير والخلاص (راجع بنود 23 - 27).

 

3. البركات غير الاعتياديّة للمثليّين: على ضوء ما كُتب في موضوع شموليّة البركة غير اللّيتورجيّة، هذه الشّموليّة تطال أيضًا من هم في حالة الخطيئة الثّقيلة وأصحاب الموقف غير الموافق للأخلاق المسيحيّة وذوي الحالات غير المنتظمة وكذلك للمثليّين، ومن هنا ممكن إعطاء بركة غير اعتياديّة للّذين يشعرون بعوز وحاجة، إمّا لإعطاء بركة تصاعديّة لله أو اكتساب بركة - نعمة تنازليّة من الله، بحيث أنّهم "لا يطالبون بشرعية مكانتهم الخاصة"، ولكنهم "يتوسلون أن يتم إثراء كل ما هو حقيقي وصالح ونافع إنسانيًا في حياتهم وعلاقاتهم، وشفاءه، ورفعه بحضور الروح القدس"، معترفين بكلّ تواضع أنّهم ليسوا أبرارًا بل خطأة، مثل أيّ شخص آخر، فجميعنا خطأة. في هذه الحالة تكون البركة بمثابة توسّل لكي يمنح الله المعونات التي تأتي من نبضات روحه (أي "النّعمة الفعليّة") حتى تنضج العلاقات البشريّة وتنمو في الأمانة للإنجيل، ويتحرّروا من عيوبهم وضعفهم، ويستزيدوا بالتّعبير بعمق أكبر عن الحبّ الإلهي. بوسع النّعمة أن توجّه كل شيء وفقًا لمخطّطات الله الغامضة وغير المتوقّعة، وأن تمكّنهم من فهم أعمق لإرادة الله وتحقيقها فيهم (راجع بنود 28 – 32).

 

4. البابا لم يُعلن تشريع زواج للمثليّين لا كنسيًّا ولا مدنيًّا: الإعلان يُذكّر أنّ الزّواج في العقيدة الكاثوليكيّة الدّائمة هو "اتحادًا حصريًا وثابتًا وغير قابل للحلّ بين رجل وامرأة، ومنفتح بشكل طبيعي على إنجاب الأطفال"، وفقط في هذا السياق تجد العلاقات الجنسيّة معناها الطّبيعي والكافي والإنساني الكامل، وعقيدة الكنيسة في هذا تبقى ثابتة لا تتغيّر (resta ferma) وكل طقس ممكن أن يتعارض مع العقيدة أو يؤدّي إلى ارتباك بصفوف الشّعب، يجب تجنّبه، كما ورد أيضًا في جواب المجمع عام 2021. الزّواج المسيحي في الكنيسة هو سرّ مقدّس، يباركه خادم السّر المرسوم في إطار طقس ليتورجيّ خاص (إكليل)، ومن خواصه أنّه يتّصف بالدّيمومة ف "لا يفرّقهما سوى الموت"، أمّا عَقد ما يُسمّى ب "زواج" مدني بين اثنين، فهو أوّلًا "عقد" أي اتّفاقيّة وهو قابل للحَلّ (الإبطال) وهو ليس عهد دائم، ومن جانب آخر هو ذات صبغة مدنيّة بحت وليس كنسيّة، ولا يوجد فيه نعمة السّر. الاعلان لا يدعو هذا الاتّحاد باسم "زواج"، وهو أيضًا يمنع خادم السّر (الشّمّاس أو الكاهن أو الأسقف) بالقيام ببركة للمثليّين في إطار عقد مدني أو في إطار احتفال يليه أو فيما قد يُفهم أنّه تشريعٌ للعلاقة المثليّة ذاتها.

 

5. تعليمات في التّطبيق الرّعوي: يقول قداسته أنّ قرارات معيّنة في ظروف معيّنة تتبع الفطنة الرّعويّة، ولا يتطلّب حصرًا قاعدة (norma) لكلّ ظرف. لا ينبغي ولا يمكن أيضًا أن يحيط القانون الكنسي بكلّ شيء، ولا من المناسب أن يكون تفعيل مستمر لإجراءات وطقوس لكل القضايا، ممّا قد يؤدّي لفتاوى لا تُطاق. من المهم عدم خلط البركة بأيّ طقوس عقد مدني ولو كانت خارج طقوس اللّيتورجيّة، ولا أن تمتّ أبدًا بصلة بالملابس أو الإيماءات أو الكلمات المعتادة في حفل الزفاف، لا في حالة زواج غير منتظم ولا عندما يتم طلب البركة من قبل زوجين من نفس الجنس. ممكن رفع بركة الشّفاعة والتّوسّل بسياق آخر، مع الحرص على تجنب أي شكل من أشكال الارتباك أو الفضيحة، وهذا قد يكون في لقاء مع الكاهن، صلاة جماعيّة، رحلة حج، زيارة كنيسة، وبهدف استدعاء الرّوح القدس ليفتح حياة الشّخص على الله ويمكّنه من عيش الانجيل بأمانة أكبر (35 – 41).

 

6. بركة بسيطة ومجّانيّة وعفويّة: الله لا يَرُدّ من يلجأ إليه، وطلب البركة هذا هو "بذرة الرّوح القدس الّتي يجب رعايتها لا إعاقتها"، والكنيسة في ليتورجيّتها تدعونا لاتّخاذ موقف الثقة هذا، حتى في خضم خطايانا وقلة استحقاقاتنا وضعفنا وارتباكنا، كما نقول «أيها الإله القدير الأبدي، يا من تقبل صلاة شعبك فوق كل رغبة وكل استحقاق، أسكب علينا رحمتك، اغفر ما يخشاه الضمير، وأضف ما لا تجرؤ على أن تتمنّاه الصلاة" (الأحد السابع والعشرون من الزمن العادي)، نعم بركة بسيطة ومجّانيّة من الرّاعي دون أن يُقرّ أو يضفي شرعيّة على شيء، قد تجعل النّاس تختبر قرب الآب "فوق كل رغبة – desiderio وكل استحقاق - merito". لفتة كهذه لبركة تلقائيّة لمن يطلب، تزيد من ثقتهم في الله دون أن تتحوّل لخطأ ليتورجي جسيم (33-34).

 

 

ختامًا: الكنيسة هي أمّ وعلامة محبّة الله غير المتناهية

 

أمام من يعانون في عواصف العالم، مثل بطرس عندما بكى وقال ليسوع: «يا رب نجني!» (متى 14، 30)، هناك رسالة أشدّ الحاحًا للكنيسة  في بثّ المحبّة الإلهيّة الخلاصيّة والمجّانيّة. من يكابدون صعوبات بالغة، قد تكون خطوة صغيرة منهم ذات قيمة أكبر بكثير من الّذين يحيون ظاهريًّا حياةً صحيحةً دون أن يواجهوا صعوباتٍ كبيرة! العالم يحتاج إلى البركة، وممكن لنا أن نستقبلها ونعطيها وعلينا أن نتعلّم من الله أن نبارك، فيشعر الجميع أنّهم محبوبون ومباركون! من هنا علينا أن نكون رحومين ومنفتحين ومتقبّلين، لا لكي نُصادق على مادّة يعتبرها الكتاب المقدّس موضوعيًّا خطيئةً في ذاتها، بل لنُسهّل على الرّازحين تحتها طريق الوصول إلى الله الحنون الرّحوم ومُحبّ البشر. الله محبّة فلنحيا في المحبّة والحقيقة. آمين.